رياض رمزي
الحوار المتمدن-العدد: 8259 - 2025 / 2 / 20 - 00:31
المحور:
الادب والفن
صنع في النجف رقم 6 رياض رمزي
زيارة قبر عيسى غيدان.
عندما زرت قبره بعد ما يقرب من ثلاثين عاما على وفاته تذكرت ما كان يقوله في سنوات سجنه: مناطحة الثيران تمارس نوعا من الإحماء على المصارع بشرط أن تكون له أما حظوظ متعادلة مع الثور أو وجود أملٍ في الفوز عليه. ما الداعي إن تصارع إن لم تكن لديك إرادة في الفوز؟. هل كان عيسى يسلّي نفسه بالعيش في رحاب وهم مفاده ندّية مستحيلة تُبقي حواسه متأهبة ليمنعها من الضمور.
كتب لي يوما وأنا بعيدٌ عنه "باتت حياتي المظلمة أكثر إنارة حين قرأت رواية والفولاذ سقيناه لأوستروفسكي. ملأ الكاتبُ عماي بإحاطة بالغة، وأرسى لكل ما كان مظلما فيّ قيمة نورانية. بدأت أضواء الأفكار تأتيني ومعها رسالة توصية بضرورة تصديقها". عيسى غيدان في 11-5- 1977
يحتفظ بدفتر طويل ذا غلاف أحمر مخطط بخطوط بيضاء من نفس نوع الدفاتر التي تُستخدم لتسجيل حسابات الحوانيت التي تتعامل مع زبائن أغلبهم من فقراء الموظفين الذي يدفعون أثمان مشترياتهم في نهاية الشهر. أمضى سنينا يكتب فيه خواطر مختلفة و يضع فيه قصاصات من جرائد... وضع في مقدمة الدفتر قصيدة ألجواهري التي كتبها بخط يده و تبتدئ بقسم الثورة الحمراء: قسما بالثورة الحمراء و الثوار/ و بالفرات و مائه الجاري. هناك أشعار قام بترجمتها من الفارسية لشاعر أسمه بابا طاهر الهمداني. وهي رباعية تنتهي بلازمة" أنني للروض مشتاق". كان حتى الثمانين من عمره يتعلم اللغة الروسية التي بدأ دراستها عندما كان في السجن. أذكر ذهابي أنا و أخي إلى دائرة النفوس لاستخراج شهادة الجنسية... شاهد من بعيد موظفا يجلس وراء كدسة من معاملات. تقدم نحوه و همس بإذنه بالتركية فأنجز المعاملة بهدوء. لم أسمعه أبدا يقول أنه يعرف اللغة التركية.
ترأس جمعية بناء المساكن للمعلمين... لكي يبني قطعة الأر،ض قام بشراء ثلاجة من محل صديق بأقساط و باعها نقدا بسعر أقل كي يوفر سيولة لبناء البيت... تجاوز المكاتب الهندسية التي كانت تطلب منه أجرا عاليا لتصميم البيت قام عن طريق أحد معارفه في دار البلدية باستعارة تصاميم لبيوت مشيدة فقام بتلفيق تصميم لبيت عصري محاط بحديقة. لكنه فتح من جدار الطابق الثاني بابا يطل مباشرة على الحديقة. كان أصدقائه يتندرون على تلك الباب التي تنفتح مباشرة على الحديقة التي تبعد في الأسفل لعدة أمتار بأنها طريقة نموذجية للانتحار.
ملخص موته: مات، مثل قائد يقال له وهو في عز سلطته" يا للمهابة"، وعندما ينهزم يقال" يا للرجل البائس المسكين".
عندما أصيب بالسرطان و غدا نصف مشلول، و استشعر أن ساعته الأخيرة قد دنت، لم يكن لديه الوقت الكافي لقول شيء عن حياته، فالاحتضار لم يترك الوقت لذلك، فملاك الموت كان يلح في طلب عائديته، لكن كان لديه، ما يكفي من الفطنة ليدرك أن ما تبقى له من الوقت سويعات تكرّم بها عليه ساعي الموت. عزم أن ينهي حياته باعتراف من يرفض الانسحاب مرغما و ليس له الوقت لإنفاقه على الشكوى بعبارات" انتهت صلاحيتي"، " هذا ليس عدلا"، " هذا ليس جزاء وفاقا"... حينها تلفّظ و بسرعة بآخر عبارة لأبنته سهير، كمن خرج عاريا إلى الشارع متحديا توعدات الطقس، و ليس كمن يحشر نفسه تحت أي سقف احتماء من الرياح و المطر" لست خائفا من الموت". وهي جملة خبرية محضة لا ينتظر من ألقاهاكلاما فيه نبرة صلح، جوابا. بهذا الخطبة القصيرة انسحب عيسى متواريا إلى مستقره النهائي.
