أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح بشير - قصيدة -مطر على خدّ الطّين-.. بحث عن الذّات في محراب الحبّ والخطيئة















المزيد.....


قصيدة -مطر على خدّ الطّين-.. بحث عن الذّات في محراب الحبّ والخطيئة


صباح بشير
أديبة وناقدة

(Sabah Basheer)


الحوار المتمدن-العدد: 8257 - 2025 / 2 / 18 - 09:51
المحور: الادب والفن
    



في قصيدة "مطر على خدّ الطّين"، ينسج الشّاعر العراقيّ حسين السيّاب خيوط تجربته الشّعريّة على نولِ كلماته، يرسم بدموع الحنين لوحة فنّيّة لتأمّلاته في الرّوح والوجود، يتناول مجموعة من المواضيع، بما فيها الحنين إلى الوطن، البحث عن الحبّ وعن الذّات، اليأس والتّأمّل في سرّ الحياة والموت، هذه المواضيع تجعل القصيدة مؤثّرة، وتعكس شدّة المشاعر الّتي يتمّ التّعبير عنها.
في هذا المقال، أقدّم رؤية شاملة، وتحليلا مفصّلا للقصيدة، أتناول فيه الرّموز والصّور الشّعريّة المستخدمة، والمضامين الرئيسيّة، اللّغة والإيقاع.
تسير بنا هذه القصيدة عبر دروب الرّوح؛ لتأخذنا في مسار عميق داخل أنفسنا، فتتكشّف لنا خبايا الذّات وأغوارها، وتتجسّد أمامنا صور من الواقع، ممزوجة بأحلام الشّاعر وتطلّعاته.
في كلّ بيت من الأبيات، يتردّد صدىً لمشاعر إنسانيّة عميقة، تتجاوز حدود الزّمان والمكان، وتلامس قلوبنا بلطف، مثيرة فينا تساؤلات وجوديّة عميقة.
تعكس هذه المشاعر تجربة إنسان يعيش في خضمّ زمن عصيب، يحمل في أعماقه حبّا لوطنه، وشوقا إلى الحياة.
يحمل العنوان صورة المطر على الطّين، وهو مشهد يختزل في بساطته جمال الطّبيعة وعظمتها، فقطرات المطر تتراقص على سطح الأرض، لترسم لوحة بديعة، تمتزج فيها ألوان السّماء والأرض في تناغم.
يرمز المطر إلى الحياة والخصوبة، بينما يرمز الطّين إلى الأرض والوطن والانتماء، فهو يحتضن البذور، لينبت منها الزّرع، إنّهما معا يشكّلان دورة الحياة في أبهى صورها. قطرات المطر تنهمر على الأرض، فتغسلها وتنقّيها، وتذكّرنا بقدرة الطّبيعة على التّجدّد والبعث من جديد.
هذه الثّنائيّة تخلق توازنا بين عنصريّ الحياة والموت، وتعكس رؤية الشّاعر للوجود؛ كدورة مستمرّة من الخلق والفناء، وهي دعوة للتّأمّل في أبسط مظاهر الوجود.
ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن ذاته، حيث يقول: "من دون جناح أغرّد خارج السّرب"، يصف نفسه بأنّه خارج السّرب، ليعبّر عن إحساسه بالاغتراب والوحدة والانعزال عن المجتمع، يشعر بالانفصال عن الآخرين، وأنّه يعيش في عالم خاصّ به مليء بالتّساؤلات والتّناقضات، يشبّه نفسه بطائر يغرّد، لكنّه بلا أجنحة، أيّ يحاول التميّز والتّفرّد عن الآخرين، لكنّه يفتقر إلى الأدوات أو القدرات الّتي تمكّنه من ذلك.
هذا الاغتراب ليس إحساسا شخصيّا فقط، بل هو وصف لحالة الضّياع الّتي يعيشها الإنسان العربيّ في عالمنا الحديث، حيث تسود الفرديّة والتّنافس، وصعوبة إيجاد مكانه.
يشعر السيّاب أنّه غريب عن ذاته، وغريب عن العالم من حوله، وهذا الشّعور يتفاقم مع تزايد الضّغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الّتي يعيشها، يبحث عن ملاذ آمن، وعن مكان يشعر فيه بالانتماء، لكنّه يجد نفسه تائها في متاهة الحياة، حيث يحيط به الخوف والقلق.
