جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 8267 - 2025 / 2 / 28 - 02:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قد يعتقد البعض أن التعاطي مع هذا السؤال سابق لأوانه؛ فحكومة بنيامين نتنياهو، رغم ما تواجهه من مناكفات داخلية بين الأحزاب الشريكة فيها، أو داخل معسكرات حزب الليكود نفسه، ستصمد حتى نهاية فترة ولايتها الحالية. وقد يفترض البعض الآخر أن مشاركة الأحزاب العربية التقليدية ستكون مسألة خلافية اذا ما أُخضعت برامجها ومواقف قياديّيها لاشتراطات القوانين الاسرائيلية الجديدة الرامية إلى" تعقيم" تلك المواقف وافراغها من المضامين السياسية التاريخية، كما نصت عليها دساتير تلك الأحزاب وبرامجها الانتخابية المعلنة. في هذه الحالة ستواجه جميع هذه الأحزاب عائقا "دستوريا" غير مسبوق، من شأنه أن يفضي إلى استحالة مشاركتها في العملية الانتخابية القادمة، أو منعها من المشاركة فيها؛ ولن يسعفها، هذه المرة، التوجه الى المحكمة العليا الاسرائيلية التي تواجه، هي نفسها، حملة ضارية وعلنية من قبل بنيامين نتنياهو وحزبه وسائر أحزاب ائتلافه، حيث بات وجودها ودورها التقليدي مهددين، وسقوطها في أحضان القوى اليمينية الجديدة ،كسقوط سائر أجهزة النظام القديم ومؤسساته، أقرب إلى الواقع.
قد يفرح دعاة مقاطعة الانتخابات الاسرائيلية من نشوء هذه الحالة لكنني لست منهم ولا مثلهم؛ فأنا يشغلني هذا الهاجس على خلفية التداعيات الحاصلة في منطقتنا وداخل اسرائيل بداية؛ لا سيّما بعد أن اكتسبت فكرة تهجير الفلسطينيين "شرعية" واسعة، لا بسبب ما أعلنته ادارة الرئيس دونالد ترامب ازاءها وحسب؛ بل بسبب شيوعها وتقبلها من قبل أكثرية أفراد المجتمع الاسرائيلي وشرائحه وقناعتهم بأن تهجير الفلسطينيين ممكن وأن التخلص منهم سوف يريح اسرائيل مرة والى الأبد، وسيؤمن نجاتها، خاصة بعد أن أثبت هجوم حماس في السابع من اكتوبر 2023 أن السلام والتعايش مع الفلسطينيين هما أمران مستحيلان، كما تؤمن تلك الأكثرية.
هنالك بين الفلسطينيين من يستخفّ بهذه المخاوف ولا أعرف ما هي ضماناتهم؛ وهناك من يأخذها على محمل الجد والقلق، لكنهم يعِدون الله والأرض وشعبهم بالصمود وبمقاومة تلك المشاريع مهما كانت الأثمان التي سيدفعون ومهما عظمت التضحيات، ولهم في تجربة الحرب الجارية على غزة وعلى الضفة الغربية المحتلة برهان وفي صمودهم اعلان: بأن لا نزوح عن الوطن ولا هجرة ولا تهجير.
لا يمكن التنبؤ كيف ستنتهي الأحداث الجارية ولا كيف ستكون الحالة الفلسطينية بعدها. فحماس تدير معركتها حول مصيرها ومكانتها في غزة وفق مصالحها السياسية ورؤاها الحركية الخاصة، ويبدو أنها تؤثر أن تفعل ذلك بالتنسيق مع بعض القوى الاقليمية والدولية وليس من خلال أي اطار وحدوي فلسطيني جامع ؛ بينما تواجه سائر الفصائل الفلسطينية المنتظمة تحت خيمة منظمة التحرير الفلسطينية حالة من الالتباس والضعف أدت عمليا الى استقواء البعض على المنظمة نفسها حتى بات وجودها مهددًا وتقويض دورها في رسم مستقبل القضية الفلسطينية محتملا.
لسنا، نحن المواطنين الفلسطينيين داخل اسرائيل، في منأى عما يحصل في العالم وحولنا وداخل اسرائيل أيضا، ولا في مأمن من تداعياته؛ فوفق المنطق التهجيري الذي تتبناه حكومة نتنياهو وتجسده ممارسات جيشها في غزة وفي مناطق واسعة في الضفة الغربية لا يجوز لنا أن نفترض أننا خارج قواعد هذا المنطق، ولا أن نفترض أن مصممي الاستراتيجية الاسرائيلية لا يرون بوجودنا، مليوني مواطن فلسطيني "مُعاديا" داخل دولتهم، عائقا أمام تحقيق "حقهم" بالعيش في دولة يهودية "نقية" من واجبها أن تؤمّن لمواطنيها اليهود الأمن في حيّزات خالية من المخاطر التي يسببها وجود الأغيار/ العرب بينهم.
