منى نوال حلمى
الحوار المتمدن-العدد: 8263 - 2025 / 2 / 24 - 19:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
==================
فاسدة أخلاقيا وأفتخر
========================================
يتكلمون عن حقوق الانسان ، والحريات ، والمواطنة .... يمدحون دور القوة الناعمة
فى التميز الحضارى .... لكنهم ينتجون ، ويصنعون ، " مقصا " حادا ، يقطع فى جسد الأعمال الفنية والابداع ، يسمونه جهاز " الرقابة " .
ماذا تعنى الرقابة ؟. ومنْ يعطى الضوء الأخضر ، لجراحات البتر والقص والاستئصال ؟.
انها ثقافة " الخِتان " نفسها ، التى تنتهك وتشوه جسد الطفلة الأنثى ، للسيطرة على
قدراتها وشهوتها الجنسية ، وتحويلها الى المرأة " المثالية " ، قطعة لحم " مِشفية " ،
" مخلية " ، أية شوائب ، يمكنها أن تعوق التهام الذكور ، أو تنغص عليه حقهم الشرعى
المقدس " النكاح " مدفوع الأجر مسبقا .
الرقابة على الابداع والفن ، جريمة " خِتان " مكتملة الأركان ، لها الهدف نفسه ، وهو السيطرة على القدرات والشهوات الفنية المبدعة ، لتصبح العمل " المثالى " ، " المِشفى " "المخلى " ، من " أشياء " تثير حفيظة حُلراس الموروث ، و " تستفز مشاعر الجماهير"،
وتقودهم الى ما لا يُحمد عُقباه .
لا أعرف منْ الذى اخترع جملة " استفزاز مشاعر الجماهير " ، التى أصبحت مؤخرا ، سيفا ارهابيا على الفكر والفن . منْ هؤلاء الجماهير ؟. ومنْ يمثلهم ويتكلم باسمهم ؟. وكيف عرف مشاعرهم .. هل أجرى استطلاعا للرأى ؟. وما هذه " المشاعر " التى تُستفز من
فكرة ، أو مسرحية أو قصيدة أو فيلم ، أو أغنية ، أو برنامج ، أو صورة ، أو لوحة ، تعرض مادتها علنا ، بشكل سِلمى ؟.
وماذا عن الناس ، المواطنات والمواطنين ، فى الوطن نفسه ، يتذوقون بشكل آخر ،
ولا " تُستفز مشاعرهم " ؟. لماذا نضحى بما يحبونه ؟. لماذا نحرمهم من مشاهدة ابداعات وفنون مصرية ، تثير الأسئلة المحظورة ، تفتح نوافذ الدهشة ، تطلق قدرات محبوسة .
الناس الذين يريدون خنق الحريات المدنية ، وانتهاك حقوق الانسان ، والمتاجرين بالأديان والأخلاق ، لدينا معهم تاريخ طويل . مثلا ، هم يستخدمون جملة " حتى لا تُستفز مشاعر الصائمين " ، لاصدار قرار يحظر قانونا ، " الجهر بالافطار " ، و" فتح المطاعم " فى نهار رمضان ، وتكون هناك عقوبة الحبس ، ودفع غرامات مالية ، على المخالف .
ويستخدمون " حتى لا تُستفز مشاعر المؤمنين " ، لعدم " الجهر بترك الدين أو الالحاد ". ويستخدمون " حتى لا تُستفز مشاعر الذكور " ، لتغطية النساء ، لتبقى مشاعرهم طاهرة نظيفة ، فى الحفظ والصون . ويستخدمون " حتى لا تُستفز مشاعر الزوج " ، عندما يهاجمون تمرد الزوجة على سحق انسانيتها ، واذلالها .
الحل المتحضر العادل ، فى كل الحالات ، هو أن يُعاد ترويض وتربية وتأهيل " المشاعر المستفزة " بحيث تتخلص من الانحيازات الاقصائية ، و النرجسية المريضة ، والميول العنصرية ، والعواطف المتشنجة ، والاستعلاء بدون مبرر .
المرأة ، والفن ، هما جناحان الحرية . وهما الحضارة تخلفا ، أو تقدما . اذا أردنا التحكم فى مسارات المجتمع ، فما علينا الا السيطرة على النساء ، وفرض قيود على الفن
والابداع .
