أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - ماركس وإليانور: بين التنصل والفخر














المزيد.....


ماركس وإليانور: بين التنصل والفخر


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 8263 - 2025 / 2 / 24 - 00:59
المحور: الادب والفن
    


في عتمة مكتبه المزدحم بالكتب والمخطوطات، جلس كارل ماركس ينفث دخان سيجاره، بينما يحاول أن يضع لمساته الأخيرة على فصل جديد من عمله العظيم. كان ذهنه مشغولًا بالثورة، بالطبقات، بالصراع الأبدي بين رأس المال والعمل. ومع ذلك، كان هناك جزء صغير من عقله، مدفون تحت ثقل أفكاره، لا يتوقف عن الصراخ: هويته اليهودية.

"كارل"، نادت إليانور، ابنته الصغيرة التي أصبحت فيما بعد ذراعه الأيمن، وهي تدخل المكتب بحماس الشباب. كانت تحمل بيدها كتابًا قديمًا عن تاريخ اليهود، وقد أضاءت عيناها بريقًا غريبًا.

"ما هذا الذي تقرئينه الآن؟" سألها بنبرة متعبة، محاولًا إخفاء انزعاجه.

"إنه عن تاريخ أجدادنا، أبي. ألا تشعر بالفخر بأننا جزء من هذا الإرث العظيم؟"

تجمد ماركس في مكانه. لم يكن يرغب في الحديث عن هذا الموضوع. فقد اختار، منذ سنوات، أن يتنصل من هويته اليهودية. ليس لأنه كان يكرهها، بل لأنه رأى فيها قيدًا لا يناسب طموحاته الفكرية ومشاريعه الثورية. في عالم يهيمن عليه التعصب الديني والعرقي، كان اسمه اليهودي عبئًا ثقيلاً عليه.

ماركس أشاح بنظره عن ابنته للحظات، متظاهرًا بالانشغال بمخطوطاته. ثم وضع القلم جانبًا وتنهد بعمق قبل أن يقول:
"إليانور، التاريخ لا يهم بقدر المستقبل الذي نحاول بناؤه. ما نحن عليه ليس إلا صدفة بيولوجية، أما ما نصبح عليه فهو قرارنا. أفكارنا، أعمالنا، هذا هو ما يحددنا."

لكن إليانور لم تبدُ مقتنعة. جلست على الكرسي المقابل له، وضعت الكتاب على الطاولة بعناية، وقالت بلهجة مليئة بالعناد:
"لكن يا أبي، أليس من النفاق أن نؤمن بحقوق العمال والمضطهدين، ثم ندفن جزءًا من حقيقتنا؟ أجدادنا اليهود عانوا لقرون. كيف يمكن أن نتجاهل ذلك؟"

ماركس أطرق رأسه للحظة. كان يعلم أن إليانور ليست مجرد فتاة صغيرة مفعمة بالعاطفة؛ لقد ورثت منه ذكاءً حادًا وإرادة لا تنكسر. ومع ذلك، كانت هناك فجوة بين رؤيتيهما، فجوة لم يعرف كيف يجسرها.
"إليانور،" قال بهدوء، محاولًا السيطرة على حدة النقاش، "العالم الذي نحاول تغييره لا يفهم الهويات كما نفهمها نحن. لقد عانيت من كوني يهوديًا في هذا المجتمع الرأسمالي الذي يكره كل ما هو مختلف. إذا أردت أن يُسمع صوتي، أن أغيّر النظام نفسه، عليّ أن أكون فوق هذه التصنيفات الضيقة."

نظرت إليه إليانور بعينين مليئتين بالأسى. شعرت وكأنها ترى فجوة خفية في شخصية والدها التي طالما اعتبرتها مثالية.
"لكن أبي، ألا ترى أن هذا التنصل يعني أنك تقبل بأن يتحكم الآخرون في هويتك؟ إذا كنت تنكر جزءًا منك، فأنت تتركهم ينتصرون."

