يسري نصرالله : لن أقبل باختزاله وسيعرض في أربع ساعات
برجوازي الحسب والنسب والاصل والفصل، لكنه في العمق يساري بالمعنى الانساني والهمّ البشري والوجع الحياتي المتمرّد على النظام الاجتماعي والسياسي والفكري. وهذا ما حرص على إظهاره ومعالجته في "سينماه" المتميزة والخاصة. لم يدرس السينما أكاديمياً لأن أهله عارضوا بشدة، بل توجه الى كلية الاقتصاد والعلوم الاقتصادية التي كانت تغلي مدرجاتها بالحركات الطالبية والتظاهرات المنادية بالاصلاح والتغيير ومعالجة الازمات وتحقيق العدالة الاجتماعية. "السياسة تدخل في تكويني السينمائي" وتكوينه السينمائي بدأ باكراً جداً فولعه بالسينما ولد معه وخصوصاً انه كان يسكن، وهو صغير، في المبنى عينه الذي يسكنه المخرج الكبير شادي عبد السلام (مخرج فيلم المومياء 1969 الذي يعتبر من ضمن لائحة أهم مئة فيلم عربي ومصري في تاريخ السينما العربية والمرجع الفني في بناء مشهدية متكاملة). وباكراً جداً أيضاَ وقبل ان يبلغ سن المراهقة كان تعرّف على أفلام انغمار برغمان وفديريكو فلّيني الذي أحدث فيلمه "لا دولتشي فيتا" (1960) صدمة "وصعقة" لذيذة وسحرية في داخل ابن الثانية عشرة. مارس الصحافة والنقد السينمائي أربعة أعوام في جريدة "السفير" في لبنان (من 1978 الى 1982) قبل أن "يتتلمذ" على يدي المخرج الكبير يوسف شاهين الذي بهره في فيلم "عودة الابن الضال"، فتعرّف اليه على بلاتو تصوير "حدوته مصرية" حيث عمل معه موظفاً لتنظيف الاستوديو. وتوطدت بين الاثنين علاقة قوية فعمل معه مساعداً في الكتابة والاخراج في فيلم "وداعاً بونابرت" (1984) ثم مخرجاً منفذاً لفيلمي "اسكندرية كمان وكمان" (1990) و"القاهرة منورة بناسها" (1991). ومِن صقل الاستاذ شاهين انطلق التلميذ ليحقق عالمه الخاص فقدم في عشرة أعوام تقريباً أربعة أفلام. اليوم، وبعدما تطّرق الى موضوع البورجوازية التي وقفت ضد التأميم في فيلمه الروائي الطويل الأول "سرقات صيفية" (1988)، وطرق باب أحلام الاشتراكية وانهيارها وبدء تصاعد الاصولية في "مرسيدس" (1993) والحجاب مع فيلمه الوثائقي "صبيان وبنات" (1995) ثم فتح باب الهجرة مع فيلم "المدينة" (1999) ها هو يسري نصرالله الانسان والمناضل والمثقف والمخرج يطرق باب المخيمات الفلسطينية ويوميات الفلسطينيين... ها هو يطرق "باب الشمس". منذ شهر أيار الماضي والتصوير مستمر في الجزء الثاني من فيلمه الخامس "باب الشمس" الذي استمر تصوير الجزء الاول منه بين أيلول 2002 ونهاية كانون الاول من العام عينه. وقبل انتهاء التصوير بأربعة أيام التقينا المخرج المتميز الذي دعانا للدخول عبر "باب الشمس" الى القضية الفلسطينية من منظار مختلف تماماً عما حاولت الأنظمة العربية ترسيخه في الاعتقاد. عام 1978 صدرت رواية "باب الشمس" للكاتب والصحافي اللبناني الياس خوري ولحظة صدورها، قرأها يسري نصرالله صديق خوري المقرّب.
- "على طول شعرت أنني أريد أن أحوّلها فيلماً. الياس الخوري تكلم في روايته هذه عن الموضوع الفلسطيني كأفراد وليس كقضية. كأشخاص لهم قصص ومعالم "وشحم ولحم" وليسوا مجرد رموز لشيء أكبر منهم. كانت الرواية قادرة أن تحول التاريخ الى مادة روائية قابلة ان تُفهم وفيها بُنى فنية وحياتية، فكل رواية لا تصبح قابلة للبدء الا عندما يصبح لها شكل وتتحول تالياً من "كركبة" الى شيء قابل ان يُفهم وتالياً ان يُحكى".
