أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - سُّلْطَة المُثَقَّف أَمْ مُثَقَّف السُّلْطَة















المزيد.....



سُّلْطَة المُثَقَّف أَمْ مُثَقَّف السُّلْطَة


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8261 - 2025 / 2 / 22 - 18:26
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ ؟
المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ هُوَ مُصْطَلَحُ يُطْلَقُ عَلَى المُثَقَّف الَّذِي قَرَّرَ التَّنَازُلِ عَنْ إسْتِقْلَالِيَّتِه الْفِكْرِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة مِنْ أَجْلِ الْمَصَالِح الشَّخْصِيَّة وَالْمَادِّيَّة. هَذَا النَّوْعِ مِنْ المُثَقَّفِين يَقُوم بِتَوْظِيف خَبَرُاته وَثَقَافَتِه لِخِدْمَة أَجْنَدات وَأَهْدَافُ جِهَاتٍ أُخْرَى، بَدَلًا مِنْ إسْتِخْدَامِهَا لِخِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْقَضَايَا الْعَامَّة.وَ جَوْهَرٍ مُشْكِلَة "المُثَقَّف الإنْتِهَازِيّ هُوَ فقْدَانِه لِلِإسْتِقْلَالِيَّة الْفِكْرِيَّة وَ النَّزَاهَة الْأَخْلَاقِيَّة، حَيْثُ يُصْبِحُ مُسْتَعِدًّا لِتَبْرِير أَوِ الدِّفَاعِ عَنْ أَيِّ مَوْقِفٍ أَوْ قَرَارٌ يَصْدُرُ عَنْ جِهَاتِ السُّلْطَة أَوْ النُّفُوذِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ مَدَى صَوَابُهُ أَوْ إنْسِجَامٍه مَعَ قَيِّم الْمُجْتَمَع وَتَطَلُّعَاتِه. وَهَذَا الْأَمْرُ يَنْطَوِي عَلَى خِيَانَةٍ لِلرِّسَالَة الْحَقِيقِيَّة لِلْمُثقف، وَ اَلَّتِي تَتَمَثَّلُ فِي نَقْدٍ الْوَاقِع وَتَقْدِيم الْبَدَائِل الْفِكْرِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ البَنَّاءَة، بِهَدَف إحْدَاث التَّغْيِير الْإِيجَابِيِّ فِي الْمُجْتَمَعِ. فَبَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يَقُومُ "المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ بِإسْتِغْلَال ثَقَافَتِه لِخِدْمَةِ مَصَالِح السُّلْطَة أَوْ الْقوِى المُهَيْمِنَة، وَيُصْبِح بِذَلِكَ مُجَرَّدَ أَدَّاهُ فِي أَيْدِيهِمْ. وَغَالِبًا مَا يَتِمُّ شِرَاء وَلَاءَ هَؤُلَاءِ المُثَقَّفِين عَبَّر تَقْدِيمِ حَوَافِزَ مَادِّيَّةً أَوْ إمْتِيَازَات شَخْصِيَّةً، كَالْمَنَاصِب الْقِيَادَيَّة أَوْ الْجَوَائِز وَ التَّكْرَيمًات، الَّتِي تَجْعَلُهُمْ يَتَنَازَلُونَ عَنِ إسْتِقْلَالِيَّتِهِمْ الْفِكْرِيَّة وَ الْأَخْلَاقِيَّة. وَفِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، قَدْ يَتِمُّ تَهْدِيدِهِمْ وَإبْتِزَازهم لِلْحِفَاظِ عَلَى وَلَائِهِمْ. وَهُنَاكَ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنْ المُثَقَّفِين الَّذِين يَتَحَوَّلُونَ إِلَى "مُثَقَّفِين إنْتِهَازِيين"، كَالَّذِينَ يَتَبَنَّوْن مَوَاقِف مُتَطَرِّفَةً أَوْ مُتَعَصِّبَة مِنْ أَجْلِ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ الْإِعْلَامِيّ، دُونَ التَّرْكِيزِ عَلَى إِثْرَاء الْحِوَار الثَّقَافِيّ وَالْفِكْرِيّ. كَذَلِك الْمُثَقَّفُونَ الَّذِينَ يُصْبِحُون مُجَرَّد "تُجَّار ثَقَافَة"، يَسْعَوْن لِتَسَويق أَنْفُسِهِمْ وَ إِنْتَاجُهم الْفِكْرِيِّ وَالثَّقَافِيِّ بِهَدَف تَحْقِيق الْمَكَاسِب الْمَادِّيَّةِ عَلَى حِسَابِ الْجَوْدَة وَالْمَصْدَاقِيَة. وَبِشَكْلٍ عَامٍ، فَإِنْ ظَاهَرَهُ "المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ" تَعْكِسُ تَرَاجُع دُور المُثَقَّف كَقَائِدِ فِكْرِي وَ نَمُوذَج أَخْلَاقِيّ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَ تَحَوُّلِه إلَى مُجَرَّدِ وَسِيط تِجَارِيٍّ أَوْ شَخْصِيَّةٌ إِعْلَامِيَّة تَابَعَة لِلسُّلطَة. وَهَذَا مَا يُؤَدِّي إلَى أَضْعَافٍ قَدْرِة المُثَقَّف عَلَى النَّقْدِ الْبِنَاء وَ إِحْدَاث التَّغْيِير الْحَقِيقِيِّ فِي الْمُجْتَمَعِ.
إن المُثَقَّف الِانْتِهَازِيّ هُوَ نَوْعٌ مِنْ المُثَقَّفِين الَّذِينَ يُضَحُّونَ بِمَبَادِئِهِمْ وَ قِنٍّاعَاتِهِمْ الْفِكْرِيَّةِ مِنْ أَجْلِ مَصَالِحِهِمْ الشَّخْصِيَّة وَ الْوُصُولُ إلَى السُّلْطَة وَ النُّفُوذ. هَؤُلَاءِ الْمُثَقَّفُون الِإنْتِهَازِيَّون يَتَسَمَّوْن بِالْمَرْوَنَة وَ التَّلَوُّنِ السِّيَاسِيّ وَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّكَيُّفِ مَع الْأَوْضَاع السَّائِدَة بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ طَبِيعَتِهَا. بَدَلًا مِنْ التَّمَسُّكِ بِالْمَبَادِئ وَ الِإلْتِزَام بِالْمَوَاقِف النِّضَالِية، يُفَضِّلُون الصَّمْت وَ التَّحَالُف مَع السُّلْطَة الْقَائِمَة لِحِمَايَة مَصَالِحِهِمْ الذَّاتِيَّة. وَ بِذَلِكَ يَتَمَيَّزُ المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ عَنْ المُثَقَّف الْحَقِيقِيِّ الْمُلْتَزَم بِقَضَايَا مُجْتَمِعَه وَ اَلَّذِي يُوَاجِه السُّلْطَة وَ يَدْفَع ثَمَن مَوَاقِفِه. فَالْحُرِّيَّة وَ الِإسْتِقْلَالِيَّة الْفِكْرِيَّة هِيَ مَا يُمَيِّزُ المُثَقَّف الْمُلْتَزِمُ عَنْ المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ الَّذِي يَسْعَى لِلتِّمَوْضِع فِي السُّلْطَةِ وَ خِدْمَة مَصَالِحِه الشَّخْصِيَّة. وَقَدْ يَلْجَأ المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ إلَى وَسَائِل مُتَعَدِّدَة لِلتَّلَوُّن وَ التَّكِيَّف