هذه الحالة من الضّياع والاغتراب تعكس أزمة الهويّة الّتي يعيشها الإنسان العربيّ، الّذي يجد صعوبة في التّوفيق بين هويّته التّقليديّة وبين متطلّبات العصر الحديث.
يستخدم الشّاعر رموزا أخرى في قصيدته، مثل الغيم، الّذي يرمز به إلى الأحلام والأماني، أمّا السّرب فيرمز إلى الجماعة والمجتمع.
"يقرع طبول النّشوة": يستخدم رمزَ الطبول للتّعبير عن الفرح أو الاحتفال، لكنّه فرح محاط بالوحدة، كأنّه صدىً للاحتفال، يتردّد في مكان خالٍ، ويُعزَف في عزلة وانفراد.
"على حافّة القمر المنسيّ أجلس": يستعير صورة حافّة القمر، لتجسيد عزلته ووحدته، وكأنّه يجلس في مكان مهجور ومنسيّ.
تضيء هذه الرّموز لتكشف عن أعماق تجربته الإنسانيّة، فتدعونا إلى الاقتراب أكثر من روحه الشّاعرة، نستشعر صراعه في الحياة بين رغباته في الانتماء والوحدة، وبين إحساسه بالاغتراب، يعبّر عن أعمق مشاعره وأفكاره وآماله بطريقة مؤثّرة، يستخدمها كنوافذ تطلّ على عالمه الدّاخليّ، من خلالها نستشعر ألمه وأمله، يقول: "الغيم صاحبي"، وهذه استعارة لصفة الصّداقة مع الغيم، وتصوير لعلاقته الوثيقة بالطّبيعة، وكأنّه يجد في الغيم صديقا ورفيقا.
كما تتوشّح القصيدة بلغة مكثّفة قويّة ومؤثّرة، تتناغم فيها التّراكيب اللّغويّة الأنيقة، فتتجلى قدرته على تطويع اللّغة وتحويلها إلى أداة فنّيّة قادرة على التّعبير عن مكنوناته.
من أبرز الصّور الشّعريّة في القصيدة: "أطرّز النّجمات على خدّ اللّيل"، و"أتأمّل القيامة على أبواب المتاهة"، و"محمولاً على أكتافِ الذّنوب".
تشير هذه الصّور إلى رؤية الشّاعر إلى الكون والحياة، فالنّجوم الّتي يطرّزها على خدّ اللّيل ترمز إلى الأمل والتّفاؤل، يشبه اللّيل بصفحةٍ أو قماش أسود، والنّجوم كخيوط أو نقوش يطرّز بها هذا اللّيل، ليضفي عليه جمالا وبهجة، بينما القيامة الّتي يتأمّلها على أبواب المتاهة فترمز إلى الخوف والقلق.
قد تشير المتاهة إلى الحياة بصعوباتها وضياعها، بينما القيامة تحمل معنى النّهاية والموت، وهذا التّصوير يعكس تفكير الشّاعر في الموت كحقيقة قادمة بعد متاهة الحياة.
كما يظهر الحنين إلى الوطن والحبيبة في عدّة أبيات:
• "عواصفُ حنين تجتاحني": يصف الحالة الشّوق الجارفة الّتي تنتابه، مستخدما كلمة "عواصف"؛ للتّعبير عن قوّة هذا الشّعور وتأثيره عليه.
• "ثمّةَ لحظاتٌ لا تنسى كنتُ فيها بينَ ذراعيكِ أستريحُ من تعبِ الرّحلةِ": يستحضر ذكريات ولحظات دافئة قضاها في وطنه مع الحبيبة، فيشعر بالحنين إلى تلك الأيّام الّتي أحسّ فيها بالرّاحة والأمان والاستقرار.
• أحنُّ للشّتاء.. أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيل": يعبّر عن حنينه إلى مظاهر طبيعيّة وأجواء معيّنة في وطنه، مثل فصل الشّتاء ونجوم اللّيل، حيث يرتبط ذلك لديه بذكريات جميلة وأوقات سعيدة.
• أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ": هذا البيت يحمل دلالاتٍ رمزيّة عميقة، ويمكن تفسيره على أنّه تعبير عن الحنين إلى الماضي، وإلى فترة ذهبيّة في تاريخ الوطن، حيث كانت الحياة أبسط وأكثر نقاء.
يستخدم السيّاب التّشبيهات والمشاهد الحسّيّة بشكل كبير للتّعبير عن المشاعر، مثل: "عواصف الحنين" و "تطريز النّجمات"، ممّا يجعل القارئ يشعر بقوّة الشّوق الّذي يعاني منه.
يوظّف بعض الرّموز مثل "المعبد" و "المتاهة"؛ للتّعبير عن أبعاد أعمق، مثل البعد التّاريخيّ والثّقافيّ، ويستخدم بعض التّناقضات في القصيدة، وبعض الصّور القويّة الموحيّة، للتّعبير عن حالة نفسيّة قلقة، وعن حالة الاغتراب والضّياع الّتي يعيشها، مثل: "وحيداً يقفُ بالمقلوب"، الّتي تشير إلى الفوضى والقلق، و"بينما تتسرّبُ زمرُ الجنِّ من الشّطآنِ"، الّتي تعكس بعض الأفكار السّلبيّة المتسلّلة إلى وعيه، أمّا "الشّطآن" فتمثّل المكان المألوف الّذي يتحوّل هنا إلى مصدر للتّهديد.
هذا التّصوير يخلق جوّا من الخوف وعدم الاستقرار، والشّعور أنّ قوىً مجهولة تتسلّل إلى حياتنا وتزعزع استقرارنا.
"يتلظّى دمي"، هذه العبارة تصوّر حالة الغضب أو الانفعال الشّديد أو الإثارة. يستعير صفة التّلظّي (الاشتعال) للدّم؛ ليصوّر الشّوق أو الحنين الملتهب الّذي يجتاحه.
يعكس هذا التّصوير عمق التّوتّر الّذي يتخبّط فيه الإنسان، والقلق الوجوديّ الّذي يساوره تجاه ما يهدّد استقراره.
يقول أيضا: أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيلِ، الغافي على أسوارِ معبد إينانا ، يرسم هنا صورة ليل ساكن ومهيب، حيث يغفو اللّيل على أسوار معبد "إينانا"، إلهة الحبّ والحرب عند السّومريين، وهو من أقدم المعابد في العراق.
تطريز النّجمات على خدّ اللّيل، يضفي جمالا ورونقا على هذا المشهد، وكأنّه يزيّن ظلمة اللّيل بأضواء سماويّة.
هذا المزيج بين اللّيل، المعبد، والنّجوم يخلق أجواءً من السّحر والغموض.
"أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ"، بعد جمال اللّيل، ينتقل إلى مشهد معاكس تماما، حيث يتأمّل القيامة، محوّلا إدراك القارئ من المحسوس إلى الرّوحاني. هذه القيامة ليست قيامة منتظرة، بل هي قيامة متأمّلة على "أبواب المتاهة".
تشير المتاهة إلى الضّياع والتّيه، وكأنّ القيامة لن تأتي إلا بعد معاناة وتخبّط، وهذا ما يعكس رؤية قاتمة لحياتنا، حيث يرى أنّ الخلاص أو القيامة بعيد المنال.
"بشبقِ الصّمتِ أداوي خربشاتِ المطر على وجهي"، هنا يكمن المزج بين المتعة والألم، ممّا يوحي بلذّة كامنة في الصّمت، بينما "خربشات المطر" على الوجه، توحي بآثار الحزن والمعاناة.
يداوي الشّاعر آلامه بالصّمت، فالصّمت هو ملاذه الوحيد وراحته، يستعير صفة الشّبق للصّمت؛ ليصور احتياجه إلى الهدوء والسّلام، وكأنّه يجد في الصّمت ملاذا يشفيه من آثار المطر.
"حين شقَّ شطُّ البداياتِ مجرىً لحكايةٍ تسلّلَتْ من مخيِّلةِ الفرات"، في هذا البيت يشير إلى بداية قصّة أو تجربة جديدة.