منذ أيام ، قرأت عدة مقالات ، تؤيد حق المجتمع فى الرقابة على الفنون والابداعات . لكنها تقترح " الارتفاع قليلا " بسقف الحرية " المسموحة " . ولا أدرى كيف تجتمع الكلمتان المتضادان " الحرية " ، و" المسموحة " ؟. الحرية " المسموحة " ليست حرية .
ونرجع مرة أخرى ، الى السؤال الأساسى ، منْ بيده " السماح " ؟. منْ يحدد المساحات " المسموح بها " ، والمساحات " المحظورة " ؟.
لقد انتهت العبودية التقليدية ، أو البدائية ، كنظام سياسى . لكن " جوهرها " موجود ،
والذى يستلزم طرف " أعلى " ، يأمر ، ( الرقابة ) ، وطرفا " أدنى " يطيع ( الفنان ).
وتروج الرقابة ، عبر المؤسسات الاعلامية والثقافية والتعليمية والدينية ،
أن " حرية الفنان "، لا تعنى " الفوضى والتخريب والتدمير " . والفن مثل أى نشاط بشرى آخر ، لابد أن يلتزم ب أصول ، وقواعد الفن .
ان كل فن ، يخلق أصوله ، وقواعده ، من داخله ، وليس من سلطة خارجة عنها . بمعنى آخر ، أن الفنان هو الذى يضع القواعد ، والأصول ، وبسببها يستحق لقب
" الرائد " ، أو " المؤسس " ، أو " الخالق ".
" قواعد الفن موجودة لكى نكسرها " .. هذا هو رد الفنان التشكيلى بابلو بيكاسو 25 أكتوبر 1881 – 8 أبريل 1973 ، حينما يسألونه عن لوحاته ، التى لا تتوقف عن ادهاش الجميع ، واثارة الأسئلة ، لا تتبع الأصول المعروفة ، ولا تنتمى لأى مدرسة ، لها قواعد مستقرة .
الحجة المتكررة ، المستهلكة ، وغير المنطقية ، المستخدمة لغسل المخ ، وترسيخ الوصاية ، والسيطرة الفكرية ، أن الرقابة ، " فلتر" ضرورى ، للتنقية ضد الملوثات ، وللحفاظ على الفضيلة ، والدين والعادات والتقاليد والموروثات ، والمسلمات ، وقيم الأسرة ، وسُمعة الوطن . وهذه أمور " تستفز المشاعر " ، فى مجتمعاتنا .
لا أدرى ، كيف يمكن لخيال ، أو رؤية فنية ، فى فيلم أو رواية، أو قصيدة، أو حلم فى لوحة تشكيلية، أن يسئ الى الدين، والأخلاق والتقاليد وسُمعة الوطن ، إلا إذا كان الدين، والأخلاق، والتقاليد، وسُمعة الوطن ، ديكورًا من ورق ، شيدته الخرافات الهشة ، والأنظمة غير العادلة ؟؟.
نتذكر فى هذا السياق ، أنه حدث فى القرن التاسع عشر، أن قام أحد الناشرين المتشدقين بالفضيلة ، بطبع مؤلفات كل من موليير ولافونتين وراسين، فى طبعة خاصة بالعائلات " الفاضلات ". لكن المحاولة باءت بالفشل ، لأن الأفكار التى تعمّد الناشر حذفها ، حتى لا تفسد الأخلاق ، كانت موجودة سلفًا فى نفوس الناس .
من الحياة الواقعية ، يتأكد لنا كل يوم ، ان الذين بستمتعون بممارسة الفساد الأخلاقى ، هم الذين يتهمون الآخرين بافساد الأخلاق . هم فى الحقيقة ، لا تهمهم الأخلاق مطلقا ، من قريب أو من بعيد . هم يخافون من انهيار الأخلاق السائدة ، التى تبرر وتقنن فسادهم ، وتمنحهم امتيازات وسلطات وحصانة ، تجعلهم فوق القانون ، والمحاسبة .
" كن فاسدا كما تشاء .. لكن كله فى الخفاء ". هذه هى الأخلاق التى يحرسها
المتشدقين بالفضيلة والأخلاق .