* المدهش والغريب في الوقت عينه ان الفيلم من انتاج قناة Arte الفرنسية. لماذا الغرب وليس العرب الذين اهتموا بالموضوع الفلسطيني؟
- لقد سبق وذكرت أنني رغبت في أن أحوّل قصة "باب الشمس" فيلماً مذ قرأتها. لكني تأخرت كل هذا الوقت لأن المنتج العربي كان سيقول "يا سلام على القضية الفلسيطنية. انها مهمة جدا ولكن "مش وقتو" و"ما ينفعش". تصوري ان Arte هي التي طلبت فيلماً عن الوضع الفلسطيني. أنا لم أقدم لها العرض بل هي التي طلبت. لقد أرادوا فيلماً عن وضع الفلسطينيين في لبنان منذ الاربعينات ولم يضعوا علي شروطاً بل أنا الذي "تشرّطت" عليهم مصراً ان يكتب معي السيناريو كل من الياس خوري ومحمد سويد.
* هذا لأنهما صديقاك. لكن أليس صعباً العمل مع صاحب الرواية لتحويلها وتغييرها وبنائها بقالب سينمائي؟
- "كان نِفسي" أن أعمل مع الياس ومحمد وكنت أمام تحد كبير فـ "باب الشمس" عمل أدبي شامخ والرواية شديدة التركيب والادبية ولم يكن عندي رغبة في ان أجد مرادفاً سينمائياً للغة الياس خوري المتميزة. كان وجود الياس ضروري فمن مثله سيحسن اختزال القصة؟ في الفيلم رغبت في أن أتكلم عن تجربتي مع الرواية. فالياس خوري أشركني في تجربته كقارىء وأردت ان اشركه في تجربتي كمتلق لهذه القصة. أردت أن أدفعه لـ"خيانة" نفسه لمجرد ان الفيلم مختلف عن الرواية. ولأننا أصدقاء نجحنا. ولأننا موهوبون نجحنا وقد كان الياس مسروراً جداً وقد استطعنا العمل مع النص على أنه ليس مُنزلا لا يُمس بل لقد كان مادة من المواد المتاحة لنا لكي نكتب عملا درامياً مسلياً.
* لكن نحن نعلم ان الرواية تمتد على فترة زمنية تقارب الخمسين عاماًَ. كيف استطعت اختصار غناها في فيلم سينمائي؟
- لقد ركزنا على قصتي حب. الاولى هي قصة ناهيلة ويونس وهو قسم النكبة ومرحلة الخمسينات. يونس مقاتل مراهق في الرابعة عشرة يزوجه أهله بفتاة عمرها 12 عاماً. ويهرب يونس ليعود بعد أعوام فيجد عروسه قد اصبحت امرأة جميلة فيعاشرها وينجب منها. وتحصل النكبة فيذهب الى لبنان للانخراط في صفوف المقاومة ويظل يتردد على زوجته بالسر حيث يلتقيان دائماً ولأوقات محدودة في مغارة "باب الشمس" وينجبان كثيراً من الاطفال. يونس هذا سيتحول شخصية مثيرة لأنه عاشق وليس لأنه مقاتل. أما قصة الحب الثانية فبطلها خليل وهو الراوي الذي يبدأ معه الفيلم عام 1995 في أوسلو. نراه في احدى غرف مستشفى جالساً بالقرب من سرير يونس الممدد في غيبوبة. خليل كالابن الروحي ليونس وهو يرعاه ويراهن على بقائه حياً ليعيده الى فلسطين ليموت ويدفن كالابطال. على مسامعه سيردد قصص الحب واللقاءات المتسللة باتجاه "باب الشمس" والتي سنراها نحن بالصور. لكن الراوي خليل له هو أيضا قصة حب يخفيها لاسباب عديدة لأنها ملتبسة وأصعب من قصة يونس ونهيلة الرومانسية والبطولية. خليل كان مرتبطاً بسيدة مقاتلة في حياتها رجل آخر غيره. هذه السيدة ستقتل الرجل الآخر وسيصبح من الضروري تصفيتها لمنع تفاقهم عمليات الثأر. خليل سيظل يطرح على نفسه اسئلة حول الحب وعبر هذه الاسئلة الكثيرة سنقف على فصول النكبة ويوميات الافراد.