"شطّ البدايات" يمثّل نقطة انطلاق، و"مجرى الحكاية" يجسّد مسار هذه التّجربة، والفرات، النّهر العظيم، هو مصدر الإلهام والإبداع، وكأنّ الحكاية قد ولدت من رحم هذا النّهر العظيم الّذي يشير به إلى الوطن.
"تمسّكتُ بأظافر الشّيطان، يمّمتُ وجهيَ شطرَ بابِ الأزل"، قوى الشّر هي "أظافر الشّيطان" الّتي ترمز إلى الخطايا والمعاصي، لكنّه في الوقت نفسه يتّجه نحو "باب الأزل"، أيّ نحو الله، أو الحقيقة المطلقة، ويستعير صورة أظافر الشّيطان لتجسيد حالة من الإصرار والعزيمة القويّة، في سبيل تحقيق هدف غير مشروع.
هذا التّناقض يعكس الصّراع بين الخير والشّر، بين الانجذاب إلى الملذّات ورغبة الإنسان في الوصول إلى الحقيقة.
"أسعى إليكِ، محمولاً على أكتافِ الذّنوب"، هذا البيت يكشف عن عمق العلاقة بين الشّاعر والمخاطب (المرأة)، فهو يسعى إليها، محمّلا بالأوزار، وهذا ما يعكس فكرة أنّ الحبّ قد يكون مرتبطا بالخطيئة، أو أنّ الإنسان قد يرتكب الخطايا بدافع الحبّ، قد يكون محمّلا بالهموم أيضا، الّتي تثقل عليه مسيرته فيعبّر عنها بالأوزار، يستعير أيضا صورة الأكتاف الّتي تحمل الأثقال؛ ليصوّر الشّعور بالذّنب أو الخطايا الّتي تثقل كاهله.
"فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ لنتقاسمَ الخطايا السّبع"، يستعير هنا صورة الأبواب الّتي تفتح؛ لتصوّر الانفتاح على الآخر وتقاسم المسؤوليّة أو المصائب معه، ويطلب من حبيبته أن تفتح له أبوابها، لتشاركه خطاياه.
الأبواب الثمّانية قد ترمز إلى أبواب الجنّة أو النّار، وتقاسم الخطايا السّبع يشير إلى تحمّل تبعات الحياة وأوزارها، وهذا يقود إلى التّفكير في الموت وما بعده.
"وتظلّين خطيئتي المقدّسة الّتي لا تبصرُ النّورَ"، يستعير صفة القداسة للخطيئة، لإظهار حالة العشق، أو التّعلّق بشيء يعتبره خطيئة، لكنّه يحمل قيمة عالية في قلبه، ويخفيه عن النّاس كَسِرٍّ مكتوم في أعماق قلبه، أو كعاشق يخفي عن العالمين معشوقته، يجعلها سرّا بينه وبين نفسه، يتقبّلها بكلّ ما فيها من ألم ولذّة، أو كجرح لا يندمل، لكنّه يمنحنه شعورا فريدا لا يريد أن يشاركه فيه أحد.
"الخطايا السّبع" تشير إلى الخطايا الكبرى، لكنّه يضفي عليها بعدا مقدّسا، حيث يعتبر المرأة "خطيئته المقدّسة الّتي لا تبصر النّور"، وهذا التّعبير يوحي أنّ الحبّ، حتّى لو كان مرتبطا بالخطيئة، يبقى شيئا مقدّسا وساميا.
هذا البيت الشّعريّ عميق ومثير للتّساؤلات، فهو مليء بالرّموز الدّينيّة، ما يجعله غنيّا بالمعاني والإيحاءات، سأحاول تفكيكه وتحليله بشكل مفصّل:
• "فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ": يرمز بها إلى أبواب بيتها أو قلبها، أو إلى الحواجز والصّعوبات الّتي يجب عليه تجاوزها ها للوصول إلى تلك المرأة، يطلب منها أن تكشف له عن هذه الجوانب وأن تفتح له قلبها. يمكن اعتبار الأبواب؛ كرمز لطبقات شخصيّة المرأة أو جوانبها المتعدّدة.
• "لنتقاسمَ الخطايا السّبع: يشير إلى الخطايا السّبع المميتة في المسيحيّة، مستخدما هذا المفهوم الدّينيّ بشكل مجازيّ، وقد يعني أيضا، الاعتراف بالضّعف البشريّ، والتّورّط في العلاقة والمشاركة في الألم والمعاناة، وهذا ما يعكس فكرة أن الإنسان خطّاء بطبعه، وأنّ الشّاعر والمرأة ليسا استثناء من ذلك.
