أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - حميد كشكولي - سرّ محبة الزعيم














المزيد.....


سرّ محبة الزعيم


حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)


الحوار المتمدن-العدد: 8263 - 2025 / 2 / 24 - 00:02
المحور: كتابات ساخرة
    


من الذاكرة
كان والدي، كلما أُثير ذكر عبد الكريم قاسم، يقصُّ علينا مشاهداته في صباح يوم الانقلاب الفاشي يوم 8 شباط 1963. في ذلك اليوم المشؤوم، كان متوجهًا إلى عمله في كورته لتصنيع الجص، والتي كانت تقع، كعادتها، في منطقة بعيدة عن المدينة وسط أرض كلسية. قال إنه رأى الطيور جاثمة على الأرض، وكأنها منكسرة، بينما الأغنام بدت في حالة ذهول تام.
لا أعلم السر وراء حب الفقراء لعبد الكريم قاسم ونظام ما يُعرف بالضباط الأحرار، رغم أنهم، بعد انقلاب تموز 1958، ظلوا يعانون فقراً ربما أشد مما كانوا عليه في العهد الملكي. نحن أنفسنا لم نتمكن حتى عام 1971 من الانتقال إلى بيت نملكه، وإنما كنا نعيش في بيت مستأجر. وبعد سنوات طويلة من العمل الشاق والكفاح، استطعنا بالكاد شراء منزل متواضع بالكاد يُطلق عليه وصف "خرابة". كان والدي وكثيرون من جيله يُبدون احترامهم للعهد الملكي وساسته المخضرمين. ولكنه أخذ يتوق إلى تلك الأيام، خاصة بعد أن عاصر الظلم والاستبداد الذي تفشى في ظل حكم البعثيين.
كان والدي يخشى في تلك الحقبة أن يُبدي أي رأي ينتقد النظام أمام أبنائه خشية من العواقب. كان يتحسر على أيام العهد الملكي ويتذكر بشوق الطمأنينة والأمان المتوفر آنذاك. كثيراً ما كان يردد: "هل كان ممكن لعناصر الشرطة أو جهاز المخابرات أن يدخلوا بيت المواطن للتفتيش أو اتخاذ أي إجراء قانوني دون موافقة البرلمان والمجلس البلدي؟ بل وكان يجب أن يُبلغ الشخص المطلوب مسبقاً؟".
أعتقد أن حب الناس لعبد الكريم قاسم يعود إلى الجرائم البشعة التي ارتكبها البعثيون والقوميون بحقه وبحق الأبرياء، إضافة إلى زرعهم لثقافة عنصرية وغريبة عن المجتمع العراقي. هذا الظلم والإجرام جعل عبد الكريم أقرب إلى وجدان الفقراء وزاد من تعاطفهم معه.
ذكريات انقلاب 8 شباط 1963 في العراق تُظهر صورة مؤثرة ومفعمة بالمعاني حول تأثير ذلك الحدث الجلل على الحياة اليومية للناس العاديين، وتفتح نافذة على أبعاد وجوانب قلّما تُذكر في التحليلات التاريخية التقليدية. تستند هذه الذكريات إلى روايات شخصية، وبالأخص ما استحضره الوالد عن تفاصيل ذلك اليوم، حيث تجلت الصورة وكأن الحدث لم يقتصر على البشر فحسب، بل شمل الطبيعة ذاتها، إذ وُصفت الطيور وكأنها تستشعر الحزن، والأغنام وكأنها غارقة في الحيرة، مما يوحي بأن الحدث ألقى بظلاله الثقيلة على كل شيء.

من النقاط اللافتة التي تناولتها الذكريات هي محبة الطبقات الفقيرة لعبد الكريم قاسم ونظامه السياسي، رغم أن أحوالهم المعيشية ربما لم تشهد تحسناً يُذكر في تلك الفترة. يثير الراوي تساؤلاً عميقاً حول هذه العلاقة الفريدة، حيث يلمّح إلى وجود شعور جماعي بالأمان والاستقرار كان يعمّ ذلك الزمن، وهو إحساس قد يفوق أهمية المكاسب المادية المباشرة لدى الفقراء. هذا الشعور بالأمان دفع الناس إلى التمسك بعبد الكريم قاسم ليس بسبب ما قدّمه اقتصادياً، بل لما مثّله لهم من طمأنينة وثقة في المستقبل.