* سمعنا ان الفيلم قد يُقدم لشاشة Arte في جزءين مدة كل جزء ساعتان على أن تختزل ساعة منه ليقدم كفيلم سينمائي مدته ثلاث ساعات.
- لا، لن أقبل أن يختزل الفيلم بل سيقدم في أربع ساعات في التلفزيون وفي صالات السينما.
* لكن هل تعتقد ان الجمهور سيتحمل شريطاً طويلا؟
-"أحسبوه فيلماً هندياً" ثم يكمل ضاحكاً، اذا كان مسلياً سينسى الجمهور طوله وسيشعرون انه مر سريعاً. أنا اعتقد ان الجمهور سيحبه لأننا نقدم من خلاله أشياء لم نرها من قبل مثل النكبة ومشاهد طرد الفلسطينيين القاسية جداً. في الفيلم سنرى أن الطرد لم يحصل بالاقناع بل بعنف كبير.
* رغم تركيزك على التجربة الفردية في أفلامك نلاحظ أنك تضعها دائماً في اطار سياسي. الى أي مدى انت مقتنع بأن الانسان والسياسة مرتبطان؟
- صحيح ان كل أفلامي تدور ضمن اطار سياسي ضخم مثل انهيار الاشتراكية وحائط برلين وبداية الجماعات الارهابية الاسلامية في "مرسيدس" والحجاب في "صبيان وبنات". أنا أضع الفرد ضمن هذا الاطار لأسلط عليه الضوء أكثر وليقول أنا موجود، والاطار السياسي الضخم لا يطغى عليه ولا يسحقه وهذا مهم جدا. لكن الموضوع الفلسطيني طغى علينا وسحقنا. وباسم القضية الفلسطينية الأنظمة العربية خنقتنا فكل شيء مؤجل حتى تحل القضية.
من الطبيعي ان يكون الانسان مرتبطاً بالسياسة فطالما هناك ديكتاتورية وانظمة تتعامل معنا على اساس "نحن ما حدا" نحن مضطرون ان نتعامل مع السياسة حتى ندافع عن انفسنا ووجودنا وحقوقنا. السياسة مفروضة علينا "ويا ريت ما فيش سياسة" يا ليتني استطيع أن اقدم فيلماً مثل Pretty Woman لكن تخيلي أن تدور هذه القصة في مجتمعنا، عندها سيدخل الاهل على الخط وتنفجر أزمة العذرية وخالها سيذبحها وعمها سيقتلها وأبوها سيتبرأ منها ورويداً رويداً وغصباً عنا ستتحوّل القصة الى سياسة.
* في "باب الشمس" عدت الى قواعدك في التصوير السينمائي (35 ملم) بعد تجربة مع "الديجيتال" في فيلم "المدينة". كيف تصف هذه التجربة؟
- في الحقيقة كنت مفلساً وتقنية الديجيتال كانت منفذاً لي لأكون حراً. فلو وجدت نجماً بدل باسم سمرة ولو أن البطل هاجر الى دبي مثلا بدلا من فرنسا لكان هناك احتمال هجمة تمويل. لكن عندها لن يكون الفيلم هو الفيلم الذي أرغب في ان أقدمه. أنا أريد أن أكون حراً في اختياري والديجيتال مكّنتني من ذلك. لقد حوّلت هذه الآلة (المعاقة) واستخرجت منها جمالية معينة.
* رغم انك مارست الصحافة (ومهمتها تسهيل المعلومات للقارىء) الا أنك تقدم أفلاماً صعبة قد لا تُفهم بسهولة.
- "هل تعتقدين ان أفلامي صعبة؟" قالها باستغراب قبل ان يتابع "أحاول دائماً ان أجعلها سهلة ويفهمها الجميع. أنا أظن ان المشكلة في أن أفلامي لم تكن تعرض على التلفزيون قبل الانفتاح الاعلامي الفضائي.