قاسم محمد داود
كاتب
(Qasim Mohamed Dawod)
الحوار المتمدن-العدد: 8261 - 2025 / 2 / 22 - 13:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في قلب الشرق الأوسط، يتربع العراق على ثروة نفطية هائلة تجعله واحداً من أغنى دول العالم من حيث الموارد الطبيعية. وهو أحد أهم البلدان المنتجة للنفط في العالم، يتمتع بثروة طبيعية هائلة تجعله قادراً على تحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي لشعبه. ومع ذلك، فإن الواقع يعكس تناقضاً صارخاً بين إمكاناته الاقتصادية الكبيرة وانتشار الفقر بين أجزاء كبيرة من سكانه. فكيف يمكن لبلد يمتلك أحد أكبر احتياطيات النفط العالمية أن يعاني من معدلات فقر مرتفعة؟ هذا السؤال يفتح الباب أمام تحليل الأسباب الكامنة وراء هذه المعضلة والبحث عن حلول ممكنة..
باحتياطيات نفطية تُقدّر بأكثر من 145 مليار برميل، وإنتاج يومي يصل إلى 4.5 مليون برميل، وفقاً لإحصائيات عام 2023، مما يجعله ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك بعد السعودية. ويُعتبر العراق لاعباً رئيسياً في سوق الطاقة العالمية. ومع ذلك، فإن هذه الثروة الضخمة لم تمنع انتشار الفقر بين أفراد شعبه، حيث يعيش أكثر من 31.7% من العراقيين تحت خط الفقر، وفقاً لأحدث الإحصاءات. هذا التناقض الصارخ بين الثروة الوطنية والواقع المعيشي للمواطنين يطرح تساؤلات عميقة حول أسباب استمرار الفقر في بلد يتمتع بإمكانيات اقتصادية هائلة. من خلال هذا المقال، سنحاول تسليط الضوء على الأسباب الكامنة وراء هذه المعضلة، ونستعرض بعض الحلول.
يمتلك العراق احتياطيات نفطية تُقدّر بأكثر من 145 مليار برميل، مما يجعله في المرتبة الخامسة عالمياً من حيث احتياطيات النفط. وتشكل عائدات النفط ما يقارب 90% من إيرادات الدولة، حيث بلغت العائدات النفطية في عام 2022 حوالي 115 مليار دولار. مما يعني أن الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل شبه كلي على هذا القطاع. ومع ذلك وبالرغم من هذه الأرقام الضخمة، فإن هذه الثروة لم تترجم إلى تحسن ملموس في مستوى معيشة المواطن العراقي العادي. وفقاً لتقارير البنك الدولي، يعيش حوالي 31.7% من العراقيين تحت خط الفقر، أي ما يعادل حوالي 12 مليون عراقي، بينما يعاني حوالي 10% من السكان من فقر مدقع. هذه الأرقام تكشف عن فجوة كبيرة بين الثروة الوطنية وتوزيعها العادل.
أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار الفقر في العراق هو سوء إدارة الموارد وعدم وجود نظام عادل لتوزيع الثروة. فبالرغم من العائدات الضخمة التي يحققها النفط، فإن الفساد المالي والإداري يستنزف جزءاً كبيراً من هذه الأموال. وفقاً لتقارير Transparency International، يُعد العراق من بين أكثر البلدان فساداً في العالم، حيث يتم تحويل مليارات الدولارات إلى جيوب المسؤولين الفاسدين بدلاً من استثمارها في مشاريع تنموية تعود بالنفع على المواطنين.
لعب عدم الاستقرار الأمني والسياسي دوراً كبيراً في تفاقم مشكلة الفقر في العراق. فمنذ الغزو الأمريكي عام 2003، عانى العراق من حروب أهلية وصراعات طائفية وتصاعد للإرهاب، خاصة مع ظهور تنظيم داعش في عام 2014. هذه الأحداث أدت إلى تدمير البنية التحتية للبلاد ونزوح ملايين العراقيين من ديارهم، مما زاد من حدة الفقر والبطالة.
كما أن النظام السياسي الهش والقائم على المحاصصة الطائفية أدى إلى إضعاف قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم. وبدلاً من التركيز على التنمية الاقتصادية، انشغلت الحكومات المتعاقبة بصراعات داخلية على السلطة والموارد، مما أثر سلباً على حياة المواطنين.
يعتمد الاقتصاد العراقي بشكل كبير على قطاع النفط، مما جعله اقتصاداً أحادي الجانب وضعيف التنوع. وبالرغم من أن النفط يوفر عائدات كبيرة، إلا أنه لا يوفر فرص عمل كافية للشباب العراقي. حيث تشير الإحصاءات إلى أن معدل البطالة بين الشباب يتجاوز 25%، وهي نسبة مرتفعة جداً تعكس عدم قدرة الاقتصاد على استيعاب الأيدي العاملة.
