أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - فخ الدُّيُون الخارجية- نموذج سريلانكا في ظلِّ سُلْطة -اليسار-















المزيد.....



فخ الدُّيُون الخارجية- نموذج سريلانكا في ظلِّ سُلْطة -اليسار-


الطاهر المعز

الحوار المتمدن-العدد: 8259 - 2025 / 2 / 20 - 14:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ثوب مَحَلِّي نظيف للإستعمار الجديد

دوافع الكتابة عن الوضع في سريلانكا

أسفرت الإنتخابات الرئاسية والتشريعية سنة 2024 عن انبثاق حكومة وبرلمان "يسارِيَّيْن" بعد حوالي سنتَيْن من انتفاضة شعبية أفْضَت إلى انهيار السلطة السابقة وإجراء انتخابات ديمقراطية، وتُشبه تجربة سريلانكا تجارب أخرى في أمريكا الجنوبية، أو بنغلادش ويُشبه الوضع المالي والإقتصادي لسريلانكا وضْعَ بلدان أخرى مثل كينيا وغانا ومصر وتونس ولبنان وغيرها من البلدان التي كانت على حافة العجز عن سداد الدّيُون، بل عجزت حكومة سريلانكا فعلاً عن سداد أقساط الدّيون التي حل أجلها بنهاية الربع الأول من سنة 2022، فكيف يمكن لأي حكومة أو برلمان أن يُخْرِج البلاد من بَوْتَقَة الدّيُون الخارجية، ناهيك إذا كان الرئيس وأغلبية أعضاء البرلمان يتبنّون – بالأمس القريب- العقيدة الإشتراكية التي غابت أية إشارة لها خلال الحملة الإنتخابية، وهذا منطقي لأن الإنتخابات تجري وفق دستور البلاد الذي يجعل من البوذية وكأنها دين الدّولة والهندوس مُهيْمنين على مؤسسات الدّولة التي تُقدّس المِلْكِيّة الخاصة وتُشرعن الإستغلال وما إلى ذلك من قِيَم رجعية، فهل يُمْكن لأي ائتلاف يساري تغيير الدّستور والثقافة السائدة ومؤسسات الدّولة بدون عراقيل، رغم تَوَفُّر أغلبية الثُّلُثَيْن الضّرورِيّيْن لتغيير الدّستور بواسطة البرلمان؟

من جهة أخرى أظْهرت التجارب إن الإنتفاضات أو الثورات التي لا تقودها القوى الثورية لا تُفْضِي إلى حكم الشعب وإلى تحرّر الطبقة العاملة وصغار الفلاحين والكادحين، فقد تمكن الجيش أو البرجوازية من الإلتفاف على الإنتفاضات والثورات خلال سنتَيْ 1974 و 1975 في الحبشة ومدغشقر والبرتغال واليونان وغيرها، إضافة إلى تجارب ائتلاف "سيريزا" في اليونان و "بوديموس" في إسبانيا، خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ولم يستفد الفُقراء والكادحون الذين أطلقوا هذه الإنتفاضات والثورات من تضحياتهم، ومن غير المُستبعد أن تُطبّق السلطات اليسارية في سريلانكا شروط صندوق النقد الدّولي وتُخصّص جزءًا هاما من إيرادات الدّولة لتسديد الدّيون وفوائدها المرتفعة التي تفوق 8,5%...

لسريلانكا خصوصيات، فهي جزيرة ( سيلان سابقًا) يمتد عمر الإستعمار البرتغالي والهولندي والبريطاني فيها إلى أكثر من 450 سنة، بسبب موقعها وثرواتها وخصوبة أراضيها الزراعية، فهي تقع في مفترق طُرُق وممرّات بحرية، ضرورية للتجارة في آسيا والمُحيطَ الهادئ، واستخدمت الصين هذا الموقع كمحطة في طريق الحرير للتجارة مع إفريقيا وغربي ووسط آسيا وأوروبا، ولا تزال حركة النفط والحاويات تمر بالقُرْبِ من سواحل سريلانكا، ولذلك لم ينقطع اهتمام ونفوذ الصّين بها، وأنشأت الصين أحد أكبر الموانئ العالمية ( ميناء هامبانتوتا )، لكن الصّين تواجه منافسة الهند التي تعتبر سريلانكا فناءها الخَلْفِي، وتواجه منافسة الولايات المتحدة التي تحاول تحويل موانئ البلاد إلى قاعدة لأسطولها السابع وقيادة البحرية الأمريكية في آسيا...



مُلخّص أحداث سنة 2022 ونتائجها

انطلقت أحداث سريلانكا بانتفاضة شعبية فخلال شَهْرَيْ و نيسان/ابريل 2022، واستمرت حتى تموز/يوليو 2022، احتجاجًا على تَضَرُّر العاملين والسّكّان الفقراء من الأزمة التي بدأت منذ الأعمال الإرهابية سنة 2019 وأَدّت إلى تقليص حجم الإستثمارات الأجنبية وإيرادات السّياحة، مُباشرةً قبل انتشار فيروس كورونا ( 2020/2021) وما ترتّب عنه من ركود عالمي، قبل اندلاع حرب أوكرانيا ( شباط/فبراير 2022) التي تسببت في ارتفاع تكلفة الوقود والحبوب والأسمدة التي تستوردها سريلانكا بالعملات الأجنبية الشّحيحة، فضلاً عن قرار رفع أسعار الفائدة من قِبَل المَصارِف المركزية في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا، عند اندلاع حرب أوكرانيا...

أدّت هذه العوامل إلى مصاعب في العديد من الدّول ومن بينها سريلانكا التي عجزت حكومتها عن سداد الدُّيُون ( نيسان/ابريل 2022) ولاقت صعوبات في توفير ثمن واردات الغذاء والأسمدة والوقود، واغتنمت الصناديق الإنتهازية الفرصة لشراء ديون سريلانكا واشتراط نسبة فائدة مرتفعة تصل إلى 15% بدلا من حوالي 8,5%، وانطلقت الإنتفاضة الشعبية احتجاجًا على الغلاء وظروف العيش قبل أن تتحول إلى غضب ضد الرئيس، غوتابايا راجاباكسا، وسُلْطَة عائلته الحاكمة منذ سنة 2005 (باستثناء الفترة بين سَنَتَيْ 2015 و2019)، والتي اشتهرت بنَشْر الفساد والظُّلْم وبنهب ثروات البلاد، وأفْضَت الإحتجاجات إلى اجتياح القصر الرّئاسي وفرار الرئيس راجاباسكا يوم 13 تموز/يوليو 2022 إلى جزر المالديف ثم إلى سنغافورة...

كانت الإنتفاضة تلقائية ولم تُشرف على تنظيمها وقيادتها أي قُوّة سياسية مُنظّمة، تماما كما حدث في تونس ومصر بنهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011، ولذلك تمكّنت عشيرة الرئيس راجاباكسا من تنصيب رانيل ويكريمسينغه رئيسًا بالنيابة إلى أن تم انتخاب الماركسي "التّائب" أنورا كومارا ديساناياكي رئيسًا ( أيلول/سبتمبر 2024)، وما رانيل ويكريمسينغه سِوَى رئيس وزراء الرئيس الهارب راجاباكسا الذي عاد بعد بضعة أشهر دون أن تُثير عودته أي اهتمام...

دعا الرئيس الجديد أنورا كومارا ديساناياكي الفائز بانتخابات أيلول/سبتمبر 2024 إلى انتخابات تشريعية جرت خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وحصل الإئتلاف التّقدّمي ( حزب الشّعب الجديد/الحزب الوطني الجديد) على 63% من الأصوات وأكثر من ثلثي مقاعد البرلمان ( 159 من إجمالي 225) مما يُمكّن الرئيس ومجموعته البرلمانية من إقرار أي قانون أو تغيير الدستور...

يُمثل ما حصَلَ في سريلانكا حَدثًا فريدًا، ولذلك تُعتَبَرُ هذه الأحداث نموذجًا يستحق الدّراسة واستخلاص الدّروس منه، خصوصًا في بُلدان تُعاني شُعوبها من ارتفاع حجم الدُّيُون الخارجية، فيما أعلن تحالف الحزب الوطني الجديد والرئيس وحكومته "ضمان استمرارية التزامات الدولة والمُحافَظَة على الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي والدّائنين وحاملي السندات..."، وعلى سبيل المثال تتَمَثَّلُ هذه الإلتزامات في تسديد أقساط دُيون تفوق قيمتها الإيرادات الإجمالية للدّولة سنة 2025، وتتمثل في زيادة الضرائب على الإستهلاك (ضرائب غير مباشرة) وعلى دخل الأُجَراء وليس على الثروات أو أرباح الأسهم والمُضاربات أو على أرباح الشركات العابرة للقارات، ولم يتم التشكيك في هذه الالتزامات، مما جعل التّغْيِير منقوصًا، وفقد الشّعب والكادحون والفُقراء فُرصةً تاريخيةً للتّغْيِير الجذْرِي...



من انتفاضة 2022 إلى انتخابات 2024

أزمة ربيع سنة 2022

تراجعت عائدات السياحة إثر العملية الإرهابية لسنة 2019، قبل أن تتوقف السياحة تمامًا سنة 2020 بسبب جائحة كوفيد – 19، ثم ارتفعت أسعار الوقود والحبوب والأسمدة الكيماوية التي تستوردها سريلانكا بالدّولار، فضلا عن قرار المصارف المركزية للبلدان الإمبريالية زيادة أسعار الفائدة بداية من شهر شباط/فبراير 2022، وأدّت هذه العوامل مُجتمعة إلى عجز الدّولة عن سداد الدّيُون بداية من شهرنيسان/ابريل 2022، في مناخ متأزّم أدّى إلى اندلاع ثورة شعبية استمرت من آذار/مارس إلى تموز/يوليو سنة 2022، وإلى اقتحام القصر الرئاسي وفرار الرئيس غوتابايا راجاباكسا – رمز الفساد - يوم 13 تموز/يوليو 2022، إلى جزر المالديف ثم سنغافورة، غير إن الوضع كان مُشابها لتونس ومصر، حيث لم تكن هناك قوة سياسية شعبية قادرة على ملء الفراغ، ولذلك أصبح رئيس الوزراء رئيسًا، وبعد بضعة أشهر عاد غوتابايا راجاباكسا من المنفى دون أي رد فعل شعبي.

