أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - موت الإله عند نيتشه: فلسفة ما بعد المقدّس وتداعياتها على الفكر الأوروبي














المزيد.....


موت الإله عند نيتشه: فلسفة ما بعد المقدّس وتداعياتها على الفكر الأوروبي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8266 - 2025 / 2 / 27 - 08:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


عندما أعلن فريدريش نيتشه مقولته الشهيرة: "الإله قد مات! ونحن الذين قتلناه!" لم يكن مجرد مفكر يسعى لاستفزاز المشاعر الدينية أو إعلان إلحاد فج، بل كان يرصد زلزالًا عميقًا يضرب أساس الفكر الأوروبي. لقد كان موت الإله عند نيتشه تعبيرًا عن انهيار البنية الفكرية والأخلاقية التي كانت ترتكز على الإيمان المطلق بالمطلقات الدينية والميتافيزيقية، وهو إعلان ببدء عصر جديد تهيمن عليه العدمية، ويتطلب إعادة بناء منظومة القيم من جديد.

لم يكن نيتشه هو من تسبب في هذا "الموت"، لكنه كان المُبشّر به، والمتأمل في نتائجه الكارثية، فقد رأى أن الحداثة الأوروبية التي قامت على العقل والعلم والتنوير، لم تترك مجالًا للإيمان التقليدي، لكنها لم تُقدّم بديلًا مقنعًا يمكن أن يعوض الإنسان عن "المقدّس" الذي تم تحطيمه. ومن هنا، لم يكن موت الإله مجرّد حدث عابر، بل أزمة فلسفية وجودية ضربت جذور الوعي الأوروبي، وألقت بظلالها على مختلف المدارس الفلسفية الحديثة والمعاصرة.

مفهوم موت الإله عند نيتشه: انهيار المرجعية المطلقة

في كتابه العلم المرح، طرح نيتشه قصة "المجنون" الذي يدخل إلى السوق، حاملًا مصباحًا في وضح النهار، ليعلن بصوت مزلزل: "أين ذهب الإله؟ سأقول لكم: نحن الذين قتلناه!". هذا المشهد المسرحي لم يكن مجرد استعارة، بل تصوير دقيق لعصر بدأت فيه الميتافيزيقا تفقد قوتها أمام الاكتشافات العلمية، والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي قادت إلى انحسار سلطة الدين في أوروبا.

لكن ما معنى "موت الإله" عند نيتشه؟ لم يكن القصد مجرد الإلحاد، بل انهيار المرجعية المطلقة التي كانت توفر للإنسان معنى وجوده، وإطارًا أخلاقيًا يُنظّم حياته. فبعد قرون من الهيمنة اللاهوتية، جاء العصر الحديث ليضع الإنسان أمام سؤال مرعب: إذا كان الإله قد مات، فمن يمنح الحياة معنى؟ هذا هو جوهر الأزمة التي ستفتح الباب أمام العدمية (Nihilism)، وهو المصطلح الذي استخدمه نيتشه ليصف الوضع الذي يجد الإنسان نفسه فيه بعد فقدان كل القيم المطلقة.

العدمية والفراغ القيمي: الوجه المظلم لموت الإله

حذّر نيتشه من العدمية التي ستنتج عن هذا الموت، حيث لم يعد هناك إيمان يحفظ تماسك المجتمع، ولم تعد هناك منظومة قيمية تستند إلى شيء متجاوز. وقد عبّر عن ذلك في مقولته الشهيرة: "ما هو عظيم في الإنسان أنه جسرٌ وليس غاية"، أي أن الإنسان في ظل هذا الفراغ القيمي عليه أن يُعيد خلق نفسه، وأن يتجاوز ذاته ليصبح "الإنسان الأعلى" (Übermensch)، ذلك الكائن القادر على ابتكار قيم جديدة بعيدًا عن أوهام الدين والميتافيزيقا التقليدية.

لكن التحدي الذي يطرحه نيتشه كان أكثر تعقيدًا مما يبدو؛ فقد أدرك أن موت الإله سيقود إلى انحلال القيم، وسيترك فراغًا هائلًا قد تملؤه الإيديولوجيات الشمولية، أو أشكال جديدة من العبودية الفكرية، وهذا ما حدث بالفعل في الفلسفات التي جاءت بعده.

التأثيرات الفلسفية لموت الإله على الفكر الأوروبي

لا يمكن فهم الفلسفات الأوروبية الحديثة والمعاصرة دون إدراك حجم التأثير الذي تركه نيتشه. فقد ألهمت مقولته فلاسفة الوجودية مثل جان بول سارتر ومارتن هايدغر، اللذين رأيا في موت الإله فرصة للإنسان ليؤسس وجوده بنفسه، لكنهما اختلفا حول النتائج. سارتر، على سبيل المثال، تبنّى فكرة أن الإنسان مسؤول عن خلق قيمه في عالم بلا معنى مسبق، بينما رأى هايدغر أن هذا الفراغ القيمي يمكن أن يقود الإنسان إلى "السقوط في اليومي"، أي العيش بطريقة سطحية تفقده عمق وجوده الحقيقي.

