صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8257 - 2025 / 2 / 18 - 11:47
المحور:
الادب والفن
مقامة الخنفشاري :
يكثر استخدام مفردة (خنفشاري) , وهي صفة لأي شي لا معنى له , أو لشخص مدعي , حيث أن الكلمة ليس لها معنى أساسا , وتطلق على الشخص الذي يدعي معرفة كل شيء , ويتداول نقاد الأدب فيما بينهم كلمة خنفشار ويطلقونها على من يدعي الفهم والعلم وهو لايملك منهما شيئا , وقد ورد في قصة عند العرب : أن رجلاً كان يفتي كل سائل دون توقف , فلحظ أقرانه ذلك منه , فأجمعوا أمرهم لامتحانه , بنحت كلمة ليس لها أصل هي ((الخنفشار)) فسألوه عنها , فأجاب على البديهة : بأنه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن إذا أكلته الإبل عقد لبنها , قال شاعرهم اليماني : (( لقد عَقَدَت محبتُكم فؤادي .... كما عقد الحليبَ الخنفشار)) .
كنت دائما أتساءل عن معنى الخنفشاري كلما طرقت سمعي هذه العبارة , وكنت أعتقد فيما مضى إنها مفردة محلية الصنع حالها حال الكثير من المفردات الدخيلة على لغتنا العربية , ولكن بعد ان قرأت قصة هذه المفردة تبين ان للخنفشارية معنى وأصل , حيث يقال ان
جماعة من الأدباء زارهم رجل كذاب محتال إلا أنه كان فصيح اللسان , وادعى لهم أنه من أهل العلم فما سألوه عن مسألة إلا أفاض في جوابها ارتجالا بما حير ألبابهم , فقال أحدهم : تعالوا نمتحنه لنعلم صدقه من كذبه , وكانوا ستة فقالوا : ليكتب كل واحد منا حرفا ثم نجمعها فتصير كلمة ونسأله عن معناها , فكتب كل واحد منهم حرفا ثم جمعوا الأحرف فتألفت منها كلمة هي ( خنفشار ) , فقالوا أيها الأديب هل تعرف الخنفشار ؟ فقال: نعم هو نبات يطول إلى مقدار ذراع وله أوراق مستديرة , وفيه لبن وهو صالح يوضع في اللبن الحليب فيحسن طعمه , وتطيب رائحته قال الشاعر :(( لقد حلت محبتكم بقلبي .. كما نفع الحليب الخنفشار)) , وله خواص طبية , ونقل عن الأطباء اليونانيين منافع كثيرة لهذا النبات , ثم قال : وقال رسول الله (ص) , فوضع أحدهم يده على فمه , وقال أيها الرجل حسبك بهتانا , كذبت على علماء اللغة وعلى الشعراء وعلى الأطباء والآن تريد أن تكذب على النبي (ص) ؟
هناك مدع آخر قال ان الخنفشار نبات كثير الشوك ينبت في الصحراء , ومنذ ذاك , أصبح ذلك الاسم مضرب المثل فيقال خنفشاري لمن يتكلم فيما لا يعلم , ويا لله ما أكثرهم في هذه الأيام , فلست بحاجة لأكثر من أن تسأل عن شيء ما حتى تجد ألف متكلم بألف جواب, فإذا قرأ الشخص معلومة اقتنصها من التلفاز أو من جريدة أو مجلة أو حتى من الانترنت أو تطرق إليها أحد أمامه أصبح ذلك الشخص منظراً في ذاك العلم كله وإن كانت المعلومة التي حصل عليها أصلاً على أساس علمي خاطئ .