مَعَ الْأَوْضَاع السِّيَاسِيَّة السَّائِدَة، كَإسْتِخْدَام السَّفْسَطَة وَاللَّعِب بِالْأَلْفَاظ لِتَبْرِير أَخْطَاء السُّلْطَة وَ تَقْدِيمُهَا عَلَى أَنَّهَا حكْمة وَذَكَاء. كَمَا قَدْ يَتَّخِذُ أَدَّوْارا مُتَنَاقِضَةٌ فِي أَنَّ وَاحِد، فَيَبْدُو مِنَّاصرا للثَّوْرَة وَ مُعَارِضًا لِلسُّلطَة فِي مَرْحَلَةٍ، ثُمَّ يَنْضَمُّ لِلطَّرَف الْفَائِزُ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ. وَ مَنْ أَبْرَزَ سِمَاتِ المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ أَيْضًا عَدَمُ الِإكْتِرَاث بِقَضَايَا الْمُجْتَمَع وَ الِإهْتِمَام فَقَطْ بِمَصَالِحِه الشَّخْصِيَّة، أَضَافَة إلَى ضَعْفِ قُدْرَتِهِ عَلَى مُسَايَرَة التَّطَوُّرَات وَ التَّحْوِلَات السِّيَاسِيَّةِ وَ الاإجْتِمَاعِيَّةِ. فَالْخَوْف مِنْ الْمُسَاءَلَة وَ المُوَاجَهَة مَع السُّلْطَة يَجْعَلُه يَتَخَلَّى عَنْ دَوْرِهِ فِي تَوْجِيهِ الْمُجْتَمَع وَ مُعَالَجَة قَضَايَاه. وَ يُمْكِنُ تَصْنِيف هَؤُلَاء المُثَقَّفِين الِإنْتِهَازِيَّيْن ضَمِنَ فَئات مُتَعَدِّدَة كـ"المُثَقَّف السِّيَاسِيِّ اللَّامنتمي" أَوْ "المُثَقَّف الَّذِي فقِدَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُسَايَرَة التَّحَوُّلَات". وَلَا يَنْحَصِرُ وُجُودِهِمْ فِي إِطَارِ مُعَيَّنٍ بَلْ قَدْ نَجِدُهُمْ فِي مُخْتَلَفٍ الْمَجَالَات الفِكْرِيَّةُ وَ الثَّقَافِيَّةُ وَ السِّيَاسِيَّة. وَ فِي سِيَاقِ مُحَدَّد، تَنْتَشِر ظَاهِرة المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ، حَيْثُ يَتِمُّ إسْتِغْلَال هَؤُلَاء المُثَقَّفِين مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الأَحْزَاب وَ التَّيَّارَات السِّيَاسِيَّة لِتَسَويق أَنْفُسِهِمْ وَ الْحُصُولُ عَلَى الْمَنَاصِبِ وَ الِإمْتِيَازَات. وَقَدْ وَصَلَ بَعْضُهُمْ إلَى مَنَاصِب قِيَادية فِي بَعْضِ الْأَحْزَابِ السِّيَاسِيَّةِ بِفَضْلِ هَذِهِ الْمُمَارَسَات الِإنْتِهَازِيَّة. إذَا، المُثَقَّف الِإنْتِهَازِيّ هُوَ نَوْعٌ مِنْ المُثَقَّفِين الَّذِينَ يُضَحُّونَ بِمَبَادِئِهِمْ وَ يَتَخُلُون عَنْ دُورِهِمْ النَّقْدِيّ وَالتَّوَجُّيهَيْ فِي الْمُجْتَمَعِ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ مَصَالِحِهِمْ الذَّاتِيَّة وَ الْوُصُولُ إلَى السُّلْطَة وَ النُّفُوذ، مُعْتَمَدِينَ عَلَى التَّلَوُّن السِّيَاسِيّ وَالتَّكِيَّف مَعَ الْأَوْضَاع الْقَائِمَة بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ طَبِيعَتِهَا.
مَتَى يُصْبِح المُثَقَّف مُجَرَّدُ سِلْعَة ؟
المُثَقَّف يُصْبِحُ مُجَرَّد سِلْعَة عِنْدَمَا يَخْسَر حَصَانَتُه الْحُقُوقِيَّة وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالتَّأْثِير وَالتَّغْيِير، وَيَتَحَوَّلُ مِنْ "قِيمَةِ وَفْق الْمُوجِد" إِلَى "سِلْعَةٍ وَفْق الْمَوْجُود". هَذَا التَّحَوُّلِ قَدْ يَكُونُ إجْبِارِيًّا، بِسَبَبِ عَدَمِ إعْتِرَافِ الْمُجْتَمَع "بِشَرْعِيَّة الثَّقَافَة" وَالنَّظَر لِلْمُثقف عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ "عَالَةً عَلَى الْمُجْتَمَعِ"، خَاصَّةً إذَا لَمْ يَحْصُلْ عَلَى وَظِيفَةِ عُمُومِيَّة. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يَدْخُل المُثَقَّف فِي "شَكِيَّة الْقِيمَة الْخَاصَّةِ بِهِ"، وَ يَفْقِد ثِقَتِه فِي ذَاتِهِ كَمَوْجد وَمَنْتج لِلْمَوْجُودِ، وَيَبْدَأُ فِي النَّظَرِ إلَى نَفْسِهِ كَـ"مَوْجُود بِالتَّشَيُّؤ" لَا كَـ"هُوَ الْمُوجِدُ لِلتِّشيو".
كَذَلِكَ قَدْ يُفْقَدُ المُثَقَّف صِفَةٌ الْفَاعِلِيَّة وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّأْثِيرِ وَ التَّغْيِير عِنْدَمَا يُكْتَفَى بِدُور "الْمُؤَدَّى" بَدَلًا مِنْ دُورِ "الْمُوجِد"، أَيْ عِنْدَمَا يُكْتَفَى بِمُمَارَسَة الثَّقَافَة دُونَ مُحَاوَلَةٍ تَطْوِيرِهِا أَوْ تَوْظِيفُهَا لِإِحْدَاث تَغْيِير حَقِيقِيٌّ فِي الْمُجْتَمَعِ. فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يَتَحَوَّل المُثَقَّف إلَى مُجَرَّدِ نَاقِل لِلثَّقَافَة الْقَائِمَة بَدَلًا مِنْ أَنَّ يَكُونَ مُنْتِجًا لَهَا وَمُؤَثِّرًا فِيهَا. في جَمِيعِ هَذِهِ الْحَالَاتِ، يَفْقِد المُثَقَّف حَصَانَتُه الْحُقُوقِيَّة وَ التَّأَمُّينِيَّة الَّتِي تَكَفَّلَ لَهُ حُرِّيَّةُ التَّعْبِير وَالتَّأْثِير، لِيُصْبِح مُجَرَّد "سِلْعَةٌ" يُمْكِنُ شِرَاؤُهَا وَبَيْعُهَا وَتَوْظِيفِهَا فِي خِدْمَةِ أَهْدَاف وَ أجِنَدَات خَارِجَة عَنْ دَوْرِهِ الْحَقِيقِيّ كَمَثَقف مُنْتِج وَمُؤَثِّرٌ فِي الْمُجْتَمَعِ. وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيب دُورَه الرِّسَالِيّ وَالْإِبْدَاعي، وَ تَحْوِيلِهِ إِلَى مُجَرَّدِ أَدَّاهُ فِي يَدِ السُّلْطَة أَوْ الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّة. هَذَا التَّحَوُّلِ مِنْ "الْمُوجِد إلَى الْمَوْجُودِ" وَمنْ "الْقِيمَةِ إلَى السِّلْعَةِ" غَالِبًا مَا يَكُونُ أُجْبِارِيًّا خَارِجَ إرَادَة المُثَقَّف، فَهُوَ يَنْطَوِي عَلَى تَرَاجُعِ قِيمَة الثَّقَافَة وَ الْمِثْقَف فِي ظِلِّ ضَجِيج مُحِيطٌ بِهِ، بِحَيْثُ صَارَ مُجَرَّد "سِلْعَة" بَدَلًا مِنْ أَنَّ يَكُونَ صَاحِبَ رِسَالَة يَبْحَثُ عَنْ كَشْفِ الْحَقِيقَةِ.