اعتَبَر معظم المًثقفين التقدّميين وخبراء الإقتصاد الكينزيين والتيارات الماركسية إنه لا وجود لبدائل أخرى غير التّوَصُّل إلى اتفاق إعادة هيكلة الدّيون أو تأجيل الدفع مع الدائنين الثنائيين، وهو ما حصل خلال شهر حزيران/يونيو 2024 قبل فرار الرئيس السابق...


خلفيات أزمة 2022

لم تكن أزمة 2022 سوى نتيجة للخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحكومات الليبرالية للسنوات السابقة وهي من نفس التيّار أو بالأحرى "العشيرة" السياسية السابقة، وناتجة عن التدخل المباشر للولايات المتحدة وشركائها (الهند وأستراليا واليابان وبريطانيا) في شؤون البلاد، منذ ما لا يقل عن 15 سنة، بهدف استخدام سريلانكا كمنصة للعدوان على الصين.

تُفيد بيانات مؤشر البنك العالمي لسنة 2019 ، إن منظومة التعليم تُخرج مهنيين وتقنيين من مستوى عال لكنهم لا يجدون عملا ورواتب لائقة، ويبلغ معدل الالتحاق بالمدارس 91% (من الأطفال الذين بلغوا سن الدّراسة)، ويبلغ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة 92,3%، ومتوسط العمر المتوقع 77 عامًا، ويستفيد حوالي 80% من السّكّان من الرعاية الصحية ومن الطب التقليدي بالأعشاب التي تُنْتجها الجزيرة التي تحتوي على أراضي خصبة وموارد طبيعية هامة كالمياه، وعلى إنتاج بحري هام، وإنتاج غير وفير من النفط والغاز...

بنهاية سنة 2019، عاد غوتابايا راجاباكاسا (شقيق الرئيس السابق ماهيندا راجاباكسا ) إلى السلطة من خلال الدعم الشعبي الإستثنائي والتاريخي، وبقي نفس الحزب يتحكم بالسلطة، بدعم ومشاركة بعض اليسار في حكومته، من بينهم أعضاء الحركة التروتسكية والحزب الشيوعي والقوميين اليساريين، وسُرعان ما تراجع غوتابايا عن التزاماته ووعوده الإنتخابية، ورضخ لضغط الولايات المتحدة (التي تريد تحويل البلاد إلى قاعدة عسكرية لمراقبة ومُواجهة الصين) ولضغوط الهند ولشروط صندوق النقد الدّولي، ومن بينها التخلي عن جزء كبير من الأراضي المملوكة للدولة لصالح الشركات متعددة الجنسيات، ولضغوط مُجمّع الصناعات العسكرية الأمريكية، وحَكَمَ غوتابايا البلاد مع عشيرته وأُسْرته التي بالغت في السرقة وإهمال شُؤُون المواطنين، وتمظْهَرت الأزمة في انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، وندرة الغاز المنزلي، وتوقف وسائل النقل بسبب ارتفاع سعر البنزين وندرة وجوده، وتقنين اللقاحات والأدوية... ورفض الرئيس وحكومته تعديل سياسة اقتصادية كانت مُوَجَّهَةً بالكامل نحو الصادرات وليس نحو تنمية السوق الداخلية...



مظاهر أزمة ربيع 2022

أعلنت شركة "سيلان بتروليوم" الحُكومية، يوم الجمعة 15 نيسان/ابريل 2022، تقنين بيع الوقود للمَرْكَبَات، وهي خطوة فاقمت الأزمة الاقتصادية التي أدّت إلى تظاهر المواطنين المُستمرة لعدة أسابيع، ومطالبتهم باستقالة الرئيس "غوتابايا راجاباكسا"، الذي يتمتع بصلاحيات دستورية واسعة، واضطر المواطنون، لعدّة أسابيع، إلى الإصطفاف في طوابير طويلة للحصول على الوقود، وعلى غاز الطّهْي، وانتشر الجيش منذ يوم 22 آذار/مارس 2022، وعزز انتشاره يوم الثلاثاء 12 نيسان/ابريل 2022، بعدما أدّى التدافع والخُصومات أمام محطات الوقود إلى وفاة ما لا يقل عن ثمانية مواطنين، في ظل أسوأ أزمة اقتصادية عرفتها البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا، سنة 1948، إذ يُعاني المواطنون (22 مليون نسمة) من ارتفاع ثمن السلع الأساسية وعبوات غاز الطّهي، ومن غيابها من الأسواق والمَتاجِر، ومن انقطاع متكرر للتيار الكهربائي، ومن انهيار قطاع السياحة، وانخفاض تحويلات المُهاجرين، منذ انتشار جائحة "كوفيد-19"، حيث زاد عدد الفُقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر بنحو نصف مليون، ولذلك تتواصل احتجاجات عشرات الآلاف من المواطنين (حتى يوم الجمعة 15 نيسان/ابريل 2022)، غير بعيد من مكتب الرئيس "غوتابايا راجاباكسا"، مطالبين باستقالته بسبب الصعوبات الاقتصادية التي يُعانيها سكان البلاد، البالغ عددهم 22 مليون نسمة، والذين يعانون من انقطاع التيار الكهربائي لفترات تصل إلى 13 ساعة متواصلة يوميا. من جهة أخرى ألغى المواطنون من الديانات البُوذِيّة والهندوسية احتفالاتهم بالسنة الجديدة التي توافق يوم الخميس 14 نيسان/ابريل 2022، بسبب نقص الحليب والأرز الذي يُستخدم في مثل هذه المناسبات.

تأثَّرت المالية العمومية بالإنهيار الإقتصادي، حَدَّ إعلان الحكومة، يوم الثلاثاء 12 نيسان/ابريل 2022، عَجْزها عن تسديد أقساط الدّيون الخارجية التي بلغ مجموعها 51 مليار دولارا، وطلبت الحكومة قَرْضًا عاجلاً من صندوق النّقد الدّولي، كما سعت للحصول على خطوط ائتمان من الهند والصين لاستيراد النفط والغاز والغذاء، بعد انهيار حجم العملات الأجنبية المُتأتّية من عائدات قطاع السياحة (حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي) وتحويلات المغتربين، واحتداد الأزمة وتوسّع رقعة المُظاهرات، وانهيار النشاط الإقتصادي، خصوصًا بعد إعلان حالة الطّوارئ يوم الأول من نيسان/ابريل 2022، وانتشار الجيش إثر إغلاق المتظاهرين الطُّرُقات في العاصمة "كولومبو"، وإثر عرقلة تنقُّل حافلات تنقل السياح القليلين، وتجابه الشرطة والقُوات الخاصة المتظاهرين بإلقاء قنابل الغاز والرصاص المطاطي وخراطيم المياه، ما أدّى إلى إصابة نحو خمسين متظاهرًا، وأعلنت السلطات يوم الجمعة 15 نيسان/ابريل 2022، اعتقال ما لا يقل عن 54 متظاهرًا، اتهمتهم الشرطة والجيش "بالقيام بأعمال شغب وإلحاق الضّرَر بالممتلكات العمومية"، بحسب وكالة "بلومبيرغ"، ويطالب المتظاهرون باستقالة الرئيس وشقيقه رئيس الوزراء "ماهيندا راجاباكسا"، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني لمعالجة الأزمة الاقتصادية والسياسية، بعد استقالة أعضاء الحكومة يوم الأحد 03 نيسان/ابريل 2022، وبعد استقالة أربعين نائبا برلمانيا من "حزب الجبهة الشعبية" الحاكم منذ سنة 2019، مما جعل الرئيس يحكم بدون دعم الأغلبية البرلمانية، بينما تتهدَّدُ المَجاعَةُ البِلاَدَ، بسبب النّقص الحادّ في السلع الأساسية كالغذاء والوقود والأدوية وبسبب انقطاع التيار الكهربائي وارتفاع نسبة التضخم إلى مستويات قياسية، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 17% بنهاية شهر شباط/فبراير وبنسبة 30% بنهاية شهر آذار/مارس 2022، وعجزت الحكومة منذ سنتيْن عن استيراد الأسمدة اللازمة للزراعة، ما أدى إلى انهيار الإنتاج الزراعي وارتفاع أسعار المواد الغذائية ، وطلبت الحكومة الحصول على ثلاثة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، لدعم ميزان المدفوعات خلال السنوات الثلاث المقبلة، لكن الصندوق يشترط (كالعادة) إلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية وخفض الإنفاق الحكومي، وبالخصوص الإنفاق الإجتماعي، في ظل ارتفاع أسعار المواد الخام، كالطاقة والأسمدة والمواد الغذائية، خصوصًا منذ انطلاق الحرب الروسية/الأوكرانية، وأعرب ناطق باسم منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة عن مخاوف المُنَظّمة بشأن انتشار المَجاعة في سريلانكا كما في بلدان أخرى، وأعربت منظمة "يونيسيف" عن القلق على حياة الأطفال بسبب افتقار الأُسَر إلى الحليب والأدوية والأرز...