لا أحد يرانا متلبسين بالرذيلة ، اذن الفضيلة مستتبة ، رجالنا على الصراط المستقيم ،
ونساؤنا بألف خير وعفة .
عند عدد كبير من النساء والرجال ، يدهشنا كيف أن المرأة " فاسدة الأخلاق " ، لا تعنى فى الحقيقة ، الا المرأة " الحُرة " ، الخارجة عن كتالوج الجوارى والاماء ، ولا تمكن أى ذكر داخل الأسرة ، أو خارجها ، من امتلاكها . والرجل الحر ، الذى يعيش حياته بالطول والعرض ، لا امرأة تملكه ، ولا طابور يحتشد داخله ، يوصف أيضا بأنه " فاسد أخلاقيا " ، ولكن بشكل أقل عنفا وعدوانيا .
اذا كان الفساد الأخلاقى ، يعنى المرأة الحُرة ، فأنا فاسدة حتى النحاع ، وأفتخر.
والمفارقة ، أن " محظورات " الرقابة ، هى بالضبط ، ما يجب " عرضه " . المحظور والممنوع والخطوط الحمراء ، هى مكمن " الداء " ، المزمن الذى يبقينا فى هذا المأزق الحضارى الفريد فى نوعه ، أننا نعيش بأجسادنا فى القرن الواحد والعشرين ، بينما تنتمى
عقليتنا وعواطفنا ، الى القرون الوسطى .
ليس من المعقول ، أننا بعد ربع قرن من بداية الألفية الثالثة ، ما زلنا تحت احتلال مشارط " الحذف " ، و" المسح " ، و" الحجب " ، و" المنع " ، و " الحظر " .
انه " الخوف " المتأصل ، من " الحرية " ، الذى يجعل الناس نسخ كربونية مرتعشة .
فى كتابه الممتع ، " الخوف من الحرية " ، أوضح اريك فروم 23 مارس 1900 – 18 مارس 1980 ، كيف أن الحرية " مخيفة " لأغلب الناس . فالانسان يتخلى عن حريته ، ويرضى الدخول فى الصفوف والطوابير المطيعة ، وأن يخرس صوته الداخلى المختلف ، من أجل " الأمان " المتحقق من كونه جزءا من القطيع . و" الخوف " من الحرية ، هو ألد أعداء الانسان ، وأكثر المخاوف شراسة ، وخداعا ، وتجذرا فى التاريخ .
قناعتى أن مرتكب الرذيلة ، أفضل من مدعى الفضيلة . و الجهر بالفعل السئ ، أفضل من اخفائه ، هذا مع اعتبار أن الرذيلة ، والفضيلة ، أمور نسبية ، تتغير حسب الزمان والمكان ، والشخص نفسه . وحتى على مستوى الشخص الواحد ، تتغير من مرحلة عمرية الى أخرى .
إن الإبداع الذى لا يصدم شيئًا، ليس إبداعًا. هو تسلية، تعيد إنتاج الواقع بأمراضه ، وعيوبه ، وتناقضاته . والصدام فى حدوده الدنيا ، غير ممكن ، الا بالحرية . واذا كان هناك اناس ، شغوفين بالأخلاق والفضيلة ، فالحرية كما أراها هى قمة الفضيلة ، وذروة الأخلاق .
إن حرية الفن ، مثل الصهيل للخيل ، وكالأمواج للبحر . والمدافع عن " الرقابة " ، يريد خيولا بلا صهيل ، وبحرا بلا أمواج ، وهذا أمر مستحيل . وهو أشبه بمنْ يقطع الشجرة ، ليحصل على ثمرة ، أومنْ تمشى عارية لتثبت أنها أنثى ، ومنْ يسطو بالسلاح ليسرق بنكا ، من أجل وجبة العشاء .
الفن عالم ملئ بالأسرار . بدون الحرية ، لن نستطيع كشف خباياه . وأحد أسرار الفن ، أنه من نسج خيال المؤلف ، أى " كذبة " . ولكنه يدلنا على " الحقيقة " . وكلما كان
الفنان " صادقا فى سرد الكذبة " ، كلما زادت متعة العمل الفنى . بدأ " نزار " احدى قصائده
بالقول : كنت أكذب من شِدة الصدق ... والحمد لله انى كذبت ..
========================================
#منى_نوال_حلمى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