كما أن القطاعات الأخرى مثل الزراعة والصناعة تعاني من الإهمال والتدهور بسبب نقص الاستثمارات والسياسات غير الفعالة. فبعد أن كان العراق يُعرف بـ "سلة غذاء العالم" بسبب خصوبة أراضيه ووفرة مياهه، أصبح اليوم يستورد معظم احتياجاته الغذائية بسبب تراجع القطاع الزراعي.
العراق يعاني من معدلات فساد عالية أدت إلى سوء توزيع الثروة ونهب المال العام، ما يحرم المواطنين من الاستفادة الفعلية من عائدات النفط. بسبب مجموعة من العوامل التاريخية، السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية التي ساهمت في تفشي الفساد ونهب المال العام، ومن أبرز هذه الأسباب:
1. ضعف المؤسسات والرقابة وغياب مؤسسات رقابية فعالة قادرة على محاسبة الفاسدين. وضعف القضاء وتدخل القوى السياسية في قراراته. وغياب الشفافية في إدارة الأموال العامة والمشاريع الحكومية.
2. نظام المحاصصة الذي قُسمت بموجبه المناصب الحكومية بين الأحزاب والفصائل السياسية جعل الولاء للحزب أهم من الكفاءة والنزاهة. وانتشار ثقافة "المحسوبية" و"الواسطة"، حيث يتم تعيين المسؤولين وفقًا لانتماءاتهم السياسية وليس على أساس الكفاءة.
3. كون الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل شبه كامل على إيرادات النفط، فإن ذلك أدى إلى تدفق أموال ضخمة دون وجود آليات رقابة صارمة، ما سهل الفساد والاختلاس. كما أن قلة الفرص الاستثمارية، وغياب القطاع الخاص القوي، والاعتماد الكبير على التوظيف الحكومي تسبب في انتشار البطالة، ما يؤثر على مستويات المعيشة. يضاف إلى ذلك ضعف الاستثمار في القطاعات غير النفطية جعل الحكومة المصدر الرئيسي للوظائف، مما عزز الرشوة والمحسوبية في التوظيف..
4. عدم الاستقرار السياسي والأمني فالحروب والصراعات المتتالية منذ عقود أضعفت الدولة ومؤسساتها، وخلقت بيئة خصبة للفساد المالي والإداري. وانتشار الميليشيات والجماعات المسلحة التي تسيطر على بعض الموارد وتستخدمها لأغراضها الخاصة. الحروب الصراعات الداخلية، ووجود الجماعات المسلحة أثرت سلبًا على الاقتصاد، وعرقلت الاستثمار، وأدت إلى تهجير السكان، ما زاد من معدلات الفقر. كلك سنوات من الحروب والإهمال أدت إلى تردي الخدمات الأساسية كالكهرباء، المياه، والصحة، ما زاد من معاناة المواطنين، خاصة في المناطق الريفية والجنوبية.
5. ضعف دور الإعلام والمجتمع المدني رغم وجود بعض الصحافة الاستقصائية، إلا أن التهديدات والضغوط السياسية تحد من دور الإعلام في فضح الفساد. أدى ذلك إلى أن المنظمات غير الحكومية تواجه صعوبات في مراقبة الفساد بسبب القيود الحكومية والمخاطر الأمنية.
6. غياب المساءلة والعقوبات الرادعة وعدم محاسبة المسؤولين الفاسدين أو الاكتفاء بإجراءات شكلية دون محاكمات حقيقية. ومن المفارقات أن بعض الفاسدين يتم إعادة توظيفهم في مناصب أخرى بدلًا من معاقبتهم.
7. تهريب الأموال وضعف الاستثمار المحلي. الفاسدون يقومون بتهريب الأموال إلى الخارج بدلًا من استثمارها في الداخل، مما يحرم الاقتصاد العراقي من الاستفادة منها. ومن المعروف أن البيروقراطية والفساد تجعل الاستثمار الأجنبي والمحلي صعبًا، ما يقلل فرص التنمية الاقتصادية.
8. يشكل النفط أكثر من 90% من إيرادات الحكومة، مما يجعل الاقتصاد العراقي عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية، ويؤدي إلى أزمات اقتصادية عند انخفاض الأسعار. رغم وفرة الموارد الطبيعية، إلا أن هناك ضعفًا في التخطيط الاقتصادي والاستثمار في القطاعات غير النفطية، ما يجعل الاقتصاد هشًّا وغير مستدام
9. عدم وجود خطط اقتصادية طويلة الأمد لتنويع مصادر الدخل، وتحسين بيئة الأعمال، ودعم المشاريع الصغيرة، جعل الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع.