وقف ماركس فجأة، يسير في الغرفة كعادته عندما يفكر. قال وهو يشير بيده:
"إليانور، النضال من أجل العدالة الاجتماعية أكبر من هويتنا الفردية. هو نضال عالمي. اليهود، العمال، المضطهدون في كل مكان... علينا أن نوحدهم تحت راية واحدة، لا أن نسمح للهويات الصغيرة بتقسيمنا."

لكن إليانور، بعزيمتها التي كانت تزداد صلابة مع كل كلمة ينطقها، أجابت:
"وما فائدة الوحدة إذا كان علينا أن ننكر من نحن؟ أنا أفتخر بأنني يهودية، لأن هذا جزء من قصتي، ومن نضالي. لا أرى أن علينا الاختباء، بل أن نظهر الحقيقة ونحارب من أجلها."

كان الصمت الذي عمّ الغرفة أثقل من أي جدال خاضه ماركس في حياته. لم يكن الأمر مجرد نقاش بين أب وابنته، بل مواجهة بين رؤيتين للعالم: الأولى ترفض الهويات لتسعى وراء فكرة أوسع، والأخرى ترى أن الاعتراف بالهوية جزء لا يتجزأ من النضال.

في الأيام التي تلت، لم يغادر هذا الحوار عقل ماركس. وبينما كان يكتب المزيد عن الاقتصاد والسياسة، بدأت أفكار إليانور تسكن هوامش أوراقه. كان يعلم أن العالم الذي يحلم به قد لا يأتي أبدًا إذا تمسك الجميع بهوياتهم، لكنه أدرك أيضًا أن إلغاء هذه الهويات ليس بهذه البساطة التي اعتقدها.

أما إليانور، فكانت ماضية في طريقها، تشق طريق النضال الخاص بها. وقفت في ساحات لندن، تتحدث للعمال والفقراء، تفخر بيهوديتها وتربطها بنضالها. في تلك اللحظات، شعرت بأنها أكثر قربًا من العدالة التي كان والدها يحلم بها.

عاش ماركس ومات وهو ينكر هويته اليهودية علنًا، لكنه احتفظ بتلك الجذور سرًا في قلبه، يدرك أهميتها دون أن يعترف بها. أما إليانور، فقد صنعت من تلك الهوية سلاحًا للنضال، تثبت أن الكرامة تبدأ من التصالح مع الذات. وكانت المفارقة الأجمل أن إليانور، رغم اختلافها مع والدها، كانت أكثر من جسّد روحه الثورية، لكن على طريقتها.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش 5 والأخيرة.
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ4ـ
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش 3
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ2ـ
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ1ـ
- الطيور والنمل
- أطفال للبيع
- المبادرة التصويبية الثورية لمحاربة الجوع السوري
- حكاية الولد الذي بال على قبر العائلة
- الزمن العكسي
- المجداف والجولاني
- أعشاب جولانية لمعالجة البطالة المقنعة
- الرئيس الذي لم ير المسرح
- حكومة الذقون
- أدب بلا أسوار
- صرخة في البرية
- الحرية تمر عبر المعدة
- مع اقتراب رأس السنة
- أهمية التمويل الذاتي للجامعات
- إلى تلك التي لم ألتقِها بعد


المزيد.....




- شاهد كيف سخر كوميدي من محاولة وزارة الزراعة الأمريكية تعيين ...
- انطلاق مهرجانRT الدولي للأفلام الوثائقية
- الرئيس بارزاني يستقبل رئيس مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والف ...
- لماذا تلهم -تفاهة الشّر- سوريّي اليوم؟
- كنز العراق التاريخي.. ذاكرة وطن في مهب الريح بين بغداد وواشن ...
- مهرجان -ربيع ماسلينيتسا- في مسقط: احتفاء بالثقافة الروسية
- مشاركة الممثلين عن قائد الثورة الاسلامية في مراسم التشييع
- ماتفيينكو تدعو إلى تجديد النخبة الثقافية الروسية بتضمينها أص ...
- جدل حول مزاد للوحات الفنية بواسطة الذكاء الاصطناعي ومخاوف من ...
- توغل بفن الراب والثورة في -فن الشارع- لسيد عبد الحميد


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - ماركس وإليانور: بين التنصل والفخر