مُثَقَّف السُّلْطَة يَنْجَحْ فِي فَصْلِ نَفْسَهُ عَنْ الْمُجْتَمَع وَ الْحِفَاظِ عَلَى عَلَاقَةِ وَثِيقَة مَع السُّلْطَة، وَ عِنْدَمَا تَتَحَوَّل قِيمَة المُثَقَّف مِنْ كَوْنِهِ قَائِدًا فَكَرِيا وَ أَخْلَاقِيًّا إلَى مُجَرَّدِ سِلْعَة مَتَاجِر بِهَا، فَإِنْ المُثَقَّف فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ يُصْبِح مُجَرَّد سِلْعَة بَدَلًا مِنْ أَنَّ يَكُونَ قِيمَةُ حَقِيقِيَّة. هَذَا التَّحَوُّلِ إلَى مُجَرَّدِ "سِلْعَة" غَالِبًا مَا يَكُونُ إجْبِارِيًّا وَ مَفْرُوضِا عَلَى المُثَقَّف مِنْ الْخَارِجِ فِي ظِلِّ الظُّرُوف الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ الْمُحِيطَةِ بِهِ.
إذَنْ، يُصْبِح المُثَقَّف مُجَرَّدُ سِلْعَة عِنْدَمَا يَفْقِدُ إسْتِقْلَالِيَّتِه وَ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّأْثِيرِ وَالتَّغْيِير، وَيَرْضَخ لِمَنْطق السُّلْطَةَ وَ الْمُصَالَح الضَّيِّقَة، بَدَلًا مِنْ أَنَّ يَكُونَ مُنْتِجًا لِلْقَيِّم وَمُحَفزا لِلْوَعي الْمُجْتَمَعي وَالتَّنْمِيَةِ الْحَقِيقِيَّة. هَذَا التَّحَوُّلِ يُهَدَّد بِتَغْيِيب الدَّوْر الْحَقِيقِيّ لِلْمُثقف وَيَجْعَلُهُ مُجَرَّد قِنَاع زَائِف لِخِدْمَة أَهْدَاف بَعِيدَةٍ عَنْ رِسَالَتِهِ الْأَصِيلَة.
المُثَقَّف وَ التَّحَدِّيَات الِإجْتِمَاعِيَّة السَّائِدَة :
المُثَقَّف مَسْؤُولٌ عَنْ التَّعَامُلِ مَعَ التَّحَدِّيَات الِإجْتِمَاعِيَّة السَّائِدَة مِنْ خِلَالِ دَوْرِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ. فَالْمِثْقَف لَهُ مَسْؤُولِيَّة كَبِيرَةً فِي تَوْجِيهِ الْمُجْتَمَع نَحْو التَّنْمِيَة وَالتَّطَوُّر، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ دُورٌ المُثَقَّف فِي التَّوْعِيَة وَالتَّثْقِيف الْمُجْتَمَعي، نَشْرٌ الْوَعْي وَ التَّثْقِيف حَوْلَ الْقَضَايَا وَ التَّحْدِيَات الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، مِثْلُ الْفَقْر وَ الْبَطَالَة وَ التَّمْيِيز وَ الظُّلْم الِاجْتِمَاعِيّ. التَّوْعِيَة بِالْحُقُوق وَ الْوَاجِبَات الْمَدَنِيَّة وَ الْمُشَارَكَة السِّيَاسِيَّة الْفَاعِلَة. نَشْر ثَقَافَة التَّسَامُح وَ التَّعَايش السُّلَمِيُّ بَيْنَ مُخْتَلِفِ فَئات الْمُجْتَمَع.
دُور المُثَقَّف فِي التَّغْيِيرِ الِإجْتِمَاعِيّ ؟
الْمُسَاهَمَةِ فِي إحْدَاثِ التَّغْيِيرَات الِاجْتِمَاعِيَّة الْإِيجَابِيَّة مِنْ خِلَالِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْحَرَكَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّة وَ السِّيَاسِيَّة، الْقِيَامِ بِدَوْرِ الْمَدَافِع وَ النَّاقِد الْبِنَاء لِلسِّيَاسَات وَ الْمَمَارَسَات الحُكُومِيَّة.
دُور المُثَقَّف فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ المَعْرِفِيّ ؟ الْمُسَاهَمَةِ فِي إنْتَاجِ الْمَعْرِفَة وَتَوْزِيعُهَا وَتَطْبِيقِهَا لِخِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ. طَرْح رُؤى وَ حُلُول إبَدًاعِيَّة لِلتَّحْدِيات الِإجْتِمَاعِيَّةِ السَّائِدَة. تَشْجِيعِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَ التَّفْكِير النَّقْدِيّ لِمُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّة. نَشْر ثَقَافَة التَّعَلُّم الْمُسْتَمِرّ وَ الِابْتِكَار فِي الْمُجْتَمَع. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يَتَحَمَّل المُثَقَّف مَسْؤُولِيَّةَ كَبِيرَةً فِي تَوْجِيهِ الْمُجْتَمَع نَحْو التَّنْمِيَة وَ التَّطَوُّر مِنْ خِلَالِ أَدْوارِه الْمُخْتَلِفَةِ فِي التَّوْعِيَة وَ التَّثْقِيف وَ التَّغْيِير الِاجْتِمَاعِيّ وَ بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ المَعْرِفِيّ.
المُثَقَّف وَ إكْرَاهًات السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّة :
الْعَلَاقَة الْمُعَقَّدَة بَيْن المُثَقَّف وَ السَّلَطَةِ السِّيَاسِيَّة ؟
الْعَلَاقَةِ بَيْنَ المُثَقَّف وَ السَّلَطَةِ السِّيَاسِيَّة هِيَ عَلَاقَةٌ مُعَقَّدَة وَ دِيناميكَيْة، تَتَّسِمُ بِالْجَدَل وَ النَّقْد الْمُتَبَادَلُ. مِنْ جِهَةِ، تَسْعَى السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ إلَى إِخْضَاع المُثَقَّف وَ تَوْظِيفِه لِصَالِحِهَا، بَيْنَمَا يَسْعَى المُثَقَّف إلَى الْحفَّاظُ عَلَى إسْتِقْلَالِيَّتِه وَ مَوْقِفُهُ النَّقْدِيّ مِنْ السُّلْطَةِ.
إكْرَاهًات السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ عَلَى المُثَقَّف ؟
تَوَاجَه السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ تَحَدِّيَات فِي التَّعَامُلِ مَعَ المُثَقَّف، حَيْثُ إنَّ المُثَقَّف يَتَمَتَّعُ بِقَدْرة نَقْدَيْة وَ فِكْرِيَّة قَوِيَّة قَدْ تُهَدِّد مَصَالِح السُّلْطَة وَ تشَكُّك فِي شَرْعِيَّتِهَا. لِذَلِك، تَسْعَى السُّلْطَة إلَى إِخْضَاع المُثَقَّف وَ إدَّمَاجَهْ فِي آلْيَاتُهَا مِنْ خِلَالِ : إنْشَاءً آلْيَات تَنْظُيمِيَّة وَمُؤسسية لِلسَّيْطَرَة عَلَى المُثَقَّفِين، كَالْمُسَاطر الْقَانُونِيَّة وَ الْإِكْرَاهًات الْمُخْتَلِفَة. إقْصَاء المُثَقَّفِين الْمُسْتَقِلَّيْن وَ النَّقْدِيين، وَ تَفْضِيلُ المُثَقَّفِين الْمُوَالَيَن وَالْمُتَمَلْقِين. تَحْجِيم دُور المُثَقَّف فِي الْمُجْتَمَعِ وَحَصَرَهُ فِي إِطَارِ ضَيِّقٍ لَا يُهَدَّدُ السُّلْطَة. إسْتِغْلَالِ مَوْقِع المُثَقَّف فِي السُّلْطَةِ لِإِعَادَة إنْتَاج أَفْكَارُهَا وَ مَصَالِحِهَا.