حكم الرئيس "غوتابايا راجاباكسا" البلاد بالإعتماد على عشيرته، وكان أخوه "ماهيندا راجاباكسا" رئيسًا الحُكُومة، وسبق أن حكمت هذه العشيرة البلاد، من سنة 2005 إلى 2015، وأغرقت البلاد بالدّيون الخارجية، التي تُمثل قرابة 80% من الحجم الإجمالي للدّيون الحالية المُقدّرة بنحو 51 مليار دولارا، لم يتم إنفاقها في برامج تنمية، بل في مشاريع استفاد منها الأثرياء، ولما عاد الرئيس "غوتابايا راجاباكسا" سنة 2019، وَعَدَ بمعالجة الأزمة، لكن سياساته وقراراته فاقمت الأزمة الاقتصادية التي تحولت إلى أزمة سياسية حادّة، واستغلت الصّين وضع البلاد للإستحواذ على حصص هامة من اقتصاد البلاد، ووفّرت لحكومة سريلانكا قُرُوضًا بفوائد مرتفعة بنسبة تصل إلى 8%، منذ سنة 2005، لبناء شبكات اتصالات ومشاريع خاصة، مثل الأبراج التجارية، لا تنفع الشعب ولا تخلق الثروة ولا تُساعد على تحقيق التنمية، بل استفاد منها الرئيس وشقيقُهُ وعشيرتهما وبعض النّواب البرلمانيين، في بلد اعتاد على تداخل المصالح العائلية والمصالح الطّبَقِية، الإقتصادية والسّياسية، حيث يتم شراء ذمم الوزراء والنّوّاب من قِبَل الأثرياء المَحَلِّيِّين والشركات والجهات الأجنبية، ويُدْرِكُ المواطنون ذلك، لذا تظاهر عشرات الآلاف منهم في الساحات والشّوارع، ضد هذا النّظام الفاسد، رغم غياب البديل التقدّمي الذي يمكن أن يخدم مصالح الأغلبية الشعبية من الكادحين والفُقراء...



حصيلة أزمة ربيع 2022

أدّت المظاهرات الشعبية في سريلانكا إلى فرار الرئيس " غوتابايا راجابكسا" إلى سنغافورة، حيث كان يودع المال العام المسروق (وكذلك في الإمارات ) على مَتْن طائرة سعودية، عندما اقتحم عشرات آلاف المتظاهرين مقرّه الرسمي يوم 09 تموز/يوليو 2022، ثم أرسل استقالته بواسطة البريد الإلكتروني، ليصبح رئيس البرلمان "رانيل ويكريميسينغه" رئيسًا بالنيابة إلى موعد انتخاب البرلمان رئيسًا جديدًا للبلاد، يوم الإربعاء 20 تموز/يوليو 2022، يتولى قيادة البلاد في الفترة المتبقية من ولاية "راجابكسا" الرئاسية، التي تنتهي في تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

فَرَّ الرئيس " غوتابايا راجابكسا" على مَتْن طائرة سعودية، وخَلَفَهُ رئيس البرلمان "رانيل ويكريميسينغه"، وهو من نفس الحزب ومن نفس الطبقة ومن نفس المنظومة السياسية التي تحكم منذ حوالي خمسة عُقُود، وشغل منصب رئيس الوزراء مرات عديدة، وهو مُمثّل المصالح الأمريكية والبريطانية في البلاد، ومُدافع عن الإقتصاد الليبرالي، وعضو نشط في "جمعية مونت بيليرين"، الذي يُشارك في تمويله جورج سوروس، ومن بين أعضائه ميلتون فريدمان، وعندما أمَر الرئيس المؤقت بإطلاق النّار على المُتظاهرين، حظي بدعم سُكّان الأحياء "الرّاقية" بالعاصمة "كولومبو"، ودعم منظمات "غير حكومية" يمولها الوقف الأمريكي للديمقراطية (نيد)...

أعلن الرئيس بالنيابة تمديد حالة الطّوارئ (التي كانت مفروضة) والتي تسمح للرئيس "باتخاذ تدابير تلغي القوانين الموجودة لمواجهة أي اضطراب"، وتسمح "لقوات الأمن بتوقيف مشتبه بهم واحتجازهم"، ولم يجتمع أعضاء البرلمان للمصادقة على الإعلان، لكن الرئيس المُؤَقّت مَدّدها "لمصلحة الأمن العام"، وفق قوله، ما أدّى إلى تعزيز القبضة الأمنية
ينتمي الرئيس المؤقت "رانيل ويكريميسينغه" إلى حزب عشيرة الرئيس المخلوع "راجاباكسا"، وهو سياسي مُحَنّك، شغل منصب رئيس الوزراء ستّ مرات، ويدعمه حزب راجابكسا لتولي الرئاسة، ما يجعل انتفاضة الكادحين والفُقراء والفئات الوُسطى، التي دامت عدة أشهُر، تُسْفِرُ عن تغييرٍ شَكْلِي في أعلى هرم السّلطة، وبقاء النظام الفاسد الذي انتفضوا ضدّه، مثلما حصل في تونس ومصر، وبقاء الأزمة الاقتصادية والدّيون الخارجية التي بلغت 51 مليار دولارا (في بلد يعدّ 22 مليون نسمة)، وتخلفت الدّولة عن سداد أَقْسَاط الدّيون، منذ منتصف شهر نيسان/ابريل 2022، ولم تُسفر المفاوضات مع صندوق النقد الدّولي عن حل، وبدأت المظاهرات منذ نهاية سنة 2021، احتجاجًا على نقص المواد الأساسية والطاقة وارتفاع أسعارها، وأعلنت الحكومة إنها لا تستطيع توريد ما تحتاجه من وقود وغذاء وأدوية وغيرها، بسبب نقص حاد في العملات الأجنبية لتمويل واردات السّلع الأساسية.



التّبعية للإمبريالية

لم تَبْن الحكومات المتعاقبة اقتصادًا وطنيا موجّها نحو تلبية حاجة المواطنين قبل تلبية حاجة الأسواق الخارجية، واعتمدت على تصدير البشر كعُمّال عبيد ( من بينهم خَدَم المنازل لدى أُسَر الخليج) وعلى إيرادات السائحين القادمين من البلدان الغنية، ولذلك كانت لأزمة وباء كوفيد 19 وانخفاض إيرادات السياحة وانخفاض تحويلات العمال المهاجرين السريلانكيين، آثارٌ مدمرة على موارد البلاد من العملات الأجنبية، مما زاد من ارتفاع الدّيون الخارجية، ومن انهيار العُمْلَة المحلّية (الروبية)، فارتفعت أسعار السلع الأساسية وخاصة المُستورَدَة، ومنها المواد الغذائية الأساسية والنفط والغاز، لتصبح الحياة اليومية للمواطن الكادح والأجير والفقير ومن ذوي الدّخل المتوسط، أكْثَرَ عُسْرًا، بينما ازداد حجم ثروات الأثرياء، وتوسّعت الهُوّة الطّبَقِيّة، ما أثار استياء وغضب القطاعات المحرومة من المجتمع، وما جعلها تتظاهر في الشوارع والسّاحات تنديدًا بالفساد والإفلات من العقاب، بالتوازي مع الإضرابات الضخمة في القطاع العام.

من جانبها خضعت الحكومة للإبتزاز الأمريكي، ورفضت الحصول على النفط الإيراني والرّوسي، بشروط مُيسّرة، لتلبية احتياجات البلاد من المحروقات، وانخرطت في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بتشجيع من الولايات المتحدة، مع اللجوء إلى تهديد وقمع المواطنين الغاضبين، وتمكّنت مراكز البحوث الليبرالية ومُنظّمات "نشر الدّيمقراطية" ك"المجتمع المفتوح" و "أوبتور" من اختراق حركة الإحتجاجات التي فاقت مُدّتها ستة أشهر، عبر بعض المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام، ومواقع الإتصال الإلكتروني الموصوف ب"الإجتماعي"، والتّركيز على عائلة "راجاباكسا" (وهي رمز الفساد بالفعل)، بدل التركيز على ضرورة تغيير منظومة الحكم، وتغيير المنظومة الإقتصادية، والإستثمار في القطاعات التي تنتج ما يحتاجه المجتمع.

يعود سبب التركيز الأمريكي (والأطلسي) على سريلانكا لأسباب تاريخية، فقد كانت سريلانكا من مُؤسِّسي حركة عدم الإنحياز، واحتضنت أحد مؤتمراتها، سنة 1976، وحاولت حكوماتها، طيلة النّصف الثاني من القرن العشرين تطّبيق مبدأ الإستقلالية، فأبطَلت العمل باتفاق أمني مع بريطانيا، التي كانت تستعمر البلاد، حتى سنة 1948، واسترجعت سنة 1957 قاعدَتَيْن عسكَرِيّتَيْن، وتخلّصت، خلال الفترة 1957 - 1961 من التّبعية تجاه القوة الإستعمارية السابقة، وأدّت الرغبة في الإستقلال السياسي والإقتصادي إلى تطوير الإقتصاد وترسيخ "الوحدة الوطنية"، خلال عِقْدَيْ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وتجاوز حقبة الحرب الباردة بأخفّ الأضرار...

عندما كان نظام سريلانكا يتبنى سياسات عدم الإنحياز، كان القطاع العام متطورًا (تمت خصخصته فيما بعد) وخفّت حدة الخلافات الإثنية مقابل زيادة الشّعور الوطني، واستقبلت الحكومة، بعد اعترافها بحكومة الثورة الكوبية مُبَكِّرًا، "إرنستو تشي غيفارا"، الذي زَرَعَ في العاصمة كولومبو، في تموز/يوليو 1959، "شجرة الصداقة" التي لا تزال تحظى بالرعاية، ووقّع تشي غيفارا، نيابة عن الحكومة الكوبية أول اتفاقية تجارية بين البلدين (السكر الكوبي مقابل المطاطالسريلانكي)، ودعمت سريلانكا القضية الفلسطينية، قبل أن يتخاذل قادة منظمة التحرير ويوقّعوا مفاهمات أوسلو...

لم تَتَخَلَّ الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها عن السيطرة على جزيرة سريلانكا وموقعها الإستراتيجي، وساهمت في زعزعة استقرارها عبر التمويل المشبوه لمنظمات "غير حكومية" محلية، هي في الحقيقة فُرُوع أو وكالات للوكالة الأمريكية للتعاون الدولي (يو إس إيد) أو "المجتمع المفتوح" أو "نيد" أو غيرها...