أما في الفلسفة ما بعد الحداثية، فقد استُخدم مفهوم موت الإله ليؤسس لنقد جذري لكل أشكال السلطة والمعرفة. ميشيل فوكو وجاك دريدا، على سبيل المثال، وجدا في موت الإله نهايةً لكل السرديات الكبرى، بما فيها الدين والعقل والهوية القومية. هذا التفسير قاد إلى تفكيك كل ما يُنظر إليه على أنه "حقيقة مطلقة"، ووضع الأساس لمجتمعات سائلة لا تحكمها يقينيات، بل تتشكل باستمرار وفقًا لموازين القوى الخطابية والمعرفية.

وفي السياق السياسي، يمكن القول إن الحركات القومية والفاشية وحتى الليبرالية المتطرفة، قد استلهمت بعض أفكار نيتشه، لكن بطريقة مُحرّفة، حيث تم تفسير "الإنسان الأعلى" باعتباره تبريرًا للنخب الحاكمة، وتم توظيف أفكاره في تبرير الهيمنة والاستبداد، رغم أن نيتشه كان معاديًا لكل أشكال السلطة الشمولية.

ما بعد موت الإله إلى أين؟

إن موت الإله لم يكن مجرد حدث فلسفي، بل زلزال هائل أعاد تشكيل الوعي الأوروبي والعالمي. فقد أدى إلى صعود العدمية، لكنه في الوقت ذاته فتح الباب أمام أسئلة جديدة حول معنى الحياة، وأجبر الفلاسفة والمفكرين على البحث عن بدائل جديدة للقيم التقليدية. واليوم، في عصر الذكاء الاصطناعي والانهيارات القيمية، يعود سؤال نيتشه ليطرح نفسه بقوة: إذا كان الإله قد مات، فمن يمنح الإنسان معنى؟

في ظل العدمية الحديثة، وتراجع الإيمان حتى بالعلم نفسه، يبدو أننا أمام مرحلة جديدة من التيه الفكري، حيث تتداخل التكنولوجيا مع الفلسفة، وتبحث البشرية عن يقين جديد قد يكون هذه المرة قائمًا على الذكاء الاصطناعي بدلاً من الإله أو الإنسان. فهل سيشهد القرن الحادي والعشرون إعلان موت الإنسان بعد موت الإله؟



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية الحرية الدينية بين الإسلام والليبرالية: جدلية الهوية ...
- التحول الكبير: كيف فتحت زيارة نيكسون للصين الباب لصعودها كقو ...
- الدولة والدين: تحديات الولاء في عالم متغير
- الخطاب السياسي الاستشراقي: قراءة نقدية لانعكاساته على الثقاف ...
- الفلسفة العربية وإشكالية العقل الجمعي: قراءة في مفاهيم الترا ...
- الذاكرة الجماعية: دور المعرفة التاريخية في فهم الهوية والتغي ...
- الفلسفة المدرسية وقيم الحكم الرشيد: جدلية السلطة والأخلاق
- الدين والفلسفة في فكر أنطون فيلهلم: جدلية التكامل والتوازن
- مذبحة المحيط الأطلسي: مأساة سفينة زونغ وتجسيد البربرية الاست ...
- شركة الهند الشرقية: صعود الإمبريالية الاقتصادية وبدايات الاس ...
- كيف تعيد الخوارزميات تشكيل الأخبار؟ الصحافة التنبؤية في عالم ...
- المنهج الفينومينولوجي وتطبيقاته في العالم الإسلامي
- العدالة كإنصاف: قراءة معمقة في نظرية جون رولز
- السيادة بين القانون والاستثناء: قراءة فلسفية في كتاب اللاهوت ...
- كيف نعرف ما ليس كذلك؟ قراءة تحليلية في فكر توماس جيلوفيتش
- الجذور الفكرية والمعرفية للفلسفة الإسلامية والمدرسية: دراسة ...
- العقل في مواجهة التقليد: التيارات الفلسفية وصناعة أوروبا الح ...
- إعادة بناء الحقيقة: تأثير توما الأكويني في الفكر الفلسفي الغ ...
- الميتافيزيقا في الفكر الأوروبي: أفق الفلسفة وحدود العقل
- التحولات الفلسفية الكبرى: من المادية الفلسفية عند فيورباخ إل ...


المزيد.....




- عثر عليهما ميتين في منزلهما.. وفاة جين هاكمان وزوجته
- هاليفي: -الجيش المصري ليس تهديدًا لكنه قد ينقلب في لحظة-
- ذياب لـ جو 24: ما يجري في الضفة الغربية خطر مباشر على الأردن ...
- ليبيا.. حزب -القمة- يدين النشاط الجوي الأمريكي في البلاد(صور ...
- سوريا.. تشغيل مطار حلب الدولي قريبا وخطط مماثلة لمطار اللاذق ...
- الصين تلفت الأنظار بروبوت شرطي متعدد المهام! (فيديو)
- إسرائيل تستعرض صاروخ AIM-120D المتطور ردا على طموحات مصر الع ...
- نجل نتنياهو يرفع دعوى ضد فيزيائي اتهمه بضرب والده
- شويغو يؤكد ثبات الموقف الروسي تجاه معاهدة -ستارت- الجديدة
- -المجلس العسكري- في السويداء.. بين شبهة الانفصال الخفي والخط ...


المزيد.....

- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - موت الإله عند نيتشه: فلسفة ما بعد المقدّس وتداعياتها على الفكر الأوروبي