إكْرَاهًات المُثَقَّف تُجَاهَ السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ ؟
مِنْ جَانِبِهِ، يُوَاجِه المُثَقَّف إكْرَاهًات عَدِيدَةً فِي التَّعَامُلِ مَعَ السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ، تَجْعَلُهُ فِي مَوْقِفِ صَعْب، الِانْعِزَالُ عَنِ الْمُجْتَمَعِ وَإسْتِخْدَام لُغَة وَ مَفَاهِيم لَا يَفْهَمُهَا الْعَامَّةِ، مِمَّا يَجْعَلُ خِطَابِهِ غَيْرُ مُؤَثِّر. الضُّغُوط لِلإنْخِرَاطِ فِي صُفُوفِ السُّلْطَة وَ التَّخَلِّي عَنْ دَوْرِهِ النَّقْدِيّ. الْفَشَلِ فِي التَّأْثِيرِ عَلَى السِّيَاسَات وَ الْقَرَارَات رَغْم إمْتِلَاكِه الرُّؤْيَة وَ الْخِبْرَة. الْوُقُوعِ فِي فَخٍّ السِّيَاسَة وَ الْمُنَاورَات الْبَرَاغِماتية الْمُتَنَاقِضَةِ مَعَ مَبَادِئِهِ.
التَّوَازُنِ الصَّعْب بَيْن المُثَقَّف وَالسَّلَطَةِ ؟
فِي ظِلِّ هَذِهِ الْإِكْرَاهَات الْمُتَبَادَلَة، تَبْقَى الْعَلَاقَةِ بَيْنَ المُثَقَّف وَ السَّلَطَةِ السِّيَاسِيَّة مَحْفُوفَة بِالتَّوَتُّر وَ الْجَدَل. وَيُتَطَلَّب تَحْقِيقِ التَّوَازُنِ بَيْنَهُمَا أَمْرَيْن أُسَاسِيِّين:
عَلَى السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ أَنْ تُدْرِكَ أَهَمِّيَّة دُور المُثَقَّف فِي تَثْقِيفِ الْمُجْتَمَع وَ دَمُقرطته، وَإِنْ مُحَارَبَتِه يَعْنِي تَعْطِيلَ هَذِهِ الْعَمَلِيَّةِ. عَلَى المُثَقَّف أنْ يَتَفَاعل بِشَكْلٍ إِيجَابِيّ مَع هُمُوم النَّاس وَ قَضَايَاهُمْ، دُون الِإنْخِرَاط فِي آلْيَات السُّلْطَة أَوْ الِإنْعِزَالِ فِي بُرْجِ عَاجِي. فِي النِّهَايَةِ، الْعَلَاقَةِ بَيْنَ المُثَقَّف وَالسَّلَطَةِ السِّيَاسِيَّة هِيَ عَلَاقَةٌ جَدَلِيَّة وَ مَعَقدة تَتَطَلَّبُ تَوَازَنَا صَعْبًا بَيْن مَصَالِح الطَّرَفَيْنِ. وَ عَلَى كُلِّ مِنْهُمَا فهِمَ دُورَه وَ مَسْؤُولِيَّاتِه تُجَاهَ الْمُجْتَمَع لِتَحْقِيق التَّكَامُل وَ التَّفَاعُل الْإِيجَابِيّ.
قِيَادَة الْجَمَاهِيرُ مِنْ أَجْلِ إحْدَاث التَّغْيِير الْإِيجَابِيّ الْجِذْرِيّ :
قِيَادَة الْجَمَاهِيرُ مِنْ أَجْلِ إحْدَاث التَّغْيِير الْإِيجَابِيّ الْجِذْرِيّ هِيَ مُهِمَّةُ بَالِغَةَ الْأَهَمِّيَّةِ وَالتَّعْقِيد. الْقَادَة النَّاجِحُون هُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَسْتَطِيعُون فَهُمْ إحْتِيَاجَات الْجَمَاهِير وَتَطَلُّعَاتهم، وَ تَوْحِيدِهِمْ وَ حفْزهم عَلَى النِّضَالِ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ التَّغْيِير الْمَنْشُود. أَهَمّ سِمَات قِيَادَة الْجَمَاهِير النَّاجِحَة هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّوَاصُلِ الْفعَال مَع الْجَمَاهِير وَالتَّفَاهُم مَعَهُمْ. يَجِبُ عَلَى الْقَائِدِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى التَّحَدُّث بَلَغَة الشِّعْب وَفهِم آرَائِهِمْ وَقِنٍّاعَاتِهِمْ الْعَمِيقَة. كَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى بِنَاء جُسُور الثِّقَة وَ التَّفَاهُم بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْفِئَات وَ التَّوَجُّهَات دَاخِل الْجَمَاهِير. مِنْ خِلَالِ هَذَا التَّوَاصُلُ وَالتَّفَاهُم، يَسْتَطِيع الْقَائِد تَحْلِيل إمْكَانِيَّات وَ مُحَدِّدَات الْجَمَاهِيرِ، وَ وَضَع خُطَط وَ أَسَالِيب فَعَّالَة لِلتَّأْثِير عَلَيْهِمْ وَ حْشٍدهم لِلنِّضَال مِنْ أَجْلِ التَّغْيِير. هَذَا يَشْمَلُ دِرَاسَةِ طَبِيعَةِ الْجَمَاهِير وَ تَصْنِيفِهِمْ إلَى فَئات مُخْتَلِفَة، وَ وَضَع إسْتِرَاتِيجِيَّات مُنَاسَبَةُ لِتَغْيِيرِ آرَائِهِمْ وَ قِنٍّاعَاتِهِمْ وَ تَحْفيزهم عَلَى الْمُشَارَكَةِ الفِعَالَة، كَمَا أَنَّ الْقَائِدَ النَّاجِحُ هُوَ منْ يَتَمَيَّز بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّفَاوُض وَ التَّوَاصُل مَعَ الْأَطْرَافِ الْمُخْتَلِفَةِ، بِمَا فِي ذَلِكَ الْخُصُوم وَ الْأَعْدَاء. فَالْحَوَار وَ التَّفَاهُم هُوَ الْأَسَاسُ لِتَحْقِيق التَّغْيِير الْإِيجَابِيّ وَالشَّامِل. وَعَلَى الْقَائِدِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى بِنَاء تَحَالَفَات وَاسِعَةٌ مَع مُخْتَلَف الْأَطْرَاف الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ. عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، يَجِبُ أَنْ يَتَمَتَّعَ الْقَائِد بِالشَّجَاعَة وَالْجُرْأَة فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَات وَ الصَّعَاب، وَالْقُدْرَةُ عَلَى إلْهَامِ الْجَمَاهِير وَتَحْفيزهم عَلَى الْمُضِيِّ قَدَمًا فِي النِّضَالِ حَتَّى تَحْقِيق أَهْدَافِهِم. فَالْقِيَادَة الفِعَالَة هِيَ الَّتِي تَسْتَطِيعُ تَعْبِئة الْجَمَاهِير وَحْشٍدهم نَحْوُ الكِفَاح الْمُسْتَمِرِّ مِنْ أَجْلِ التَّغْيِير الْجِذْرِيّ وَالشَّامِل. وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الْبَارِزَةُ عَلَى قِيَادَة الْجَمَاهِير النَّاجِحَة مِنْ أَجْلِ التَّغْيِير الْإِيجَابِيّ نَجِد قِيَادَة مَارًّتن لَوْثٌر كَيْنُج فِي الْحَرَكَةِ الْمُنَاهِضَة لِلْعُنْصُرِيَّة فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ، وَقِيَادَة نَيْلِسون مَانْدِيلَّا فِي جَنُوبِ أَفْرِيقْيَا. فَقَدْ تَمَيَّزَتْ قِيَادَتُهُمَا بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّوَاصُلِ وَالتَّفَاهُم مَع الْجَمَاهِير، وَ بِنَاء تَحَالَفَات وَاسِعَةٌ، وَ الْإِصْرَار وَ الشَّجَاعَة فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَات حَتَّى تَحْقِيقِ الْأَهْدَافِ الْمَنْشُودَةِ. قِيَادَة الْجَمَاهِيرُ مِنْ أَجْلِ التَّغْيِير الْإِيجَابِيّ الْجِذْرِيّ هِيَ مُهِمَّةُ شَاقَّة وَمَعَقدة تَتَطَلَّبُ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمَهَارَات وَالصِّفَات الْقِيَادَيَّة الِإسْتِثْنَائِيَّة الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَوَفَّرَ فِي شَخْصِيَّةِ المُثَقَّف الثَّوْرِيُّ وَالقَادَة النَّاجِحُون هُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَسْتَطِيعُون فَهُمْ إحْتِيَاجَات الْجَمَاهِير وَتَطَلُّعَاتهم، وَتَوْحِيدِهِمْ وَ حِفْزهم عَلَى النِّضَالِ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ التَّغْيِير الْمَنْشُود بِكُلِّ شَجَاعَة وَ إِصْرَار.