• "وتظلّين خطيئتي المقدّسةَ الّتي لا تبصرُ النّور": يصف خطيئته بالمقدّسة، وهذا يضفي عليها طابعا خاصّا، ممّا يعني الحبّ المحرّم الّذي يشير إلى أنّ علاقته بالمرأة هي "خطيئة" في نظر المجتمع أو الدّين، إن كانت من دين آخر ويحرّم عليه الارتباط بها، لكنّها في نظره "مقدّسة" بسبب الحبّ الشّدّيد الّذي يكنّه لها.
• "الّتي لا تبصر النّور": هذه العبارة تعمّق فكرة السّريّة، وقد تعني أنّ هذه الخطيئة تبقى مخفيّة عن أعين النّاس، ولا يمكن البوح بها علنا، فهذه الخطيئة (العلاقة) الّتي لا يراها أحد هي شأن شخصيّ بين الشّاعر والمرأة، ولا يمكن لأحد آخر تفهّمها.
على الجانب الآخر.. رغم مما تحمله هذه القصيدة من أوجاع وإحساس بالاغتراب، إلّا أنّها توقد جذوة الأمل في القلب، فمثلا نجد احتفاءً عميقا بجمال الطّبيعة في العنوان، الّذي يحمل صورة المطر الملامس لخدّ الطّين، ثمّ تصوير لمشهد اللّيل المرصّع بالنّجوم، والحنين إلى الشّتاء.
هذا الاحتفاء بجمال الطّبيعة يعكس حساسيّة الشّاعر المرهفة، وقدرته على استشعار الجمال في مظاهر الحياة، وهذا الشّوق إلى الحبيبة، يمثّل قوّة دافعة تدفعه إلى الأمام، ويوقظ فيه الأمل.
يتفكّر الشّاعر في قيمة الوجود ومعنى الحبّ، الحياة والموت. هذا التّفكّر هو بحث عن المعنى، ما يضفي على القصيدة عمقا فلسفيّا وإنسانيّا، وفي النّهاية يتقبّل فكرة الخطيئة كجزء من التّجربة الإنسانيّة، ويراها بعين مختلفة، حيث تصبح "خطيئته المقدّسة"، وهذا ما يشير إلى قدرته على تجاوز الألم والمعاناة، وتحويلها إلى جزء من تجربته الرّوحيّة.
عن الإيقاع في القصيدة: نلاحظ بعض التّفعيلات المتنوّعة، ما يخلق إيقاعا حرّا يتماشى مع تدفّق المشاعر والأفكار، ويعبّر عنها بطريقة مباشرة وغير مباشرة. لا يقتصر الإيقاع على مستوى الأسطر والجمل فقط، بل يمتدّ إلى مستوى الكلمات والأصوات، والتّنوّع في طول الجمل وبعض التّكرار؛ وذلك لخلق إيقاع حرّ ومتجدّد، فالسيّاب يختار كلماته بعناية؛ لتكون متناغمة من حيث الأصوات والحروف، وهذا ما يخلق بعض الإيقاع الدّاخليّ، الّذي يضفي على القصيدة جمالا خاصّا.
أيضا: استخدم الشّاعر الأفعال المضارعة مثل: (أغرّد، يقرع، تتسرّب، يتلظّى، تجتاحني، أستريح، أجلس، أنظر، تدور، أحنّ، أطرّز، أتأمّل، أداوي، أسعى، نتقاسم، تظلّين، تبصر)، وذلك لإضفاء الحيويّة والاستمراريّة على النّصّ وجعله أكثر تأثيرا في المتلقّي، أو لإبراز إحساسه بالزّمن المتدفّق، والإفصاح عن مشاعره المتغيّرة، سواء كانت فرحا أو حزنا، أملا أو يأسا.