بعد انهيار الإتحاد السوفييتي وإعلان الولايات المتحدة "نهاية التاريخ"، أي الإنتصار النهائي للرأسمالية النيوليبرالية، تغيرت سياسات سريلانكا، تماشيًا مع تطورات الوضع العالمي، وتغيرت السياسة الخارجية لتتزايد الضغوطات من الولايات المتحدة واليابان والهند والصّين، وارتفعت الدّيون الخارجية للبلاد، وبلغت ذروتها خلال فترة رئاسة عندما "غوتابايا راجاباكسا" الذي أصبح رئيسا، سنة 2019 (وهو شقيق الرئيس السابق ورئيس الوزراء فيما بعدُ "ماهيندا راجاباكسا" ) وأعلن استبدال مبدأ عدم الإنحياز، وهو مفهوم سياسي مُناهض للإستعمار، ب"الحياد"، وهو مفهوم غامض، طورته بلدان أوروبية مثل سويسرا وفنلندا والسويد وغيرها من البلدان الرأسمالية المتطورة التي كانت دائمًا مُنحازة للإمبريالية ولحلف شمال الأطلسي، وبدأت الصين تستثمر في سريلانكا، ضمن مشروع الحزام والطريق الذي يهدف فكّ الطوق الذي أعلنه باراك أوباما وهيلاري كلينتون، سنة 2012، ووقعت حكومة سريلانكا، سنة 2014، عقد إيجار طويل المدى تُوسّعُ، وتستغل بمقتضاه الصين أهم موانئ البلاد، ونالت الهند حصّتها من ثروات البلاد، عبر الإستثمار في مشاريع البنى التحتية، واشتركت مع اليابان في مشاريع أخرى...

فَقَدَ النظام السياسي الذي سيطرت عليه عشيرة "راجاباكسا" مصداقيته لدى أغلبية الشعب، لكن الإمبريالية الأمريكية (ومنظماتها العديدة) بالمرصاد لتغيير الشّكل دون تغيير الجوهر، كما حصل في بنغلادش القريبة، وكما حصل في تونس ومصر، سنة 2011، فيما يترصّد حزب "باهارتيا جاناتا" اليميني المتطرف والحاكم في الهند الفرصة للتدخّل العسكري في سريلانكا، بدعوى استعادة الأمن والنظام، كما حصل سنة 1987، وادعى الفرع السريلانكي لحزب بهاراتيا جاناتا إن سريلانكا مُقاطعة هندية، وجب استعادتها، لكن للصين مصالحها ومشاريعها الضخمة في سريلانكا، ولن تُغامر الولايات المتحدة أو استراليا أو اليابان باتخاذ خطوات قد تؤدّي إلى حرب مع الصين التي تُمثل ديونها حوالي 10% من إجمالي قيمة ديون سريلانكا الخارجية، واستُخدِمَت الدّيون الصينية في تطوير البنية التحتية (الموانئ والمطارات والطرقات ومحطات الكهرباء) ضمن خطة "الحزام والطّريق"، وتعهّدت الصين "بمواصلة تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والمالي لسريلانكا"، وكعادتها تدعو حكومة الصين إلى إرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب (في مقابل القطب الواحد تحت الهيمنة الأمريكية)، واحترام سيادة الدّول وعدم التدخل في شؤونها الدّاخلية... لكن كل الدّول تُدافع عن مصالحها، ولن يُدافع أحد عن مصالح الشعوب والكادحين والفُقراء، سوى المعنيون أنفسهم. كان السريلانكيون البالغ عددهم 22 مليونًا يعيشون تحت حكم ديكتاتورية جوتابايا راجاباكسا التي تمثل العائلات الغنية في البلاد، بدعم من صندوق النقد الدولي الذي فَرَضَ سياسات التقشف الصارمة التي أدّت إلى زيادة تبعية البلاد للدّائنين وجعلت غالبية السكان في حالة فقر مدقع، مما أَطْلَقَ ثورة الشعب خلال شهر أيار/مايو 2022، ضد الفقر والقمع والفساد وتمكّن مئات الآلاف من المتظاهرين من الإستيلاء على القصر الرئاسي، فاضطر الرئيس إلى الفرار من البلاد نحو الهند، وكانت هذه الإنتفاضة مُقَدّمة لتغييرات تاريخية في البلاد



ظروف الأزمة

بعد حوالي سَنَتَيْن من الإحتجاجات الشعبية التي تزامنت مع عجز الدّولة عن تسديد أقساط الدُّيُون التي حل أجل سدادها وإفلاس الخزانة الوطنية وصعوبة الإقتراض من الأسواق المالية الدّولية، خصوصًا منذ نيسان/ابريل 2022، بعد خفض التّصنيف الإئتماني السيادي، وتم الإتفاق مع الدّائنين على إعادة جدولة الدّيون، خصوصًا الإتفاق مع صندوق النقد الدّولي بنهاية شهر آذار/مارس 2023، فارتفعت احتياطيات العملات الأجنبية إلى 5,4 مليار دولار أمريكي بنهاية شهر أيار/مايو 2024 - والتي تشمل ائتمان مقايضة اليوان الصيني غير القابل للاستخدام بما يعادل حوالي 1,5 مليار دولار وتم تمديدها حتى نهاية أيار/مايو 2024، وارتفعت قيمة العُمْلَة المَحَلِّيّة (الروبية ) مقابل العملات الرئيسية (302 روبية سريلانكية مقابل الدولار الأمريكي بنهاية شهر تموز/يوليو 2024) وانخفضت نسبة "التّضخّم الأساسي" (الذي يستثني أسعار الوقود والغذاء) إلى أقل من 5% ومن المتوقع أن يظل عند هذا المستوى حتى نهاية سنة 2024، كما انخفض سعر الفائدة المصرفية للمقترضين إلى 9,50 %، وبعد ستة أرباع متتالية من الانكماش سنتَيْ 2022 و2023، من المتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة 2,2% بنهاية العام 2024، لكن ما تُظْهِرُهُ بيانات المالية العامة يُخْفِي الأزمة الاقتصادية المتأصلة في بنية الاقتصاد الوطني المُرتبط بالاقتصاد العالمي، حيث ارتفعت واردات سريلانكا خلال الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2024 إلى 7,238 مليون دولار أمريكي، بينما انخفضت الصادرات إلى 5,067 مليون دولار أمريكي، ولا يصل حجم احتياطيات النقد الأجنبي إلى ما يكفي لثلاثة أشهر من الواردات، فيما ارتفع عجز الميزان التجاري بدلا من أن يتقلص، وزاد حجم القروض من الهند ومن مصرف التنمية الآسيوي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي وارتفع بذلك حجم الدّيون الخارجية بين أيار/مايو 2022 وأيار/مايو 2024، بنحو حمس مليارات دولارا، ليبلغ 37 مليار دولارا أمريكيا، بنهاية نيسان/ابريل 2024 ووافق الدّائنون – بشأن إعادة هيكلة الدّيون - على تأجيل سداد الديون الخارجية، حتى سنة 2028، لكن الدّائنين (بما في ذلك الصّين) لم يتنازلوا ولم يوافقوا على تخفيض مبلغ الدين، ويرفض الدائنون من القطاع الخاص، الذين يملكون الحصة الأكبر من ديون سريلانكا، خفض أقساط السداد إلى 30% على الأقل، ولا يزال وضع البلاد حرجًا نظرًا لعدم تنوع الصادرات التي تقتصر على الملابس والمنتجات النّفطية (وقود الطائرات) والقُطْن والشاي وجوز الهند ومنتجات المطاط، والمواد الكيميائية ومواد البناء (الأسمنت والبلاط والألمنيوم والصلب)، مع الإشارة إلى انخفاض الطّلب على الملابس الجاهزة في الأسواق الرئيسية، أي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، واقتصار وجْهَة الصادرات الأخرى على الهند والصين والإمارات بشكل أساسي، ويعود نمو احتياطيات النقد الأجنبي إلى مُشتريات المصرف المركزي للعملات الأجنبية وتحسّن عائدات السياحة وتحويلات العُمّال المُهاجرين ( وهي إيرادات غير قارّة) فيما بقيت الإستثمارات الأجنبية المباشرة ضعيفة، ولم تتمكن الدّولة من خفض حجم الواردات من الوقود والأسمدة والأدوية والمواد الغذائية.