بمرور الزمن تغيّر موقف الوالد من العهد الملكي. كان يحترم هذا النظام منذ البداية، لكن تجربته مع "الاضطهاد والقمع" في عهد البعث جعلت تقديره للملكية يتعمّق أكثر. بات ينظر إلى تلك الحقبة كزمن ساده الهدوء والأمان، مقارنةً بأجواء الخوف والترقب التي هيمنت بعد استيلاء البعثيين على الحكم. وكمثال حي، أشار الوالد إلى المفارقة البارزة بين العهدين؛ ففي عهد الملكية، لم يكن يعاني المواطن من خوف الحديث داخل جدران منزله، ولم يكن الشرطي أو رجل الأمن السري يجرؤ على اقتحام البيوت بلا إذن المحاكم الشرعية أو المختار المنتخب من قبل أهالي الحي. أما بعد انقلاب البعثيين، فقد أصبحت المخاوف جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية.

وفي هذا السياق جاءت محبة الناس لعبد الكريم قاسم كردة فعل طبيعية على "الجرائم البشعة" التي ارتكبها البعثيون والقوميون بحق الأبرياء. هذه المحبة أصبحت أكثر عمقاً بسبب "الثقافة الغريبة والعنصرية" التي فرضتها تلك السلطات الجديدة، والتي دفعت الناس للشعور بالاغتراب عن واقعهم والحَنين إلى زمنٍ أكثر إنسانية وألفة.

إن هذه الذكريات لا تقتصر على مجرد عرض للتغيرات السياسية والأحداث الكبرى، بل تعبّر عن مشاعر الناس وتجاربهم الحياتية التي شكّلت وعيهم وأثرت في نظرتهم للتاريخ. فهي تكشف لنا كيف انعكس العنف والقمع الذي مارسه البعثيون والقوميون على حياة المجتمع، وكيف ساهمت سياساتهم المتشنجة في تعميق الفجوة بينهم وبين الشعب. تبنيهم للأفكار العنصرية ومحاولاتهم فرض ثقافة غريبة عززا الشعور بالاختناق والرغبة في التمسك بماضٍ ربما كان أفضل مما أتى بعده.

من هذا المنظور أرى توثيق هذه الروايات الشخصية ضرورياً لإعادة النظر في التاريخ بطريقة أكثر شمولية وإنسانية. إنها تؤمن لنا فرصة لفهم الأحداث الجسيمة وتأثيرها الكامن في الحياة اليومية والوجدان الجماعي للمجتمع. كذلك تُبرز أهمية حفظ هذه التجارب لتبقى شاهداً على حقبة ماضية بكل تناقضاتها وآلامها وآمالها، ولتُعرض للأجيال القادمة كجزء من تراثهم التاريخي الذي يحمل في طياته دروساً لا تُقدر بثمن.



#حميد_كشكولي (هاشتاغ)       Hamid_Kashkoli#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عهد القسوة في عهد ترامب
- كيان كردي صديق لتركيا في روج آوا
- تأملات في قصيدة فرات اسبر -كما يمرُّ الماءُ من فم ِالحَجر-
- حناجر الينابيع
- انقلاب 8 شباط وكلام مختلف
- اتحاد الجسد والروح في شعر فروغ فرخزاد
- قارب المغيب
- الأكاذيب التي أطلقها ترامب في بداية ولايته
- المسرح المتهالك
- سيمفونية الفوضى
- أثرياء مسالمون لا يؤمنون سوى بالحرب الطبقية
- رداً على هجوم شبح يتسكع في الحوار المتمدن
- الابداع والمنفى
- الموت من أجل كلية: هل يستطيع أحد أن يمنع السوق السوداء المزد ...
- ومضات عدنان الصائغ
- معجزة رأسمالية الدولة والصراع الطبقي في الصين
- يلدا انتصار النور على الظلام وبداية دورة جديدة
- استغلال الدين لترسيخ العرش سلاح ذو حدين
- قراءة في رؤية أدونيس حول التغيير في سوريا
- رجلنا في دمشق: دور سوريا في توظيف غرف التعذيب لصالح وكالة ال ...


المزيد.....




- شاهد كيف سخر كوميدي من محاولة وزارة الزراعة الأمريكية تعيين ...
- انطلاق مهرجانRT الدولي للأفلام الوثائقية
- الرئيس بارزاني يستقبل رئيس مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والف ...
- لماذا تلهم -تفاهة الشّر- سوريّي اليوم؟
- كنز العراق التاريخي.. ذاكرة وطن في مهب الريح بين بغداد وواشن ...
- مهرجان -ربيع ماسلينيتسا- في مسقط: احتفاء بالثقافة الروسية
- مشاركة الممثلين عن قائد الثورة الاسلامية في مراسم التشييع
- ماتفيينكو تدعو إلى تجديد النخبة الثقافية الروسية بتضمينها أص ...
- جدل حول مزاد للوحات الفنية بواسطة الذكاء الاصطناعي ومخاوف من ...
- توغل بفن الراب والثورة في -فن الشارع- لسيد عبد الحميد


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - حميد كشكولي - سرّ محبة الزعيم