المُثَقَّف فِي مُوَاجَهَةِ النَّيوليبْرَالِيَّة ؟
النَّيوليبْرَالِيَّة، كَنِظَامٍ إقْتِصَادِيّ وَسِيَاسِيّ، قَدْ أَثَّرَتْ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ عَلَى دُورِ المُثَقَّف فِي الْمُجْتَمَعِ وَطَرِيقَة تَفْكِيرِه وَمُمَارَسَة نَشَاطَه. هَذَا التَّأْثِيرِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ مِنْ عِدَّةِ جَوَانِب:
دُورٌ المُثَقَّف تَحْتَ النَّيوليبْرَالِيَّة :
تَرَاجُعُ دُور المُثَقَّف وَهَيْبَتِهِ: لَقَدْ بَدَأَ الْخَطَّاب حَوْل "نِهَايَة المُثَقَّف" مُنْذُ إنْهِيَار الْإِمْبِرَاطُورِيَّة الْمَارْكِسِيَّة السِّيَاسِيَّة وَظُهُور النَّيوليبْرَالِيَّة كَنِظَامٍ هَيْمَن عَلَى الْعَالِمِ. فَقَدْ تَمَّ تُهْمَيش دُورٌ المُثَقَّف التَّقْلِيدِيّ وَقَلَصَتْ سَلَّطَتْه وَتَأْثِيرُهُ فِي الْمُجْتَمَعِ.
إرْتِبَاطُ المُثَقَّف بِالسُّلْطَةِ وَالنَّفْعِيَّة:
فِي ظِلِّ النَّيوليبْرَالِيَّة، بَاتَ المُثَقَّف أَكْثَرُ إرْتِبَاطًا بِالسُّلْطَة السِّيَاسِيَّة وَالْمُصَالَح الِإقْتِصَادِيَّة، مِمَّا جَعَلَهُ يُدَافِعُ عَنْ النَّظَّامِ الْقَائِم بَدَلًا مِنْ نَقْدِهِ وَتَحَدِّيه. وَأَصْبَحَ المُثَقَّف فِي خِدْمَةِ السُّلْطَة وَ مُحَاوَلَا تَبْرِير سِيَاسَاتِهَا وَ مُمَارَسَاتِهَا.
تَحَوَّل المُثَقَّف إلَى "مُثَقَّف السُّلْطَة":
فِي ظِلِّ هَذِهِ الْهَيْمَنَة النَّيوليبْرَالِيَّة، ظَهَرَ نَوْعٍ جَدِيدٍ مِنْ المُثَقَّفِين يُمْكِن تَسْمِيَتِهِمْ "مُثَقَّفي السُّلْطَةَ"، الَّذِينَ وُجِدُوا مَصَالِحِهِمْ مُرْتَبِطَة بِالنِّظَام الْقَائِم فَدَافَعُوا عَنْهُ حَتَّى النِّهَايَةِ. هَؤُلَاء الْمُثَقَّفُون أَصْبَحُوا فِي وَضْعِ كَارِيكَاتُورِي، وَكَأَنَّهُمْ بِبَغْات يُرَدِّدُونَ مَا تُرِيدُ السُّلْطَة سِمَاعَه.
المُثَقَّف الْمُنَاضِل فِي مُوَاجَهَةِ النَّيوليبْرَالِيَّة :
الْمُثَقَّفُون الْمُنَاضَلُون: عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا الْوَاقِعِ، فَقَدْ إسْتَطَاعَ بَعْضُ المُثَقَّفِينَ الْمُنَاضَلَيْن وَالتَّقْدِمِّيِّين، مُوَاجَهَة الثَّقَافَة الَّتِي كَانَ يُدَافِعُ عَنْهَا الْمُثَقَّفُون اللِّيبْرَالِيُّون، وَتَقْدِيم نَقْد لِإِذْع لِلنَّيوليبْرَالِيَّة.
المُثَقَّف فِي مُوَاجَهَةِ النَّيوليبْرَالِيَّة: فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَوُّل النَّيوليبْرَالِيّ وَتَأْثِيرُاته الْمُدَمِّرَةِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ، يَجِبُ عَلَى المُثَقَّفِين أَنْ يَتَصَدَّوْا لِهَذَا النِّظَامِ وَيُؤْظِّفُوا مَعَارِفِهِمْ وَقُدُرَاتِهِمْ الْإِبْدَاعِيَّة لِنَقْدِه وَتَقْدِيم بِدَائل إِنْسَانِيَّةُ لَهُ. وَهَذَا مَا يَتَطَلَّبُ وَعْيًا نَقْدًيا عَمِيقًا وَشَجَاعَة فِي الْمُوَاجَهَة.
فِي ظِلِّ الْهَيْمَنَة النَّيوليبْرَالِيَّة عَلَى الْعَالِمِ، تَرَاجُع دُور المُثَقَّف وَ أَصْبَحَ أَكْثَر إرْتِبَاطًا بِالسُّلْطَة وَالْمُصَالَح الْخَاصَّة. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ هُنَاكَ تِيَارًا مِنَ المُثَقَّفِينَ الْمُنَاضَلَيْن وَالتَّقْدِمِّيِّين الَّذِينَ حَاوَلُوا مُوَاجَهَةِ هَذَا الْوَاقِعِ وَ الدِّفَاعِ عَنِ الدَّوْر الْإِنْسَانِيِّ وَالِإجْتِمَاعِيِّ لِلْمُثقف. وَهَذَا يَتَطَلَّب مِنَ المُثَقَّفِينَ الْيَوْم تَطْوِير وَعَى نَقْدِيّ عَمِيق وَشَجَاعَة فِي الْمُوَاجَهَة لِتَقْدِيم بِدَائل إِنْسَانِيَّةُ لِلنَّيوليبْرَالِيَّة المُهَيْمِنَة.
دُور المُثَقَّف فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا ؟ تَزَايَد دُور المُثَقَّف الْعَرَبِيِّ فِي ظِلِّ التَّطَوُّرَات التِّكْنُولُوجِيَّة المُتَسَارِعَة الَّتِى شَهِدَهَا الْعَصْر الْحَالِيّ. لَقَدْ أَصْبَحَ المُثَقَّف فِي الْمُجْتَمَعِ الْعَرَبِيِّ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ دُور مِحْوَرَي فِي تَوْعِيَّةِ النَّاس وَ تَوْجِيهِهِمْ بِشَكْل فُعَالٌ فِي ظِلِّ تِلْك التَّغَيُّرَات الْهَائِلَة.