الأزمة الاجتماعية

لم تكن الأزمة الإقتصادية أزمة طارئة انطلقت سنة 2020 ( كوفيد -19) أو 2022 (أزمة الدّيُون الخارجية) بل هي قديمة ومُتأصّلة، وعَمّقت الأزمة الإجتماعية بفعل التفاوت الطّبقي الكبير وعدم المساواة واحتدّت الأزمة الإجتماعية مع ترسيخ الليبرالية الجديدة على مدى العقود الأربعة الماضية، وفق مقياس "جيني" ( الذي يقيس مستويات عدم المساواة) الذي عاين زيادة التّدهْوُر بين سَنَتَيْ 2019 و2023، اعتمادًا على بيانات البنك العالمي الذي اعتبر تقريره ( ربيع 2024) إن أفقر 50% من السكان كانوا يمتلكون، قبل أزمة كوفيد، 17% من حصة الدخل القومي و3,8% من حصة الثروة، فيما يمتلك 10% من الأثرياء 40% من حصة الدخل القومي و65% من حصة الثروة، وأورد تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( سنة 2023) نماذج من التفاوت والفوارق الصارخة، مع انخفاض معدلات تشغيل العمالة والدخل، وارتفاع إنفاق الأُسَر بسبب التضخم، وتزايد انعدام الأمن خلال الأزمة، وانخفض عدد الموظفين إلى ما يقرب من ثمانية ملايين شخص، وانهار معدل حصة المرأة من العمل المأجُور ليصل إلى 31,3%، أي أقل من نصف معدل مشاركة الرجال، وارتفعت نسبة البطالة بين الشباب إلى 17% ومنذ بداية أزمة كوفيد، عانى 45,8% من العاملين من انخفاض الرواتب أو المزايا أو فقدان الدخل، وأفاد 48% من الأُجَراء بتخفيض ساعات عملهم، وتعرّض 47,3% للتوقف عن العمل أو الغياب المؤقت، فيما فَقَدَ و14,2% من العاملين وظائفهم، وأدّت هذه العوامل إلى مُعاناة نحو 60% من الأُسَر من فقدان الدخل (DCS 2023، وارتفعت دُيُون نحو 22% من الأُسَر خلال الأزمة، لشراء المواد الغذائية وضرورات الإستهلاك الخاص أو الشّخصي، فيما ارتفع عدد من غادروا البلاد من الفئات الوسطى والعمالة الماهرة، إلى الغرب أو للقيام بوظائف مؤقتة في غرب وشرق آسيا وأوروبا الشرقية، وتم تجنيد عدة مئات من الجنود السابقين في صُفُوف طَرَفَيْ حرب أوكرانيا، بعدما بلغت نسبة الفقر نحو 26% من السكان، أو 5,72 مليون شخص، سنة 2023، وفق تقرير البنك العالمي بنهاية شهر آذار/مارس 2024، وأصبح الإنفاق على الضروريات ( الغذاء والنقل والطّاقة والصحة والتعليم ) يستحوذ على القسم الأكْبَر من ميزانية العائلات، خصوصًا بعد تخفيض قيمة الروبية السريلانكية سنة 2022، بأمر من صندوق النّقد الدّولي، مما ضاعف أسعار السلع المستوردة، بما في ذلك المواد الغذائية الأساسية، ثلاث مرات، وتوقفت 1,7 مليون أُسْرة (من بين 5,6 ملايين أسرة في البلاد) عن استهلاك الحليب المجفف، وهو غذاء أساسي مستورد، وبلغت نسبة الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من نقص الوزن 16,2% وفق بيانات آذار/مارس 2024 مقارنة بـ 13% خلال شهر آذار/مارس 2022، وتفاقم انعدام الأمن الغذائي (FHB 2024). وتفاقم انعدام الأمن الغذائي من 17% إلى 24% بين شَهْرَيْ آذار/مارس 2022 و كانون الأول/ديسمبر 2023، وفق برنامج الأغذية العالمي، كما ارتفع عدد الوفيات وعدد الفارّين من البلاد وانخفض عدد سكان سريلانكا بشكل لافت للنظر.

رغم الكارثة التي تُؤَكّدها الأرقام والنِّسب الواردة أعلاه، لم يُغَيِّر النظام الحاكم برامجه أو التخطيط لزيادة الإنتاج الفلاحي والصناعي وتوسيع السوق الداخلية من خلال إعادة توزيع الضرائب والاستثمارات في المرافق والخدمات العامة، أو السيطرة على أسعار الضروريات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والطاقة، بل رَفَضَ النّظام القائم إعادة النظر في نموذج التنمية الفاشل الذي اعتمد على القروض الخارجية إلى أن عَجزت الدّولة عن السّداد، وبقي النموذج النيوليبرالي سائدًا في بلد لا ينتج ما يستهلك، وأدّى هذا النّموذج التّنموي الفاشل إلى مقاومة وردود فعل سلبية من المجموعات المتضررة، وفق البنك العالمي ( نهاية آذار/مارس 2024)، وواجهت الدّولة حركة مقاومة التقشف وإعادة الهيكلة، ومعظمهم من العاملين في القطاع العام والخريجين العاطلين عن العمل، بالرقابة وبخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والإعتقال والسجن...



ظروف انتخابات 2024

فاز " أنورا كومارا ديساناياكا " مُرشّح ائتلاف اليسار، الحزب الوطني التقدمي (السلطة الشعبية الوطنية) بالإنتخابات الرئاسية التي جرت يوم 21 أيلول/سبتمبر 2024، بنسبة 42,3% من أصوات الناخبين، وكانت نسبة المُشاركة في عملية التصويت مرتفعة وبلغت 80%، والرئيس الجديد ( أنورا كومارا ديساناياكا ) هو ابن مزارع، وكان ينتمي إلى جبهة التحرير الشعبية (JVP) التي قادت اثنين محاولات الثورة سنة 1971 ثم بين سنتَيْ 1987 و 1989، قبل نَبْذِ الكفاح المسلح، إثر حملات القمع الرهيبة التي أوْدَت بحياة عشرات الآلاف من المناضلين، من بينهم أعضاء المكتب السياسي، ومن المواطنين الأبرياء واعتقال حوالي سبعة آلاف عضو من الجبهة، وارتكب الجيش – عندما كان الرئيس جوتابايا راجاباكسا، وزيراً للدفاع - جرائم حرب عديدة خلال المراحل الأخيرة من الحرب ضد نمور التاميل سنة 2009، وقُتل حوالي سبعين ألف مدني من شعب "تاميل"، بتواطؤ من حكومات ووسائل إعلام الدّول الإمبريالية لأن سريلانكا تُعَدُّ موطنًا لبعض أكبر مصنعي الملابس في العالم ( سراويل وسترات الجينز والقمصان والصديريات والملابس الرياضية...)، وترافقَ ارتفاع صادرات الملابس مع زيادة مظاهر الإستبداد ومع ارتفاع حالات المرض والفَقْر، وأكّدَ المصرف المركزي للبلاد ارتفاعٍ الصادرات بنسبة 183% منذ نيسان/أبريل 2020 بفعل ارتفاع صادرات قطاع الملابس الذي لم يتوقف عن الإنتاج خلال انتشار وباء كوفيد-19 مما أدى إلى ارتفاع كبير لحالات الوفيات بين العمال وأُسَرِهم، وفق منظمة العفو الدّولية التي أشار أحد تقاريرها إلى "استمرار إنتاج الملابس في ظل نقص وسائل الوقاية أو الرعاية غير الكافية لعمال المصانع المرضى، فضلاً عن عدم إعطاء الأولوية للقاح لهؤلاء العمال"، ونبّهت النقابات إلى تدَهْوُرِ حقوق العمال وارتفاع عدد ساعات العمل وحالات العمل العَرَضِي ( الوَقْتِي) والتّسريح الإعتباطي وانخفاض الرواتب التي تعادل 900 روبية سريلانكية أو حوالي 4,50 دولارًا في اليوم، وحوالي 23000 روبية سريلانكية أو ما يُعادل 116 دولارًا شهريا للعمال المُثبّتين مقابل ما لا يقل عن تسع ساعات عمل يوميا، وتجدر الإشارة إلى العدد الكبير من العاملات النّازحات من المناطق الريفية التي أنهكتها الحرب الأهلية والقمع العسكري، إلى مناطق التجارة الحرة حيث الإنتهاكات الخطيرة لحقوق العمال في قطاع المنسوجات والملابس الجاهزة...

يُشكل فوز أنورا كومارا ديساناياكي، مُرشّح حزب المؤتمر الوطني التقدمي الجديد، ضمن ائتلاف السلطة الشعبية الوطنية، بالرئاسة يوم الحادي والعشرين من أيلول/سبتمبر2024، أهمية بالغة لأسباب رمزية وموضوعية، لأنه من أُصُول ريفية فقيرة، ومن خارج النّخبة التي حكمت البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا سنة 1948، وحقق نفس الإئتلاف، خلال الإنتخابات التّشريعيّة، مُنْتَصَف شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، فوزا هامًّا بحصوله على 63% من الأصوات و 159 مقعدًا في البرلمان، من أصل 225 مما يجعل الرئيس أنورا كومارا ديساناياكي يتمتع بأغلبية ساحقة في البرلمان لإجراء تعديلات دستورية، كانت الأحزاب التقليدية القائمة على الهوية تمر ترفضها تمامًا، وتمر هذه الأحزاب التقليدية التي خسرت الحكم، بأزمة شرعية كبيرة، بسبب المظالم الاقتصادية التي فَجَّرت انتفاضة سنة 2022، بينما أكّد الحزب الوطني التقدمي خلال الحملة الإنتخابية على الوحدة الوطنية وعلى المُساواة من القوميات والأقاليم...

وُلد الرئيس الجديد لعائلة ريفية فقيرة هاجرت من المناطق القاحلة إلى المنطقة المروية في شمال وسط البلاد، وكان والده موظفًا متواضعًا في إحدى الوزارات، وكانت والدته تعتني بأسرة كبيرة وتزرع الأرز في قطعة أرضهم، كان الرئيس أول فرد من الأسرة تابع تعليمه العالي في قسم العلوم الفيزيائية في إحدى الجامعات الحكومية، وبنهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، كان مناضلا في منظمة جاناتا فيموكثي بيرامونا السّرّيّة أو جبهة التحرير الشعبية ( JVP )، التي حظرها نظام الحزب الوطني المتحد اليميني سنة 1983، وتعرض لقمع شديد خلال فترة التمرد الثاني ضد الدولة بين سنَتَيْ 1987 و1989، قبل أن يصبح مُناضلاً مُتَفَرِّغًا بعد تقنين الحزب، وكان له دور في إعادة بناء وهيكلة الحزب الذي كان يتبَنّى رسميا العقيدة الماركسية اللِّينِينيّة، وشارك الحزب في تأطير الإنتفاضة الشعبية سنة 2022 المعروفة باسم "جاناتا أوراغالايا" ( نضال الشعب، باللغة السنهالية)، مما زاد من شعبية ائتلاف "السلطة الشعبية الوطنية" الذي بادر حزب جبهة التحرير الشعبية بتأسيسه سنة 2019، وكان الرئيس الجديد أحد مُؤسِّسِي مُخطّط السياسات الانتخابية للحزب، ورغم ترويج الأحزاب التقليدية الخَوْف والفَزع من هذا المُرشّح "الماركسي الللِّينيني" فإنه لم يقم بحملته على أساس برنامج اشتراكي أو مناهض للرأسمالية، بل من خلال الدعوة إلى "تغيير" نمط الحكم الذي تسيطر عليه فئات تقليدية من البرجوازية المحلية الوكيلة للمصالح الأجنبية، بنظام حُكْم يُمثل قطاعات كبيرة من السكان، من جميع الطبقات والأجناس والأعراق والأقاليم، وأكّد تحميل نظام الحكم السابق مسؤولية الكارثة الإقتصادية خلال 2021-2022، والتي بلغت ذروتها بالإفلاس السيادي لسريلانكا عندما فشلت في سداد أقساط خدمة الدّيُون الخارجية التي حل أجل سدادها، وبلغ حجم هذه الدّيُون 32 مليار دولارًا أمريكيًّا، ووَعَد الرئيس الجديد والإئتلاف الذي يدعمه بمشاركة الشعب في اتخاذ القرارات،وكسب بذلك أصوات الشباب وأصوات الأقليات المُسلمة والتاميلية...

