عماد يحيى عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 8267 - 2025 / 2 / 28 - 17:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في تقرير أعدته منظمة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) يعود إلى شهر تشرين الثاني من عام 2007، تقصى وضع حقوق الانسان ومدى توفر الديمقراطية في أكثر من 75 دولة حول العالم، خلص إلى القول: (إن الطغاة صاروا يؤمنون بأن الطريق إلى الشرعية يمر باعتماد الديمقراطية، وثمة مبادئ مشتراة يتم الشعور بها على مستوى عميق، بالمبدأ القائل بأن السيادة للشعب وأن السلطة هي في نهاية المطاف سلطتهم. لكن التقدم على هذا الطريق هش، ويعتمد معناه على التزام النظم الديمقراطية الراسخة القائمة في العالم بدفعه للأمام. إذا هي قبلت أي طاغية يقدم مسرحية هزلية للانتخابات، وإذا قبلوا بأن يتبع التزامهم بالديمقراطية في سعيهم إلى الموارد والفرص التجارية والرؤى قصيرة الأجل بالأمن؛ فسوف ينتقصون من قيمة عملة الديمقراطية. وإذا أمكن للطغاة النجاح في أن ينعتوا أنفسهم "بالديمقراطيين" فسوف يكتسبون أداة قوية لإبعاد الضغوط عنهم بما يتعلق بحقوق الإنسان. لقد حان وقت الكف عن بيع الديمقراطية بثمن زهيد والبدء في عرض رؤية أعرض وأوسع معنى للمفهوم الذي يشمل حقوق الإنسان)
لذلك فإن أهم تناقض يقع فيه مناصرو الديمقراطية وطالبوها هو التعويل على الخارج (خاصة الغرب) حينما يعتقدون أنه لا يسمح بقيام حكم ديكتاتوري – سواء أكان عسكري أو مدني أو ديني – وهذا التعويل يؤكد أن هناك سلطة خارجية قادرة على التدخل، مما يعني أنه ليس هناك استقلال سيادي للدولة المعنية، ولما كانت الديمقراطية لا يمكن تطبيقها دون التمتع بالحرية الوطنية، والحرية لا تسود إن لم تكن الدولة تمتع بالحرية السيادية، هذا يؤدي إلى استحالة قيام الديمقراطية المنشودة، فيتم الاستيعاض عنها بمصطلح يؤيده الغرب ويسوق له وهو (الديمقراطية الانتقائية) وهي ديمقراطية شكلية فارغة من مضمونها وأبعادها، تماما كما وصفها تقرير منظمة (هيومن رايتس ووتش) تعتمد على شكليات الديمقراطية لإرضاء الخارج بالتوافق معه، وإخراس الداخل بإشراكه في مسرحية اللعبة، فتكتمل شرعيته المطلوبة، إلى أن يأخذ الزمن مداه.
لعل أسوأ ما تتركه الديكتاتوريات بعد رحيلها ليس فعائلها الشائنة، ولا قمعيتها المفرطة أو استبدادها الظاعن في الطغيان، ولا حتى رذائلها الناتجة عن تسلطها، إن أسوأ تركاتها هو مرحلة ما بعدها، حين يقبل الشعب ومعه الكثير من النخب بالخلف الاتي بعد الديكتاتور المدحور حتى لو كان ديكتاتورا مثله، فيتحول كل الحقد والكراهية للسابق إلى رضا وارتياح للاحق، قد يصل لمرحلة التبجيل عند البعض، وخاصة حين تطفو ثقافة الحقد والانتقام على وجه المرحلة متذرعة بالآلام والأوجاع التي خلفتها الحقبة الديكتاتورية الآفلة على حساب التحسب والتحرز للمرحلة المقبلة، فتتكرر الصورة بلبوسات جديدة، كأنها تطبيق للقانون الفيزيائي (لكل فعل رد فعل، يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه).
في مثل هذه الحالة تتحول الحرية المنشودة التي كانت غائبة في عهد الديكتاتور السابق إلى فرصة للانتقام من مخلفات الماضي، وترجيع الفضل بالتغيير الجديد إلى الحكم اللاحق، فيتحول التفكير إلى حالة استحضار عدو دائم يستمر وجوده في الذهنية المقموعة على حساب الاشتغال على استثمار الحرية بالرؤية المستقبلية المشذبة من عوالق الماضي، ويفسر هذه الحالة الفيلسوف الفرنسي (إليكس دو تكفيل 1805-1859) بقوله: (إذا كنت تبحث في الحرية عن شيء غير الحرية فقد أصبحت عبدا من جديد)
تبدأ الديمقراطية الانتقائية عندما يستثمر الحاكم الجديد هذه المرحلة بمساندة الذهنية المتأذية من الماضي الاستبدادي، فيؤازرها في حبها للانتقام كي يلهيها عن استحقاقات المرحلة المقبلة، ويدغدغ حواسها بالوعود المستقبلية وخاصة المعيشية بالنسبة للعوام والشعارات الغنّاءة فيما يتعلق بالنخب المتشوقة للتغيير المدني والحضاري، فيستجيب لبعض الطلبات ويلبيها بعد أن يفرغها من مضامينها، فيستقبل الوفود ويتواصل مع الشخصيات العامة ويفتح قنواته مع الخارج المقتنص لتثبيت مصالحه مع الحكم الجديد، ويعقد الندوات والمؤتمرات والاجتماعات ويشرك بها عينات من الطيف السكاني، بعد أن يكون مهيمنا عليها بواسطة أكثريته المعينة من قبله – سيما حين يكون الحاضرون غير منتخبين وموصى بهم - فيخرج بمخرجات عمومية ضبابية لا تستطيع أن تدينها وبنفس الوقت لا تستطيع أن تحرز منها شيئا، وبذلك يصيد عدة عصافير بطلقة واحدة، منها أنه حقق رغبة مطلبية لدعاة المجتمع المدني، ومنها الظهور أمام الخارج كأنموذج منفتح وديمقراطي، ومنها تصدير بيان هلامي عصي على القبض الواقعي خاصة بصفته غير ملزم له ولا لغيره، أما الإنجاز الأكبر فهو اكتساب شرعيته من هذه المشاركات التي يدعو لها ويأخذها إلى حيث يريد هو لا حيث تريد هي، ويبدأ تدجينها كموالاة جديدة له.
هذه الاستقطابات للديمقراطية الانتقائية التي تلجأ إليها الديكتاتوريات المحدثة ليست وليدة ما بعد الربيع العربي، إنها حاضرة في التاريخ العربي الحديث - كما هي حاضرة في التاريخ العالمي الحديث أيضا - فقد سبق لأنظمة الحكم الشمولية العربية أن وظفتها بطريقة مغايرة، منها (الإتحاد القومي في مصر) و(الجبهة الوطنية التقدمية في كل من العراق وسوريا) (الاتحاد الاشتراكي السوداني) يومها أستدرجت جماعات المجتمع المدني والأحزاب وبعض التيارات أو الأسماء الفكرية الوازنة في مشاريعها السياسية كأنها تريد التشاركية والانفتاح، بينما هي تسعى لاستثمارهم في شرعنة وجودها، وبعد أن تمتلك الشرعية يقع أولئك في الحرج، إما التنصل من الولاء للسلطة الجديدة والانكفاء إلى الصمت أو المعارضة المغلوبة، وإما المثابرة معها كشهود زور على فعائلها ونكثها بوعودها التي دغدغت بها آمال المفلوكين بها.
#عماد_يحيى_عبيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