الفقر في العراق ليس قدراً محتوماً، بل هو نتاج سوء إدارة الموارد وغياب الرؤية الاستراتيجية. بالرغم من التحديات الكبيرة، فإن العراق يمتلك الإمكانات الكافية لتجاوز هذه الأزمة إذا ما تمت إدارة ثرواته بشكل عادل وفعال. إن معالجة الفقر تتطلب إرادة سياسية حقيقية وإصلاحات جذرية تعيد للعراق مكانته كبلد غني بموارده وثرواته، ويعيش شعبه في رفاهية وكرامة.
أن الحلول الممكنة تتمثل في مكافحة الفساد بآليات فعالة وشفافة. وللتغلب على مشكلة الفقر في العراق، يجب اتخاذ إجراءات جذرية على عدة مستويات وتنويع الاقتصاد والاستثمار في الزراعة والصناعة والسياحة. تطوير القطاع الخاص وتوفير بيئة استثمارية مناسبة. تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية. استثمار عائدات النفط في مشاريع تنموية مستدامة. إذا استمر العراق في الاعتماد الكلي على النفط دون إصلاحات حقيقية، فإن معدلات الفقر قد تبقى مرتفعة رغم الثروة الطبيعية الهائلة التي يمتلكها. لا بد من تنويع مصادر الدخل عبر دعم القطاعات غير النفطية، مثل الزراعة والصناعة والسياحة، مما يوفر فرص عمل جديدة ويقلل من الاعتماد على النفط. يجب استثمار جزء كبير من عائدات النفط في تحسين البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم.
إصلاح النظام القضائي وتعزيزه ليكون مستقلًا وقادرًا على محاسبة الفاسدين. يجب تعزيز الشفافية ومحاسبة المسؤولين الفاسدين لضمان وصول عائدات النفط إلى المواطنين عبر مشاريع تنموية حقيقية. إلغاء نظام المحاصصة السياسية واعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة في التعيينات.
تعزيز الشفافية في إدارة الموارد العامة من خلال نشر تفاصيل العقود والموازنة العامة للجمهور.
تفعيل دور المؤسسات الرقابية مثل هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية ودعمها بالموارد اللازمة.
حماية الصحفيين والناشطين وتشجيع المجتمع المدني على كشف الفساد دون خوف من الانتقام.
فرض عقوبات صارمة على الفاسدين واسترداد الأموال المهربة للخارج.
إذا لم يتم اتخاذ إصلاحات حقيقية وجدية، سيستمر الفساد في استنزاف موارد العراق، مما يؤدي إلى تفاقم الفقر والتخلف الاقتصادي رغم ثروات البلاد الهائلة. تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي هو شرط أساسي لأي تنمية اقتصادية. يجب العمل على حل الخلافات السياسية وتعزيز الوحدة الوطنية. يجب توفير فرص تعليمية وتدريبية للشباب لتمكينهم من دخول سوق العمل، بالإضافة إلى تشجيع ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة.
ولكي لا تكون الصورة قاتمة السواد فأن هناك بوادر تدل على تحرك جدي لمعالجة هذه المعضلة، حيث تشير التقارير الرسمية إلى انخفاض ملحوظ في معدلات الفقر في العراق خلال السنوات الأخيرة. فقد أعلنت وزارة التخطيط العراقية في يناير 2025 أن نسبة الفقر تراجعت إلى 17.6% مقارنة بـ 23% في عام 2023، مما يمثل انخفاضًا بمقدار 5.5 نقاط مئوية خلال عام واحد. وفي ديسمبر 2024، أفاد وزير العمل والشؤون الاجتماعية، بأن نسبة الفقر انخفضت إلى 16.5% على مستوى البلاد، بينما بلغت في محافظة ديالى 18.8%، وذلك استنادًا إلى مخرجات الإحصاء الاجتماعي الاقتصادي المعلن من وزارة التخطيط.
هذا التراجع يُعزى إلى عدة عوامل، أبرزها الجهود الحكومية المبذولة في مجال الحد من الفقر، مثل تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية وتوفير السلة الغذائية عبر نظام البطاقة التموينية، ومع ذلك، تبقى هناك تحديات مستقبلية، خاصة مع التوقعات بزيادة عدد السكان إلى أكثر من 50 مليون نسمة بحلول عام 2030، مما يستدعي استراتيجيات مستدامة لمواصلة خفض معدلات الفقر وتحسين مستوى المعيشة في البلاد.
#قاسم_محمد_داود (هاشتاغ)
Qasim_Mohamed_Dawod#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