لقد ورثت الحكومة الجديدة والأغلبية البرلمانية التي تدعمها وضعًا صعبًا تركته الحكومة السابقة (المُؤقّتة) التي كان يرأسها رانيل ويكرمسينغه، بعد فرار الرئيس راجاباكسا خلال انتفاضة 2022، والتي شكلها بالشراكة مع الأغلبية البرلمانية المؤيدة لراجاباكسا والمنشقين عن المعارضة، وتميّز هذا الوضع السيء الموروث بارتفاع تعريفة الكهرباء بنسبة 140% وتم قطع التّيار الكهربائي خلال سنة 2023، عن مليون أسرة لم تتمكّن من سداد معلوم استهلاك الكهرباء،وارتفعت أسعار المواد الغذائية ثلاثة أضعاف في المتوسط، مما أدى إلى زيادة انعدام الأمن الغذائي إلى 24% من جميع الأسر، وتعيش نحو 25% من أُسَر البلاد تحت خط الفقر الرسمي، واقترضت الدّولة 2,9 مليار دولارا من صندوق النقد الدّولي خلال شهر آذار/مارس 2023، بشروط تطبيق "الإصلاح الإقتصادي"، أي خفض الإنفاق الحكومي وإلغاء دعم الغذاء والكهرباء والدّواء والنّقل الخ وخفض قيمة العُملة وتجميد التوظيف الحكومي وما إلى ذلك من الإجراءات ذات التكاليف الاجتماعية والسياسية السّلْبِية والسّيِّئة، في ظل توقعات بارتفاع حجم خدمة الدّيْن الخارجي إلى 30% من الإيرادات العامة سنة 2027، وفقا لمسؤول سابق في وزارة الخزانة الأمريكية، مما يزيد من احتمال التخلف عن سداد الديون السيادية، كما حصل سنة 2022، كما اشترط صندوق النقد الدّولي زيادة الضرائب غير المباشرة التي تَضُرُّ الفقراء وتفكيك نظام الضمان الاجتماعي لصالح "شبكات الأمان الاجتماعي" وهي صناديق خاصة تُديرها المؤسسات المالية...

فاز أنورا كومارا ديساناياكي خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024 في الانتخابات الرئاسية، وهو من خارج النخب والأحزاب التي كانت تهيمن على السلطة وأجريت انتخابات برلمانية خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وفاز حزب السلطة الشعبية الوطنية بنسبة 63% من الأصوات وأكثر من ثلثي المقاعد البرلمانية 159 مقعدًا من إجمالي 225 مقعدًا، لذلك فإن الرئيس أمنورا كومارا ديساناياكي ومجموعته البرلمانية يمتلكان الوسائل اللازمة لإقرار أي قوانين يرغب في إقرارها، وحتى تعديل الدستور الذي يتطلب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، لكن ائتلاف الحزب التقدمي الجديد والرئيس وحكومته يؤكدون أنهم يتحملون استمرارية استمرارية التزامات الدّولة ويحافظون على الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات السابقة مع صندوق النقد الدولي، ومع حاملي السندات وجميع الدائنين الآخرين، ولم يُعلن الرئيس وحكومته وأغلبيته البرلمانية بطلان التزامات الديون السابقة، مما يجعل تغيير النظام منقوصًا...



التّحدّيات الدّاخلية والخارجية

إن التركيبة الإيديولوجية لقيادات الحزب الوطني التقدمي وللجبهة التي يقودها وتركيبة النُّوّاب الجُد تُثير الإهتمام، إذ تَضُمُّ العديد من المهنيين من الفئات المتوسطة والأكاديميين والفنانين، والمناضلين السياسيين المعروفين بالدّفاع عن حقوق الإنسان، وحتى عن نوع من "الإشتراكية"، ويُناقض التوجُّهُ اللِّيبرالي الواضح لبعضهم طموحات قاعدة الجبهة أو الإئتلاف التي تتألف في الأساس من كوادر ريفية معروفة بنشاطها، مما قد يشكل تحدياً آخر لأقطاب السّلطة وللحزب الوطني التقدّمي الذي يُجابه القوى اليمينية – المُرتبطة بالإمبريالية - التي تستغل كل فرصة لإثارة الخوف من "القُوى الشيوعية التي استَوْلَت على السُّلطة"، وهي جُزء من المعسكر القومي التقليدي الذي يضم عائلة راجاباكسا، ومختلف القوى المُرتدّة من اليسار القديم، وخصوصًا من القوميين السنهاليين والبوذيّين الذين ساندو خلال انتخابات 2024، الحزب الوطني التقدّمي، خصوصًا في جنوب سريلانكا.

يحدد بيان الحزب الوطني التقدمي بعض المخاوف الملحة للتاميل المُتَضَرِّرِين من الصراع في الشمال والشرق، بفعل تشريعات مكافحة الإرهاب ويُطالبون بالإفراج عن السجناء السياسيين والتحقيق في ظاهرة الإختفاء القَسْرِي والإستحواذ على أراضي المواطنين غير إن برامج وبيانات الحزب لا تحتوي على حُلُول لوضع هذه الأقلية الهامة ( التاميل ) في سريلانكا، ومُساواتها للحصول على الخدمات الحكومية وتفعيل قانون الإعتراف بلُغتها وقانون نظام مجالس المحافظات لتحقيق قدر أكبر من الحكم الذاتي، ولا تزال حقوقهم في أراضيهم مُصادَرَة فضلا عن انعدام أي برنامج يُبَدِّدُ المخاوف الاجتماعية والاقتصادية لتاميل التلال (عمال المزارع وأحفادهم) فيما يتعلق بالإسكان والأرض والصحة والتعليم، وهناك العديد من الالتزامات الغامضة التي لا تُحدّد مواعيد لتنفيذها...

في المقابل قام حزب JVP-NPP ( الذي كان يتبنّى الماركسية اللِّينِينِيّة) بالتودد إلى رجال الدين العسكريين والبوذيين المتقاعدين وجعلهم من أنصاره، وهم يُعارضون التحقيق مع قوات أمن الدولة ومساءلتها عن جرائم الحرب، وأَصَرّ الرئيس الجديد - خلال الإجتماعات التي سبقت الإنتخابات - إن الأولوية الممنوحة للبوذية في الدستور الحالي (قريبة من وضع "دين الدّولة") مقدسة، في حين طمأن المسيحيين والهندوس والمسلمين إلى أن حقهم في حرية العبادة سوف يكون مقدسا ومحميا من قبل الدولة في إطار "دستور ديمقراطي جديد يلغي المؤسسة الرئاسية الاستبدادية وينقل المزيد من السلطات إلى المناطق، بما في ذلك المناطق التي تسكنها الأقليات القومية..." لكن القاعدة الإنتخابية ( البوذية السينهالية ) للرئيس وحزبه والإئتلاف الذي يقوده، غير مبالية، بل مُعَادِيَة - في جزء كبير منها- لصياغة دستور يمنح المزيد من الحقوق وحصة أكبر من سلطة الدولة للأقليات القومية، فقد عملت إيديولوجية عنصرية على ترسيخ المؤسسة العسكرية في سريلانكا في العديد من جوانب المجتمع المدني على حساب الاقتصاد والحرية والتطلعات الديمقراطية لمواطنيها، فكانت الشعوب غير السنهالية ضحية هذه الإيديولوجيا السّائدة، وخاصة التاميل والمسلمين في شمال شرق الجزيرة.

على المستوى الإقتصادي، يُمثل برنامج صندوق النقد الدولي واتفاقية إعادة هيكلة الديون المصاحبة له، والتي أبرمها سلف رئيس الوزراء السابق رانيل ويكر مسينغ، قنبلة موقوتة تحت أقدام حكومة الإئتلاف التقدّمي، وتشمل اتفاقية إعادة هيكلة الديون أدوات جديدة مثل "السندات المرتبطة بالحوكمة" التي تَرْبُطُ أسعار الفائدة باستعداد الحكومة لإقرار تشريعات "مكافحة الفساد" ــ والفساد مجرد تِعِلّة لتهديد دول "المُحيط" أو "الأَطْراف" التي لا تُطبّق النموذج النيوليبرالي كما ينبغي، مع الإشارة إنه يتعيّن على سريلانكا أن تبدأ في سداد ديونها الخارجية، التي تم تأجيلها ( مع سريان الفائدة المرتفعة إلى نسبة 8,6% ) إلى سنة 2027، وهو ما قد يؤدي إلى استنزاف احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية وإجبارها على الاقتراض مرة أخرى من أسواق السندات الدولية، وعدم الخروج من الديون الخارجية.