تظهر على وجهه علامات الجدري. عندما ملأت بثور الجدري وجهه عالجته أمه جواهر وسقته حليب التيس كما قيل لها. قيل لجواهر أن الولد سيموت. طُلب منها أن تجيء بكفن لتقول أنها ترضى بحكم الله، لكنها ظلت مواظبة على سقيه حليب التيس و ترديد تهديلات المهد. لكن ما حدث أنها جاءت بكفن لتقنعه أن كان يعجز عن البقاء فهذه هي كسوته. حين أدارت رأسه نحو القبلة، تناهى إلى سمعه أنها تقول كلنا سيموت و لكن أن نذهب قبل الأوان هذا ما أعترض عليه... هكذا ما عدته الأم كرما من الله، كان الطفل يحسبه هزيمة من هو خال من الإرادة. دفع القماش الأبيض بقدمه. هكذا ما حمله وجهه من بثور الجدري كان تذكيرا أنه بفضل إرادته فر الموت من أمامه. إذ بدلا من مغادرة الدنيا بكسوة بيضاء و إلى مكان واحد فضَّل تغيير ملابسه و الذهاب إلى المدرسة ليتلمس موقعه في الدنيا. عندما حلّ موعد الشفاء نهض رافضا وضع ذاته تحت تصرف ملاك الموت. طال بحث الموت عنه. أخطأه عندما كان هناك فرد من الحرس القومي في شرطة الباغات والمأمون ينادي على أسم من كان يجلس بجانبه. قام هذا الرجل و قال نعم" أنا متي الشيخ، أنا من تنادي عليه". و عثر الموت على أحد الجالسين في مركز شرطة المأمون ، ثم على الثاني و لكن بعد أكثر من ثلاثين عاما، ليأخذ ثأره منه.
كيف أبدى عقل عيسى مهارة وجرأة أن يكون شيوعيا؟، برغم أن عائلته لم تكن مهيأة لهكذا نوع من فروسية، أن يكون خصما للحكومة. كان ينقصها الخبز لتلتحق بالسلالات الأصيلة التي تقاتل الحكام. لكنه من سوء حظه قرأ كتابا جعل إيمانه بذاته مختلا. مثل زرزور إن فقد الحيطة سيصبح نهما لصقور الجو. ليس على المرء أن يكون خبيرا بعلم الكواسر ليفهم أن الطيران في الجو يجب أن يترافق مع قوة ودهاء كي لا يذهب إلى مقابر جهنم. تعلم هذه الحكمة من صديق سبقه لقراءة كتاب الأم لمكسيم غوركي . وكتاب رواية الساعة الخامسة والعشرون.. مع كتب أخرى فهم منها أن حياة الفرد تتآكل حين تتآكل إرادته. كانت أفكار مثل الإرادة، الضرورة، الأعداء الطبقيين... حديثة العهد عليه. كان يجلس في البيت، يذهب إلى المقهى أو نادي الموظفين، دون تدخّل ممن يدخل البلبلة في عقله. في يوم طرق الباب عليه صديق قيل عنه أنه يحيط بمعارف خطرة تشكل بحق مشكلة لدى السلطات. قال له أنت يا عيسى لست كرديا برأس مكرّس لقول كلمة نعم. كانت مثل جدحة كبريت أزالت الضباب عن عينيه. أنت يا عيسى قادر على صنع مآثر مستحيلة. كان عقل عيسى يشبه إناء يسمح بنفاذية الماء. قال له الزائر في سنة 1917 حدثت معركة بين حفاة ومنتعلين. خلّفت المعركة ضحايا، أهميتها جاءت من منتصرين رجّحوا أهميتها. لو انتصر الخاسرون ولم يربح المنتصرون لتغير وجه العالم، من خسر يبكي ومن انتصر يضحك سعيدا. " هل تريد حجز مكان معنا نحن المنتصرون؟". ظهرت على الشاب علامات دهشة كمن يتسلّم عشبة الخلود علانية من ملاك يسير وورائه مجموعة من فقراء تحث خطاها نحو جنان الفردوس. ليشحذ قدرات سامعه قال يخاطبهم " الحياة مرهونة بقدرات من ينحت صخور حياته وفق إرادته". كلمات أتبعها بلغة دينية" حتى المقابر تحب الحياة وتزدهر بأشجار السدر وزهور تنشر العطر. يا عيسى لا يوجد في الدنيا مسكين المسكنة اختيار". تذكر عيسى أنه كلام سمعه من إحدى إذاعات البلاشفة حين قالوا الأوطان ليست أمكنة جئنا إليها مصادفة، نمكث فيها وتصلح لعيشٍ قصير نضع فيها ملابسنا كما في صناديق تشبه التوابيت وحولنا أمٌ، زوجة، وأولاد يبكون، ولا نحظى حتى بمانشيت في جريدة تشبّهنا حتى كفلاحين أرهقوا عقولهم كل يوم وهو يقدمون غرسا يوميا لطلابهم. نحن لسنا فقراء مهانين يحتفظون بجلودهم كي يأتي الإقطاعي ويدبغها كما يشاء. كلمات كانت مثل سيل من رصاص صُبّ على جسده. حين خرج الرجل رآه عيسى ولم يلاحظ أنه زرّر جاكتته بأصابع مرتجفة.
#رياض_رمزي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