مما يلفت الانتباه أن تجلس مع شخص بسيط نصيبه من العلم بضع سنوات من الرسوب في الثانوية العامة أو شهادة جامعية حصل عليها بطريقة هذه ألأيام , ويجهل حتى اسمها, لينشأ يحدثك عن مشاكل المجتمع والإدارات والوزارات وأنه لو كان مديراً عاماً أو وزيراً لحل كل هذه المشاكل بجرة قلم , فإن سألت عن سر جرة القلم هذه سمعت العُجاب , وإن جلست يوماً وسألت عن حالة مرضية أعيتك من حرقة معدة أو نفخة أو أي مرض مما كثر هذه الأيام رأيت مَن حولك أصبحوا أطباء أو عطارين مهرة يشخصون حالتك ويصفون الوصفات العشبية لك , فيثني هذا على هذه العشبة وآخر على تلك , وإن كان ليعوز معظمهم التمييز بين القرع والبطيخ , ولربما استطرد البعض فوصف لك بعض الأدوية الطبية وكأن ابن سينا قد خلق من جديد في جسد هذا الشخص , والأسوء من هذا أن تجد أذن تصغي لهذا الهذر وتقوم بما تسمع فتكون الطامة الكبرى قد وقعت عليها, أو لعلك جلست في أحد الأيام مع صحبة لك تتناقشون فيما تتداوله الأخبار فكان الموضوع عن الأزمة المالية العالمية , عندها ستظهر المعجزات وستبنى النظريات الاقتصادية الحديثة التي تحل مشاكل العالم الحالي ( التي أعيت علماءه ) من أناس أعيتهم قروض البنوك وفوائدها , ولربما أخذت تطرق سمعك مصطلحات كالتضخم والرهن العقاري .. الخ , والحلول الناجعة لهذه الظواهر من أشخاص لو طلبت منهم أن يكتبوا هذه الكلمات لترددوا كثيراً خوفاً من أن يقعوا في خطأ إملائي يعاب عليهم.
يقول رب العزة : (( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ , إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)) , (36 الإسراء) , تحتاج هذه الأمة لجيل واع مثقف ينهض بركب الأمة ويستأنف مسيرة توقفت منذ زمن فتخلفت عن الركب الحضاري , بحاجة لجيل يشخص مواطن المرض بعقل وعلم ويصف الدواء الناجع بخبرة واقتدار, لكن دون استخفاف بعقول المحيطين ودون تألي على العلم والمعرفة , فإن أردت أن أظهر للناس أني مارد ليس علي أن ألبس ثوباً أكبر بكثير مني , فلكم سيكون مظهري مضحكاً لأن ذلك سيسيء لي ويظهرني قزماً في عين الناس على عكس ما اشتهيت , فمن غير اللائق أن يتكلم المرء فيما لا يعلم لأنه يسيء لنفسه ويحط من قدر من يسمعه , فإن كانت لدي معرفة متواضعة في أي مجال حرصت عليها ونميتها وأثريتها بالمطالعة والسؤال لأهل العلم, ورحم الله حكيماً حين سئل : كيف حزت العلم ؟ أجاب : (( بلسان سؤول وقلب عقول )) .
هناك حديث للرسول الكريم : ((سيأتي على الناس سنون خداعات.. يُصدَّقُ الكاذب ويُكذَّبُ الصادق ويُخوَّنُ الأمين ويُؤمَّنُ الخائن ويًنطقُ الرويبظة)) , ولعل أقسى هذه الظواهر على القلب, أن تجد سواد هذه الأمة يفتي في المسائل الدينية, فالدين أسهل ما يتكلم فيه, ولا تجد من يتورع عن الفتيا إلا من رحم ربي , فلكم طلقت نساء بفتية جاهل , ولكم أبيحت محرمات وحرمت مباحات برأي متسلق للعلم خنفشاري , ولكم فُسِّرت آيات من كتاب الله ممن لا يحفظ منه إلا الفاتحة ولعله تلعثم فيها .
رحم الله الفاروق عمر حيث قال : (( لا أزال أهاب الرجل حتى يتكلم , فإن تكلم عرفته )) , إن جهلنا بمسألة أو عدة مسائل في الحياة أمر طبيعي فالعلم بحر وما نالت البشرية منه إلا قطرة , فما الضير إن كان نصيبنا قطيرة , فلا يغرينا حب الظهور وفتنة الحديث في المجالس إن حبانا الله بعض العلم أن نخوض فيما لا نعلم لأن هناك من يعلم في هذا المجلس فتتغير نظرته ويذهب احترامه لنا , فلكم هو جميل أن نجعل قصر رداء معرفتنا سبب وحافز لإطالة هذا الرداء بجد الإطلاع , لا سبب في خلعه وتعرية أنفسنا وارتداءنا ثوباً ليس لنا فنفقد احترام عزيز أو صديق , وقديما قالوا : من قال لا أدري فقد أفتى , ولكن بعض الناس بينهم وبين جملة ((لا أعلم )) خصام , فتجدهم يظهرون المعرفة بكل شيء , ولذلك يدلون بآرائهم بأي شيء , كأنها حقائق مسلمة , وقد أطلق الأولون على هؤلاء اسم ((الخنفشاري )) .
صباح الزهيري .
#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