تُواجه السّلطات الجديدة – في مجال السياسة الدّولية - إدارة دونالد ترامب التي تعلن تعزيز استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين ( وهي السياسة التي أطلقها الرئيس باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، سنة 2012 ) وسبق أن مارست الولايات المتحدة ضغوطًا كبيرة على سريلانكا، في أعقاب نهاية الحرب الأهلية سنة 2009، لإبرام اتفاقيات عسكرية تتضمن بيع الأسلحة الأمريكية وتعزيز مشاركة جيش سريلانكا في المناورات الأمريكية وحصار الصين، وللحصول على قاعدة عسكرية، مستغلة قضايا حقوق الإنسان، بعد حرب أهلية قتلت حوالي أربعين ألف شخص خلال العام الأخير من الصرع، ويُقدّر إجمالي عدد المفقودين بنحو 165 ألف، وفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، وأدّت الحرب الأهلية وزيادة الإنفاق العسكري والسرقة والنّهب إلى الأزمة الإقتصادية التي احتدّت بداية من 2019، ولا يزال الجيش يُشرف على قطاعات اقتصادية هامة (كما الحال في مصر) مثل السياحة ( شركات الطّيران والفنادق والمنتجعات الفاخرة والمحميات الطبيعية وملاعب الغولف...) والزراعة والتّجارة، كما عيّن نظام غوتابايا راجاباكسا الجنرالات في مناصب الإشراف على الجمارك وهيئة الموانئ والتنمية والقضاء على الفقر والاستجابة لحالات الطّوارئ الصحية (الوباء) والكوارث الطبيعية...



حكومة "إدارة الأزمة"

أكَّدَ الحزب الوطني التّقدّمي ( الذي يقود الإئتلاف الحكومي منذ انتخابات 2024) إن الأولوية ستكون للنُّمُوّ السريع والشّامل ( بالإعتماد على) السياحة والتقنيات الجديدة والبنية التحتية للموانئ"، ولا يختلف هذا البرنامج عن النموذج الذي انتَهَجَتْهُ الحكومات السابقة، باستثناء التركيز على محاربة الهَدْر والفساد والتواطؤ ومُجْمل العُيُوب التي ميزت سلطات البلاد منذ فترة طويلة، بإشراف عشائر عائلية كبيرة، ووَعَدَ الرئيس أنورا كومارا ديساناياكي "بالمزيد من المُنافَسَة لمحاربة الإحتكارات المحلية والفساد"، وتعهد الرئيس الجديد في خطابه بالولاء للقوى الاقتصادية المحلية مع "توفير خدمات عامة جيّدة واستئناف النمو الإقتصادي بفضل إعادة تشغيل قطاع السياحة"

ومما يزيد من إثارة التساؤلات أن منطق صندوق النقد الدولي هو أن أرقام الفقر هذه لا تأخذ في الاعتبار الجوانب الأكثر تعقيدا مثل الاحتياجات المتغيرة، وتأثير تسويق بعض الخدمات والحصول على الخدمات العامة. إن صندوق النقد الدولي يتعامى تماماً عن هذه الجوانب لسبب بسيط: وهو أن برامجه لا تهدف إلى "مساعدة الفقراء"، بل إلى ضمان تدفقات الاستثمارات الدولية في الماضي والمستقبل.

لم يحصل الإئتلاف الحاكم الجديد ( بزعامة الحزب الوطني التّقدّمي) على دعم خارجي قَوِي ( من الصّين مثلاً فهي دائنٌ كبير لسريلانكا ولها مصالح كبيرة في الجزيرة، ضمن مبادرة الحزام والطّريق ) يُمكّنه من القطع مع صندوق النّقد الدّولي أو مواجهة الدّائنين من خلال تشكيل لجنة دولية تُدقّق النّظر في الدُّيُون وإلغاءالدُّيُون "الكَريهَة" ولم يلتزم بأي تحول عميق في الاقتصاد واقترح إدارةً أكثر كفاءةً وعقلانيةً، تُبجّل الرأسمالية المحلية، كلما أمكنَ، وسار الإئتلاف الحاكم على خُطَى سيريزا في اليونان ( بداية من سنة 2015) في الوصول إلى السّلطة دون رغبة في التغيير الذي يتوقّعه الجمهور الذي مكّنه من الوصول إلى السُّلْطة، ولا يتجاوز ما التزم به الحزب الوطني التّقدّمي "إدارة الأزْمَة"، رغم تأكيده أثناء الحملة الإنتخابية على "إعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي من أجل حماية الفقراء والضعفاء" وإنشاء لجنة للتّدْقيق في القروض الخارجية، وإمكانية إعلان جزء من ديون سريلانكا البالغة 93,4 مليار دولار بغيضا"



ميزانية 2025 – مُؤشّر توجّهات السّلطة

عند إعداد ميزانية 2025 ( نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024) كانت حكومة "الحزب الوطني المُتّحد" وشركائه قد قطعت أشواطًا في تطبيق تعليمات وأوامر صندوق النّقد الدّولي، خلال فترة وجيزة، فقد أعرب رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى سريلانكا ( يوم 25/11/2024) عن الرضا بشأن تطبيق قواعد "الإنضباط المالي والإصلاح الإقتصادي الذي يتضمّن المسؤولية المالية والإصلاحات الضريبية، ويجب على الحكومة التركيز على زيادة الإيرادات ( من الضرائب) مع ضَبْط الإنفاق ( أي خفض الإنفاق الإجتماعي) لضمان الإستقرار الإقتصادي الكلي..."

تظهر البيانات المالية لسريلانكا من كانون الثاني/يناير إلى أيلول/سبتمبر 2024 ارتفاع الإيرادات الضريبية بنسبة 39%، لتقترب من الهدف الذي حدّده صندوق النقد الدّولي، وارتفاع الإيرادات غير الضريبية بنسبة 30%، فيما لم يرتفع الإنفاق الإجمالي سوى بنسبة 3%، رغم ارتفاع التّضخّم، وارتفعت تكاليف الفائدة بنسبة 1% خلال نفس الفترة وبذلت حكومة الإئتلاف المحسوب على اليسار جهودًا لخفض الدين الحكومي من 100,6% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2023 إلى 91,6% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع بحلول أيلول/سبتمبر 2024، وانخفض إجمالي الإنفاق الحكومي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي من 13,5% سنة 2023 إلى 12,4% سنة 2024، واعتبر رئيس بعثة صندوق النّقد الدّولي هذه النتائج "مَرْضِيّة وتعكس إيجابيات السياسات النقدية الحالية، التي أدت إلى استقرار الاقتصاد دون التسبب في ضغوط تضخمية... ( وأشاد ب) التزام الحكومة السريلانكية ببرنامج الإصلاح الذي حدّده الصندوق..."

قدم الرئيس السريلانكي أنورا كومارا ديساناياكي أول ميزانية له يوم الاثنين 17 شباط/فبراير 2025 "لتحديد كيفية تجاوز الأزمة المالية للعام 2022 التي أَدّت إلى ارتفاع التضخم وانهيار قيمة العُمْلَة والتخلف عن سداد ديون بقيمة 25 مليار دولار..." وتتم مناقشة قانون الميزانية من 18 شباط/فبراير إلى 21 آذار/مارس 2025، قبل إقرارها نهائيا، وفق وكالة رويترز ( 14/02/2025)، وكانت السلطة الحالية قد وعدت خلال الحملة الإنتخابية بخفض ضريبة الدخل وزيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، ودعم الشركات المحلية الأكثر تضررا من الأزمة، لكن هذه التّعهّدات تتضارب مع الأهداف المالية المحددة في إطار برنامج الإنقاذ المالي الذي يقدمه صندوق النقد الدولي بقيمة 2,9 مليار دولار على مدى أربع سنوات، والذي يشكل جوهر "التعافي" في سريلانكا، وينص "برنامج الإنقاذ" على خفض عجز الميزانية من 7,6% سنة 2024 إلى 5,2% سنة 2025، وزيادة إيرادات ميزانية الدّولة، ومن العسير على الحكومة تحقيق هدف عجز الموازنة بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي والقيود المفروضة على الواردات الخاضعة للضريبة المرتفعة مثل السيارات، ويُتوقّع أن تلجأ الحكومة إلى فرض ضرائب جديدة وإعادة تنظيم الإنفاق لزيادة إيراداتها العامة من هدف 13,1% من الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2024 إلى 15,1% من الناتج المحلي الإجمالي الذي حدده صندوق النقد الدولي للعام 2025، وتتوقع الحكومة نمو الإقتصاد بنسبة 5% فيما يتوقّع البنك العالمي أن لا تتجاوز نسبة النّمو 3,5% سنة 2025، كما تتوقع تقديرات البنك العالمي أن يظل النمو متواضعا حتى نهاية سنة 2026 وأن تَظَلَّ آثار أزمة 2022 قائمة وأن يظل معدل الفقر أعلى من 20% حتى نهاية 2026.

يُقدّر الناتج المحلي الإجمالي للبلاد سنة 2024، بنحو 85 مليار دولار، لكن الدّيُون الخارجية وارتفاع أسعار الفائدة تُشكّل قُيُودًا لا تستطيع السّلطة تجاوزها بدون مجابهة الدّائنين وفي مقدّمتهم صندوق النّقد الدّولي، خصوصًا بعد يادة الكبيرة في عدد ونسبة الفقراء منذ أزمة كوفيد – 19، إذ ارتفعت نسبة السكان الذين يكسبون أقل من 3,65 دولار يوميا من 11,3% سنة 2019 إلى 26% سنة 2023، وفقا لأرقام البنك العالمي، لكن الزيادة الرئيسية كانت في عام 2021، عندما دخلت السياحة والزراعة في أزمة، فيما يعتمد برنامج حكومة الإئتلاف التّقدّمي على هذه القطاعات الهشّة ( السياحة وتحويلات المهاجرات والمهاجرين وتصدير الإنتاج الزراعي...)كعلاج للأزْمَة. أما الإستثمارات الأجنبية فقد تزامنت زيادة حجمها مع تدهور الوضع الإقتصادي والمعيشي لمعظم المواطنين، ومع ارتفاع حجم الدّيُون الخارجية، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات ضد سياسات عائلة "راجاباكسا"، وَعَمَّ الإستياء صغار الفلاحين بعد حَظْر الحكومة استخدام الأسمدة التقليدية، وفًرْض استخدام الأسمدة الكيماوية الصناعية، مما أدى إلى انهيار المحاصيل الفلاحية وإفلاس صغار الفلاحين، واغتنام الشركات التجارية الفرصة للسيطرة على الأراضي الخصبة واستغلالها لزراعة إنتاج مُعَدّ للتصدير، بينما أصبحت سريلانكا تستورد حوالي ثلث حاجيات البلاد من الأرز، بعدما كانت دولة مُصدِّرة...