أَوَّلًا، أَصْبَح المُثَقَّف فِي الْعَصْرِ الرَّقْمِيِّ لَا يَنْحَصِرُ دَوْرِهِ فِي مُجَرَّدِ نَقَل الْمَعْلُومَات، بَلْ تَحَوَّلَ إلَى نَاقِلٍ لِلْمَعْرِفَة وَالْحِكْمَةِ مِنْ خِلَالِ رَبْطُ الْمَعْلُومَاتِ وَتَحْلِيلُهَا وَإسْتِنْتَاج الْحَقَائِقِ وَالدُّرُوس الْمُسْتَفَادَةُ مِنْهَا. فَالْتِكْنُولُوجْيَا الرَّقْمِيَّةِ أَتَاحَتْ إنْفِجَارًا فِي كَمِّيَّات الْمَعْلُومَات الْمُتَاحَة، لَكِنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ تَوْظِيف تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ بِشَكْل عَقْلَانِيّ وَحَكِيمِ يَخْدُم الْمُجْتَمَع.
ثَانِيًا، أَصْبَح دُور المُثَقَّف أَكْثَرُ حَيُّوَية فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا لِلتَّصْدِي لِلتَّحْدِيات النَّاتِجَةُ عَنْهَا. فَالْتِكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَةِ أَحْدَثَتْ تَحَوُّلَات ثَقَافِيَّة وَأَخْلَاقِيَّة عَمِيقَة فِي الْمُجْتَمَعِ، وَالْمِثْقَف مُطَالِبٌ بِمُوَاجَهَة هَذِهِ التَّحَوُّلَاتُ وَتَوْجِيهُهَا نَحْو الِإتِّجَاه الصَّحِيحُ. كَمَا أَنَّ لَدَى المُثَقَّف الْقُدْرَةُ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي الرَّأْيِ الْعَامِّ وَالدَّفْع بِهِ نَحْوُ التَّغْيِير الْإِيجَابِيّ بِإسْتِخْدَام تِلْك التِّكْنُولُوجْيات.
ثَالِثًا، يُوَاجِه المُثَقَّف الْعَرَبِيِّ فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا تَحَدِّيَات جَدِيدَة تَتَمَثَّلُ فِي عَلَاقَتِهِ المُتَوَتِّرَة مَع السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ. فَالْتِكْنُولُوجِيَّات الرَّقْمِيَّةِ قَدْ أَتَاحَتْ دَرَجَة أَكْبَرُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُثقف لِلتَّعْبِيرِ عَنْ آرَاءه وَأَفْكَارَه بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ دُون وُسَطَاء، مِمَّا جَعَلَ تِلْكَ الْعَلَاقَةِ أَكْثَرُ تُؤْتَرا. لِذَا عَلَى المُثَقَّف أنْ يتَعَامَل بِحكْمة مَعَ هَذِهِ التَّطَوُّرَات لِتَعْزِيز دُورَه التَّنْوِيري فِي الْمُجْتَمَعِ.
رَابِعًا، أَثَّرَتْ الثَّوْرَة التِّكْنُولُوجِيَّة عَلَى مَكَانِة المُثَقَّف التَّقْلِيدِيّ وَأُضْعِفَتْ سَلَّطَتْه، حَيْث أَتَاحَتْ لِلْجَمِيع إِمْكَانِيَّة الْوُصُول لِلْمَعْرِفَة وَالْمُشَارَكَةِ فِي إنْتَاجِهَا وَتَدَاوَلَهَا. وَهَذَا يُفْرَضُ عَلَى المُثَقَّف إعَادَةُ تَعْرِيف دُورَه وَأَسَالِيب عَمَلِهِ فِي ظِلِّ هَذِهِ المُتَغَيِّرَات، لِيَسْتَطِيع الْحُفَّاظُ عَلَى دُورِهِ الْقِيَادَيّ فِي الْمُجْتَمَعِ.
خَامِسًا، ظَهَرَ فِي ظِلِّ التَّطَوُّرَات التِّكْنُولُوجِيَّة مَفْهُوم "المُثَقَّف الرَّقْمِيّ" الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّعَامُلِ الْأَمْثَلِ مَعَ التِّقْنِيَّات الْحَدِيثَة وَإسْتِخْدَامُهَا فِي نَشْرِ ثَقَافَة التَّنْوِير وَالتَّحْدِيث. وَهَذَا النَّمَط الْجَدِيدِ مِنْ المُثَقَّفِين مُطَالَبٌ بِأَنْ يَقُودَ عَمَلِيَّةِ التَّحَوُّلِ الرَّقْمِيّ فِي الْمُجْتَمَعِ وَيُوَجِّهُهَا نَحْوَ الْأَهْدَافِ الْمَنْشُودَةِ.
وَبِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ دُورَ المُثَقَّف الْعَرَبِيِّ فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا أَصْبَح أَكْثَر أَهَمِّيَّة وَتَعْقِيدٌا. فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْقِيَام بِدُور رَائِد فِي تَوْجِيهِ التَّغَيُّرَات التِّكْنُولُوجِيَّة نَحْو خِدْمَةَ الْمُجْتَمَعِ، وَالتَّصَدِّي لِلتَّحْدِيات النَّاتِجَةُ عَنْهَا، وَأَعَادَهُ تَعْرِيف مَكَانَتَهُ فِي ظِلِّ المُتَغَيِّرَات المُتَسَارِعَة.
التَّحَدِّيَات وَالْمَسْؤُولِيَّات الْجَدِيدَة لِلْمُثقف ؟
عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَهَمِّيَّةِ دُور المُثَقَّف فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا، إلَّا أَنَّهُ يُوَاجِه الْعَدِيدِ مِنَ التَّحَدِّيَات وَالْمَسْؤُولِيَّات الْجَدِيدَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ :
ضَرُورَةً التَّكَيُّف مَع التَّطَوُّرَات التِّكْنُولُوجِيَّة السَّرِيعَة وَإسْتِيعَابُهَا بِشَكْل فَعَّال لِتَوْظِيفِهَا فِي تَنْوِيرِ الرَّأْيِ الْعَامِّ وَتَوْجِيهُه نَحْو الْأَهْدَاف المَنْشُودَة. التَّصَدِّي لِلتَّحَوُّلَات الثَّقَافِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة الَّتِي تَفْرِضُهَا التِّكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَةِ، وَتَوْجِيهُهَا نَحْو الْحُفَّاظُ عَلَى الْقَيِّمِ وَالْهَوَية الثَّقَافِيَّة. تَعْزِيز إسْتِقْلَالِيَّة المُثَقَّف وَحُرِّيَّتُهُ فِي التَّعْبِيرِ وَالنَّقْد، وَالتَّعَامُل بِحكْمة مَع التَّوَتُّر فِي عَلَاقَتِهِ مَعَ السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ. إعَادَةُ تَعْرِيف دُور المُثَقَّف وَأَسَالِيبَ عَمَلِهِ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ التَّغَيُّرَات النَّاجِمَةِ عَنِ الثَّوْرَة التِّكْنُولُوجِيَّة، وَالْحِفَاظُ عَلَى مَكَانَتِهِ الْقِيَادَيَّة فِي الْمُجْتَمَع. قِيَادَة عَمَلِيَّةِ التَّحَوُّلِ الرَّقْمِيّ فِي الْمُجْتَمَعِ وَتَوْجِيهُهَا نَحْوَ تَحْقِيقِ التَّنْمِيَة وَالتَّقَدُّم الْمَنْشُود.
الِإسْتِفَادَةَ مِنْ التِّقْنِيَّات الحَدِيثَةِ فِي نَشْرِ الْوَعْي الثَّقَافِيّ وَالْفِكْرِيّ، وَالْمُسَاهَمَةِ فِي بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ الْمَعْرِفَة.