لا أقول ذلك من باب التهويل أو الترهيب، كما سيّدعي البعض؛ فمن يتابع تصريحات بعض الوزراء وأعضاء الكنيست وعدد من المسؤولين في الأجهزة الحكومية والأمنية، يسمع ويعرف أن جميعم يؤمنون بضرورة ايجاد "حل جذري" لمشكلة وجود العرب المعادين داخل الدولة؛ ويكفي أن نتذكر، كمثال على نواياهم، اقتراح رفع السيادة الاسرائيلية عن منطقة المثلث والحاق سكانه العرب بالاردن، أو أن نتذكر تهديدنا شبه اليومي بأن من لا يثبت بشكل قاطع ولاءه للدولة ويقبل بجميع قوانينها فليرحل الى غزة أو لأي دولة عربية أخرى. لم تكتف هذه الحكومة باطلاق تحذيراتها وتهديداتها للمواطنين العرب، بل شرعت باتخاذ خطوات فعلية باتجاه تنفيذ ما تعلنه وملاحقة المواطنين العرب والتضييق عليهم مستندة في اجراءاتها القمعية على منظومة قوانين جديدة تستهدف تحجيم هوامش حريتهم وحرمانهم من حقوقهم الأساسية. لقد اشتدت حملات التنكيل والقمع والملاحقة بعد السابع من اكتوبر، فبدأ آلاف العمال والموظفين والمهنيين يواجهون أوامر طردهم من العمل أو تقديمهم الى القضاء بتهم التحريض والمس بأمن الدولة بسبب تعبيرهم عن رأيهم ازاء ما يجري مع الفلسطينيين وتضامنهم الانساني البديهي مع شقاء الناس هناك.
لقد قرأنا في الأسبوعين الأخيرين عن عيّنات من هذه الحالات، كانت من بينها قضية الفنان الساخر نضال بدارنة الذي منعته الشرطة الاسرائيلية من تقديم عروضه على المسرح ثم قامت باعتقاله والتحقيق معه قبل الافراج عنه، وكذلك قضية اعتقال سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فادي أبو يونس والتحقيق معه، وقضية اعتقال الصحفي سعيد حسنين. تزامنت هذه الاعتقالات مع حملات تحريض مبرمجة ضد عدد من القيادات السياسية والمؤسسات الحزبية وجمعيات المجتمع المدني ومعظمها مستهدفة ومهددة بالملاحقة القضائية وبالقصاص.
لقد أصدر "مدى الكرمل، المركز العربي للدراسات الاجتماعية والتطبيقية" مؤخرا من حيفا ورقة أعدتها الباحثة غادة مجادلة تحت عنوان "أصوات مكتومة وفضاءات معسكرة: الأطباء الفلسطينيون في المستشفيات الاسرائيلية بعد السابع من أكتوبر" استعرضت فيها واقع هذه الشريحة في ضوء "حوادث ملاحقة الأطباء وغيرهم من مقدمي الرعاية الصحية أثناء الحرب على غزة. وقد تواترت تقارير عديدة عن طرد فلسطينيين من أماكن عملهم في اسرائيل بسبب التعبير عن تضامنهم مع ضحايا غزة وذلك من خلال اعتباره "دعمًا للارهاب" وهو ما يمكن استخدامه ذريعة للفصل عن العمل". لن أرهق القراء بتفاصيل الورقة وبمضامينها القيّمة، فخلاصتها ببضع كلمات جاءت على لسان معدّتها "أن نظام الرعاية الصحية الاسرائيلي يشكّل جزءا لا يتجزأ من بُنى الدولة، ولا يمكن اعتباره من وجهة نظر سياسية فضاءً محايدا". احتوت الورقة شرحا مفصلا ومعطيات مقلقة عن حالة الأطباء والعاملين الفلسطينيين في جهاز الرعاية الصحية الاسرائيلي، وهي الحالة التي تنطبق، برأيي، على جميع قطاعات العمل والمرافق التشغيلية حيث يخضع فيها المواطن الفلسطيني لضغوطات تفرزها ذات الفضاءات المجندة قوميا والمعسكرة ذهنيا وغير المحايدة، فنحن نواجه "مرحلة أخرى من التصعيد الخطير والفاشي" كما وصفها محمد بركة رئيس "اللجنة العليا لمتابعة قضايا الجماهير العربية" في منشور شامل وضعه على صفحته قبل ثلاثة أيام وأشار فيه الى رزمة من افرازات هذا التصعيد الخطير والفاشي ومظاهر الملاحقات وتضييق الخناق، ودور المؤسسات القضائية فيه ووسائل الاعلام المجندة وتواطؤ المؤسسة الرسمية وأعوانها مع ظاهرة الجريمة وعصاباتها. لقد دعا محمد بركة في منشوره "الى تعزيز الوحدة الوطنية والاجتماعية والى العمل المشترك والبناء في كل مجالات حياتنا" ونوّه إلى ضرورة "العمل في الشارع الاسرائيلي السياسي والاعلاني والشعبي لتجنيد أوسع الأوساط الممكنة (في واقع صعب للغاية)، والى التحرك على المستوى الدولي لمنع الاستفراد بنا من خلال حكومة ترى في مجرد وجودنا مشكلة".
لن يختلف اثنان على ضرورة العمل وفق ما عدّه محمد بركة كضرورات من أجل "منع الاستفراد بنا من خلال حكومة ترى في مجرد وجودنا مشكلة"؛ فتعزيز الوحدة الوطنية والاجتماعية، وضرورة العمل في الشارع الاسرائيلي السياسي والاعلاني، والتحرك على المستوى الدولي هي المبادىء التي تعلمنا على أهمية أن يضمنها المظلوم الى جانبه في صراعه مع الظالم، وهي في حالتنا الراهنة، اذا اردنا أن نقف ونصمد في وجه الفاشية والفاشيين، ضرورات بحاجة إلى ترجمات فعلية وفورية على أرض الواقع؛ وهي في نفس الوقت مبادىء أساسية للعمل السياسي لكنها بحاجة إلى تصريف وتجسيد من خلال ايجاد الأطر السليمة وبناء الجبهة السياسية المناسبة، رغم صعوبة الواقع الشديدة، كي لا نفيق ونكتشف أن الانتخابات للبرلمان الاسرائيلي ستجري غدا، وأن سفن "العودة" قد جهزتها حكومة اسرائيل الرعناء في مرافىء الأمل!
ويبقى السؤال ماذا لو ستجري الانتخابات غدا ؟
#جواد_بولس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