لا يمتلك الإئتلاف الحاكم هامشًا واسِعًا للمناورة لسداد الديون خلال السنوات القادمة وللتّخلّص من القيود التي تُمثلها شُرُوط الدّائنين التي تَحُدُّ من قدرة الحكومة على الابتكار وتشجيع التصنيع والاستثمار في القطاعات الإنتاجية، وعلى توفير خدمات عامة جيدة وضمان اجتماعي للجميع، والخُرُوج من دائرة التبعية، بل تُواجه الحكومة الجديدة خطر التخلف عن السداد بفعل إشراف الدّائنين (وخصوصًا صندوق النقد الدّولي ) على تصميم وتنفيذ البرنامج الإقتصادي الذي يفرضَه على كل الحكومات وعلى الحكومة السابقة، لتُفْضِي هذه الشروط إلى زيادة حجم الدُّيُون الخارجية بفعل سعر الفائدة المرتفع ( 8,36% )، ولا تخدم سوى الدّائنين، ولكن ذلك، سيتعين على حزب العدالة والتنمية أن يقبل حقيقة هذه الخطة، كما أنه يقتصر في خطابه على الترويج لخدمة عامة "أكثر كفاءة" ، وهو ما لن ينكره أي تكنوقراطي غربي. ويكمن أملها الوحيد في استئناف النمو الذي وصل في النصف الأول من العام إلى 5% على أساس سنوي. لكن البلاد تلحق بالركب بفضل إعادة تشغيل قطاع السياحة. وفي عام 2023، عاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الثابت مع تعادل القوة الشرائية إلى مستوى عام 2008. ولا تزال المشكلة الحقيقية، المتمثلة في بناء نموذج اقتصادي صحي وعادل، دون حل، في حين تستمر الحروب التجارية في الظهور وفي الصيف، حذر البنك العالمي من استنفاد نموذج التنمية النيوليبرالية.



أي بديل تقدّمي؟

لا يُشير خطاب أو ممارسات الحكومة الجديدة إلى تغييرات لصالح الكادحين والفُقراء، كما يُشكّل السِّنْهالِيُّون ( الإثنية المُهيمنة وذات الأغلبية العددية في البلاد) القاعدة الإنتخابية الأساسية لجبهة التحرير الشعبية وائتلاف السلطة الشعبية الوطنية، ولذلك لا يُتوقّعُ إقرار المساواة بين الأديان وبين الأثنيات والقوميات، لأن المساواة تُفْقِدُ السنهاليين موقعهم المُهَيْمن، وموقع دينهم البوذي الذي يمنحه الدّستور الحالي موقعًا مُهيمنا وتكاد البوذية تكون دين الدّولة...

وُلدت جبهة التحرير الشعبية، وهي المكون الرئيسي لائتلاف السلطة الشعبية الوطنية، من رحم نضالات الشباب في الستينيات كحزب اشتراكي ثوري ذي قناعات غيفارية وماوية ولذلك فهي ترتبط تاريخياً بسياسة مناهضة للإمبريالية ومعادية لمؤسسات بريتون وودز مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي شاركت في الإنتخابات البرلمانية بداية من سنة 1994، ببرنامج يدعو إلى "الإقتصاد المختلط"، مع دور مهيمن للدولة في الاقتصاد، لكن كيف يمكن تطبيق البرنامج الإنتخابي لسنة 2024، الذي يتضمّن "توسيع البرامج الاجتماعية لتشمل المتقاعدين وكبار السن، والنساء اللاتي لديهن أطفال صغار، والأشخاص ذوو الإعاقة والأمراض المزمنة..." في ظل ارتفاع الميزانية العسكرية إلى نحو 7% من ميزانية الدّولة، أو ما يعادل ميزانية الصحة والتعليم مجتمعين، وفي ظل القُيُود التي يفرضها صندوق النقد الدولي.



آفاق غامضة

نجح ائتلاف السلطة الشعبية الوطنية الفائز في الانتخابات التشريعية سنة 2024، في تحويل الغضب الشعبي إلى هزيمة المؤسسة السياسية الحاكمة منذ استقلال البلاد عن بريطانيا سنة 1948، وتوسيع القاعدة الإنتخابية لتشمل العمال والمزارعين والفُقراء وصيادي الأسماك والنساء والأقليات، في كافة مناطق البلاد، وهو أول ائتلاف يفوز في البرلمان بأغلبية الثُّلُثَيْن في ظل نظام التمثيل النسبي، وتمكن هذا الإئتلاف التقدمي من رفع حصته من 42,3% في الانتخابات الرئاسية إلى 61,56% في الانتخابات التشريعية ( 6,9 ملايين صوت) وحصل على 159 مقعداً، أي أكثر بكثير من الثلثين المطلوبيْن لإقرار التعديلات الدستورية.

كيف يمكن للإئتلاف الفائز تحقيق التوازن في العلاقات الخارجية لسريلانكا وإعادة ترتيب العلاقات مع الهند والصين والولايات المتحدة ( التي ترغب في إقامة قاعدة عسكرية جوية وبحرية ضخمة في البلاد لمواجهة الصّين) وتعزيز العلاقات الدبلوماسية مع بلدان جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، بهدف إعادة تشكيل العلاقات مع بلدان "الجنوب" أو "الأطراف"، ومكافحة عمليات التجسس والأعمال غير القانونية وغير الأخلاقية التي تقوم بها مجموعات صهيونية متنكرة في ثوب السياح على الساحل الشرقي لسريلانكا في خليج أروجام، الذي تسكنه أغلبية مسلمة...

لم يُعبّر الحزب الوطني التقدمي خلال الحملة الإنتخابية عن طموحه إلى بناء الاشتراكية ولم يُرَكّز على أي أجندة يسارية، ولم يتجاوز الوَعْد بظروف معيشية لائقة، وأجور أفضل ومزيد من الأمن، وتوفير خدمات عامة أفضل في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والنقل والضمان الاجتماعي الجيد والتحرر من الديون، وإعادة تشكيل الاقتصاد الوطني بشكل يدعم المزارعين والصيادين والمُصَنِّعِين المحليين الذين كانوا مُمثَّلِين في قائماته الإنتخابية، لكن المهام الصعبة لا تزال تَلُوح في الأُفُق، لأن معظم المواطنين تَضَرَّرُوا من الأزمة الاقتصادية ومن الإرتفاع الكبير في تكاليف المعيشة، ومن البطالة ومن انخفاض الدعم الحكومي للتعليم والرعاية الصحية والزراعة، تطبيقًا لشروط صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي والدّائنين الذي يدعمون مصالح قطاع الأعمال والصناعة على حساب العمال، وطَرَحَ الحزب الوطني التقدمي إعادة التفاوض بشأن برنامج صندوق النقد الدولي وإعادة هيكلة الديون مع حاملي السندات، وبشكل عام كيف يمكن للحكومة الجديدة معالجة المشاكل التي كانت سببا في اندلاع الحرب الأهلية السريلانكية، بين سنتَيْ 1983 و 2009



#الطاهر_المعز (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإستعمار الإستيطاني، من الجزائر إلى فلسطين
- متابعات – العدد الحادي عشر بعد المائة بتاريخ الخامس عشر من ش ...
- عيّنات من المخطّطات الأمريكية في الوطن العربي
- عرض كتاب -دعوني أتحدث!-
- الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية وشؤكاؤها ( USAID & Co )
- متابعات – العدد العاشر بعد المائة بتاريخ الثامن من شباط/فبرا ...
- تونس - في ذكرى اغتيال شُكْرِي بلْعِيد
- عَرْض كتاب بعنوان -فرنسا أرض الهجرة-
- الولايات المتحدة في مواجهة العالم
- إفريقيا بين الثروات الطّبيعية والدُّيُون والفَقْر
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد التّاسع بعد المائة، بتاريخ الأ ...
- سباق الذّكاء الإصطناعي ضمن الحرب التكنولوجية
- تواطؤ عمالقة التكنولوجيا في جرائم الحرب
- الولايات المتحدة: هيمنة الطابع العسكري على العمل الدّبلوماسي
- هوامش منتدى دافوس
- من أجل تحالف حركة مُقاطعة الكيان الصهيوني مع حركات النضال ضد ...
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الثّامن بعد المائة، بتاريخ الخ ...
- الجزائر ، باسم -البراغماتية-
- دونالد ترامب رَمْز الغَطْرَسَة الأمريكية المُكَثَّفَة
- غزّة - تدمير المَوْرُوث الحضاري والثّقافي


المزيد.....




- بعد رفضها الامتثال للأوامر... ترامب يجمّد منحًا بأكثر من 2.2 ...
- أوكرانيا تعلن القبض عن أسرى صينيين جُنّدوا للقتال في صفوف ال ...
- خبير نووي مصري: طهران لا تعتمد على عقل واحد ولديها أوراق لمو ...
- الرئيس اللبناني يجري زيارة رسمية إلى قطر
- الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف
- الرئيس اللبناني: 2025 سيكون عام حصر السلاح بيد الدولة ولن نس ...
- ابنة شقيقة مارين لوبان تدعو وزير الخارجية الفرنسي لتقديم است ...
- نتنياهو يوضح لماكرون سبب معارضته إقامة دولة فلسطين
- في حدث مليوني مثير للجدل.. إطلاق أول سباق عالمي للحيوانات ال ...
- بيان وزارة الدفاع الروسية عن سير العمليات في كورسك


المزيد.....

- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - فخ الدُّيُون الخارجية- نموذج سريلانكا في ظلِّ سُلْطة -اليسار-