بِالتَّالِي، فَإِنْ المُثَقَّف فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا مُطَالَبٌ بِأَنْ يَكُونَ مُتَفَاعِلُا مَعَ التَّطَوُّرَات التِّقْنِيَّة وَمُسْتَوْعِبًا لَهَا، وَقَادِرًا عَلَى تَوْظِيفُهَا فِي تَحْقِيقِ دُورَه التَّنْوِيري وَالْإِصْلَاحِيّ فِي الْمُجْتَمَعِ. كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّى لِلتَّحْدِيات النَّاتِجَةُ عَن هَذِهِ التَّطَوُّرَات بِحكْمة وَمَوْضُوعِيَّة، وَأَنْ يُعِيدَ تَعْرِيف مَكَانَتِه وَأَسَالِيب عَمَلِهِ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْمَرْحَلَة الرَّاهِنَة.
المُثَقَّف وَ الشَّرّ الْيَوْمِيّ ؟
فِي ظِلِّ الْوَاقِع الْمُعَاصِر، تَلْعَب شَرِيحَة المُثَقَّفِين فِي الْمُجْتَمَعِ دُورًا مُحَوَّريا فِي التَّأْثِيرِ عَلَى الْمَسَارَات الْحَضَارِيَّة وَالْفِكْرِيَّة وَالسُّلُوكِيَّة لِلْأَمَة. وَمَنْ الْمُؤْسِف أَنْ نَشْهَدَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إنْحِرَافًا قِيَمِيًّا وَأَخْلَاقِيًّا وَفِكْرِيًّا فِي خِطَابَاتِ وَمَوَاقِف وَتَحْرَكَات بَعْضُ مَنْ يَنْتَمُون لِهَذِه الشَّرِيحَة الْمُفْتَرَضِ أَنْ تَكُونَ الْأَكْثَر وَعْيًا وَحَصَانَة فِي مُوَاجَهَةِ النَّزَعَات الِانْهِزَامِيَّة و التَّحْرِيفية
أَصْبَحَ المُثَقَّف الْيَوْمَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عِبْئًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ بَدَلًا مِنْ أَنَّ يَكُونَ قَائِدًا وَمُوجها لِلْقَيِّمِ النَّبِيلَة وَالْأَفْكَار السَّامِيَة. فَبَدَلًا مِنْ أَنَّ يَكُونَ المُثَقَّف حَامِي قِيَمِ الْخَيْرِ وَالْجَمَال وَ الْحُرِّيَّةَ وَالْكَرَامَةَ لِمُجْتَمَعٍه، نَجِدُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يُمَهِّد فِي خِطَابَاتِه لِضَرُورَةِ إسْتِدْعَاء الْمُحْتَلّ إلَى أَقْطَارِ الْعَربية أَوْ يُحَاوِل غَرَس قَيِّم بِلَا قِيَمٍ وَبِذَور أَفْكَارَ فَاسِدَة مُجَرَّدَةِ مِنْ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيَّةِ
كَمَا نَشْهَدُ بَعْضُ المُثَقَّفِينَ الِإنْهِزَامِيَّين يُشَكِّكُونَ فِي المُثَقَّفِين الْمُنَاضلَيْن وَيَطْعَنُونَ فِيهِمْ مَنْ الْخَلَف، مُتَّهَمَيْن وَمُقْزِمِين لَهُمْ. وَهَذَا الْأَمْرُ بِالطَّبْع يَنْطَوِي عَلَى خُطُورة كَبِيرَة، فَالْمِثْقَف الْمُفْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ حَامِل مِشْعَل التَّنْوِير وَ التَّغْيِيرَ فِي الْمُجْتَمَعِ قَدْ أَصْبَحَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ نَاقِلًا لِلْأَفْكَار الْهَدَّامَة و الأُطْرُوحَات الْفِكْرِيَّة الَّتِي تَسَوَّقَ لِلْعَدَمِيِّة وَ الْعَبَثِيَّة وَلَا نَنْسَى أَيْضًا ظَاهِرُهُ المُثَقَّفِين الَّذِينَ يَنْقُلُونَ الأَخْبَارَ وَ الشَّائِعات بَدَلًا مِنْ أَنَّ يَكُونُوا مُنْتَجين لِلْأَفْكَار وَالْحُلُول البَنَّاءَة لِلْمُجْتَمَع. فَهَؤُلَاء الْمُثَقَّفُون أَصْبَحُوا مُتَّبِعِين وَخَاضْعَيْن بَدَلًا مِنْ أَنَّ يَكُونُوا قَادَة وَمَرَّشِدِين
أَسْبَابُ إنْحِرَاف المُثَقَّف :
هُنَاكَ عِدَّةِ أَسْبَابٍ قَدْ تُؤَدِّي إلَى إنْحِرَافٍ بَعْضُ المُثَقَّفِينَ وَ إبْتِعَادهم عَنْ رِسَالَتُهُمْ النَّبِيلَة، مِنْهَا:
الِإفْتِقَار لِلشَّجَاعَة الْأَدَبِيَّة لِلنَّقْد الذَّاتِيّ وَالتَّسَرُّع فِي الظُّهُورِ وَ الْحُصُولُ عَلَى الشُّهْرَة. الِإنْفِصَالِ عَنْ الْهُمُومِ وَالْقَضَايَا الْحَقِيقِيَّة لِلْمُجْتَمَع وَالِإنْغِمَاسِ فِي الْجَدَلِ الْعَقِيم وَالْمُنَاورَات السِّيَاسِيَّة الضَّيِّقَة، ضَعْفُ الْوَازِعِ الْأَخْلَاقِيِّ وَالْقِيَمِيّ لَدَى بَعْضُ المُثَقَّفِينَ، مِمَّا يَجْعَلَهُمْ عرْضة لِلِإنْجِرَار وَرَاء أَفْكَار هَدَّامَة وَمَوَاقِف مُنْحَرِفَة
الِإغْتِرَاب الْفِكْرِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ عَنْ الْأَمَةِ وَالتَّأَثُّر بِثِقَافَات وَ أَفْكَارِ وَافِدَة لَا تَتَنَاسَبُ مَعَ هَويتنا وَقِيَمِنَا
دورٌ المُثَقَّف الْحَقِيقِيِّ :
فِي الْمُقَابِلِ، هُنَاك نَمَاذِج مُتَمَيِّزَةً مِنْ المُثَقَّفِين الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ دُورٌ رِيَادي فِي الْإِيقَاظ الصَّحوي وَالْإِيقَاظ الْفِكْرِيّ وَالْإِقْلَاع الْحَضَارِيّ لِلْأَمَة. فَالْمِثْقَف الْحَقِيقِيِّ هُوَ الَّذِي يَتَحَلَّى بِالمَوْضُوعِيَّة وَالصِّدْقُ فِي طَرْحِ الْقَضَايَا، وَيَكُون حَامِل رِسَالَة التَّنْوِير وَ الحُرِّيَّةِ و التَّقَدُّم لِمُجْتَمَعٍه، كَمَا أَنَّ عَلَى المُثَقَّف إنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ النَّسِيجُ الِإجْتِمَاعِيُّ وَ الثَّقَافِيّ لِلْأَمَة، مُنْخَرِطًا فِي هُمُومَهَا وَمُشَارِكًا فِي صِنَاعَةٍ التَّغْيِير الْإِيجَابِيّ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ يُنْتِج الْفِعْل الثَّقَافِيّ الْبِنَاء، وَ يَتَفَرَّغ لِلْفِكْرَ وَالْإِبْدَاع بَعِيدًا عَنْ الْمُنَاوَرَات وَالشَّائِعات. إنْ المُثَقَّف الْحَقِيقِيِّ هُوَ مِنْ يُدْرِكْ مَسْؤُولِيَّتَه الْكَبِيرَةِ فِي قِيَادَةٍ الْمُجْتَمَع نَحْو الأَفْضَلِ، وَذَلِكَ بِالتَّحَلِّي بِالمَوْضُوعِيَّة وَ الْأَمَانَة الْفِكْرِيَّة وَالْمَسْؤُولِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة و الشَّجَاعَة الْأَدَبِيَّة فِي مُوَاجَهَةِ التَّحْرِيفية الْهَدَّامَة و الِإنْهِزَامِيَّة السَّامَة فِي كَافَّةِ أَشْكَالِهَا وَ عَدَمُ الْإِنْسِيِّاق خَلْفَ الْمَنْفَعَة الْمَادِّيَّة الْآنِيَة و الْمَصْلَحَة الشَّخْصِيَّة الضَّيِّقَة.
المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ ؟
المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ هُوَ الشَّخْصُ الَّذِي يَضَعُ الْإِنْسَانَ فِي مَرْكَزِ إهْتِمَامِه وَرُؤْيَتُه لِلْعَالِم. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ المُثَقَّفِين يَخْتَلِفُ عَنْ الْأَنْوَاعِ الْأُخْرَى الَّتِي قَدْ تَضَع أَيْدُيُولُوجِيَّات أَوْ مَصَالِحِ خَاصَّةً فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ. إنْ المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ هُوَ "إنْسَانٌ كُونِي"، أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي ظَرْفِهِ التَّارِيخِيّ أَوْ الثَّقَافِيّ، بَلْ لَدَيْه رُؤْيَة مِهْنِيَّة قَدِيمَةً جِدًّا تَتَمَثَّلُ فِي الْبَحْثِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَة وَالْعَامَّة لِلْإِنْسَانِيَّة. فَالْمِثْقَف الْإِنْسَانِيِّ ينْظَرُ إلَى الأَدِيب وَالْفِنَان وَالْمُفَكِّر وَالْعَالِمُ وَ الْمُخْتَرَع عَلَى أَنَّهُمْ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ السِّيَاسِيّ، بِإعْتِبَارِ أَنَّهُمْ قَدمُوا خِدْمَات أَسَاسِيَّة لِلْإِنْسَانِيَّة وَيَسْتَحِقُّون التَّبْجِيل وَ الِاحْتِرَام. وَمَنْ صِفَات المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ الِإلْتِزَام وَالْوَعْي الِإجْتِمَاعِيّ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى رُؤْيَةِ الْمُجْتَمَع وَالْوُقُوفِ عَلَى مُشَاكَلَةِ وَخَصَائِصُه وَمَلامِحِه، وَمَا يَتبُعُ ذَلِكَ مِنْ دُورِ فِي إصْلَاحِهِ وَ تَطْوِيرِه. كَمَا أَنَّ المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَائِفِيًّا أَوْ مَذْهَبِيًّا أَوْ مَحَلِّيًّا يُدَافِعُ عَنْ فئة مُعَيَّنَةً فَقَطْ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَوْنِيا يُنْظَرُ لِلْإِنْسَانِيَّة بِشِمَوَلِيِّة. وَبِذَلِكَ فَإِنَّ المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ هُوَ الَّذِي يَقِفُ مَعَ الْحَقِّ وَالْعَدَالَةِ وَالمَظْلُومِين حَتَّى لَوْ كَانُوا مِنْ أَعْدَائِهِ، فَهُوَ لَا يَنْحَازُ إِلَى جَمَاعَةٍ أَوْ قَضِيَّةٌ بِعَيْنِهَا بَلْ يَنْصُر الْحَقّ وَالْإِنْسَانِيَّة بِشَكْلٍ عَامٍّ. وَيَتَمَيَّزُ المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ بِأَنَّه شَخْص مُتَوَازِن الشَّخْصِيَّةُ، يَتَعَامَلُ مَعَ الْأَشْيَاءِ بِعَقْلَانِيَة وَمَوْضُوعِيَّة، وَتُؤَثِّر الْمَعْرِفَة وَ الثَّقَافَةِ فِي سُلُوكِهِ وَتَوَجَّهَاتِه. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إلَى مُصْطَلَح "المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ" عَلَى أَنَّهُ مَفْهُومُ مِثَالَيْ خَيَالِيّ لَا يُمْكِنُ إسْقَاطُهُ عَلَى أَيِّ شَخْصٍ بِمُفْرَدِهِ. فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الثَّقَافَة هُوَ تَهْذِيبٌ النُّفُوس وَالسُّمُوّ بِهَا نَحْوُ الرِّفْعَة وَالرُّقَي، فَإِنَّ هُنَاكَ مِنْ المُثَقَّفِين مَنْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْوَصْفِ. وَلَعَلَّ أَبْرَز نَمَاذِج المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ هِي شَخْصِيَّة "الْعَلَّامَة الْإِنْسَانِيِّ" الَّتِي كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى النُّخْبَةِ المُثَقَّفة الَّتِي أُطْلِقَتْ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهِيَ الشَّخْصِيَّة الْمِلَّتَئمة فِيهَا الْمَعَارِف الفَنِّيَّة وَالْأَدَبِيَّة وَالفَلْسَفِيَّة وَالْعَلَمِيَّة وَالْإِنْسَانِيَّة، وَمَنْ التَّحَدِّيَات الَّتِي تُوَاجِهُ المُثَقَّفِين الْيَوْمِ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ قُيُودِ الْمَذْهَبِيَّة وَالطَّائِفِيَّة وَالْقَبْلِيَّةُ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى وَعي عَال لِلتَّخَلُّص مِنْهَا، حَتَّى يَتَسَنَّى لِلْمُثقف الْإِنْسَانِيِّ أَنْ يُؤَدِّيَ دَوْرَهُ فِي إصْلَاحِ الْمُجْتَمَع وَنَهْضَتِه دُون إنْحِيَاز أَوْ تَحَيَّز. وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أَنَّ المُثَقَّف الْإِنْسَانِيِّ هُوَ الشَّخْصُ الَّذِي يَضَعُ الْإِنْسَانَ فِي صُلْبِ إهْتِمَامِه وَرُؤْيَتُه لِلْعَالِم، وَيَتَسم بِالِإلْتِزَامِ وَ الْوَعْي الِاجْتِمَاعِيّ وَالنَّزْعَة النَّقْدِيَّة وَالْعَدَالَة وَالْمَوْضُوعِيَّة، وَ يَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِ الْخَيْر وَالنَّهْضَة لِلْإِنْسَانِيَّة كَكُلّ دُون تَحَيَّز أَوْ إنْحِيَاز.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَقَال فِي الأَسْئِلَةُ الْوُجُودِيَّة الْكُبْرَى
- ثَمَنِ قَوْلِ الْحَقِيقَةِ فِي مُجْتَمَعَاتٍ النِّفَاق وَالت ...
- جَدَلِيَّة الْفَلْسَفَة و التَّفَلُّسِف


المزيد.....




- -أمريكا ليست وجهتنا-..أوروبيون يقومون بإلغاء رحلاتهم إلى الو ...
- شاهد حجم الدمار الذي خلفته غارة إسرائيلية على مستشفى الأهلي ...
- إيران: قد يتغير مكان المفاوضات النووية.. وعلى أمريكا حل -الت ...
- تحذيرات من عاصفة شمسية قد تدمر العالم الرقمي وتعيدنا إلى الق ...
- الاتحاد الأوروبي يعلن عن مساعدات لفلسطين بـ1.6 مليار يورو
- باريس تقول إن الجزائر طلبت من 12 موظفاً بالسفارة الفرنسية مغ ...
- لماذا تحتاج واشنطن إلى أوروبا لإنجاح الجولة الثانية من المفا ...
- بوادر أزمة جديدة.. الجزائر تطلب مغادرة 12 موظفا بسفارة فرنسا ...
- آثار زلزال طاجيكستان (فيديوهات)
- محمد رمضان يرتدي -بدلة رقص- مثيرة للجدل


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - سُّلْطَة المُثَقَّف أَمْ مُثَقَّف السُّلْطَة