وبعد.. تحمل هذه القصيدة رؤية السيّاب للعالم والإنسان، ويمكن القول إنّها قصيدة مركّبة، تجمع بين عناصر اليأس والأمل، وتعبّر عن مشاعر متناقضة ومتضاربة، تعكس حالة الإنسان في مواجهة صعوبات الحياة وتحدّياتها، وتصوّر صراعه الدّائم بين الألم والمعاناة، وحياته الّتي تتأرجح بين لحظات الحزن والفرح.
وإليكم القصيدة:

مطرٌ على خدِّ الطّين
من دونِ جناحٍ أغرِّدُ خارجَ السّرب
توهّمتُ، وأُوهِمتُ أنّ الغيمَ صاحبي
وظلّي هناك...
يقرعُ طبولَ النّشوةِ
وحيداً يقفُ بالمقلوب
بينما تتسرّبُ زمرُ الجنِّ من الشّطآنِ!
يتلظّى دمي
عواصفُ حنين تجتاحني
ثمّةَ لحظاتٌ لا تنسى
كنتُ فيها بينَ ذراعيكِ
أستريحُ من تعبِ الرّحلةِ
دونَ قلقٍ
دون خوفٍ من مكانٍ
على حافَّةِ القمر المنسيِّ أجلسُ
أنظرُ لسنيِّ العمرِ
الّتي تدورُ في ساعةِ أبي
أحنُّ للشّتاء..
أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيلِ
الغافي على أسوارِ معبد إينانا"
أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ
بشبقِ الصّمتِ أداوي خربشاتِ المطر على وجهي
حين شقَّ شطُّ البداياتِ مجرىً لحكايةٍ تسلّلَتْ
من مخيِّلةِ الفرات
تمسّكتُ بأظافر الشّيطان
يمّمتُ وجهيَ شطرَ بابِ الأزل
أسعى إليكِ
محمولاً على أكتافِ الذّنوب
فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ لنتقاسمَ الخطايا السّبعةَ
وتظلّين خطيئتي المقدّسةَ الّتي لا تبصرُ النّور..



#صباح_بشير (هاشتاغ)       Sabah_Basheer#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة في أعماق الذّاكرة والوجدان: قراءة في رواية -منزل الذّكر ...
- -والي المدينة-.. ومضات سهيل عيساوي تضيء عوالم مكثّفة
- رحلة في ذاكرة المدينة
- -راحوا وما عادوا-، رحلة في ذاكرة الأحبّة للدّكتور نبيه القاس ...
- الاحتفاءً برواية -فرصة ثانية- للأديبة صباح بشير في نادي حيفا ...
- قراءة في المجموعة القصصيّة -لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟- للدّكت ...
- التّراث الفكريّ في رواية -حيوات سحيقة- للرّوائي الأردنيّ يحي ...
- إصدار جديد للأديبة صباح بشير: -طريق الأمل- قصّة تبعث الأمل ف ...
- في متاهات الذّاكرة.. قراءة في رواية -ممرّات هشّة- للأديب د. ...
- كتاب -صيّاد، سمكة وصنّارة-
- -أرملة من الجليل-، سيرة ذاتيّة تتحدّى النّسيان وتحتفي بالحيا ...
- صدور رواية -فرصة ثانية- للأديبة صباح بشير
- نادي حيفا الثّقافيّ يحتفي بالأديبة صباح بشير وإصدارها الجديد ...
- رواية -دروب العتمة-.. رحلة في دهاليز الذّاكرة
- تطوّر الفنّ الرّوائيّ والقصصيّ عند حنان الشّيخ (1970-2005) د ...
- محمود شقير، مسيرة أدبيّة تُوِّجت بجائزة فلسطين العالميّة للآ ...
- -حيفا النّائمة-، نشيد لمدينة حالمة
- -على باب الكريم-، قصّة ملهمة عن الصّبر والقوّة والأمل
- رحلة في عباب الإبداع
- -أقنعة الرّهبة والصّمت-، قصيدة تجسّد قسوة الواقع


المزيد.....




- مسلسل -كساندرا-.. موسيقى تصويرية تحكي قصة مرعبة
- عرض عالمي لفيلم مصري استغرق إنتاجه 5 سنوات مستوحى من أحداث ح ...
- بينالي الفنون الإسلامية : أعمال فنية معاصرة تحاكي ثيمة -وما ...
- كنسوية.. فنانة أندونيسية تستبدل الرجال في الأساطير برؤوس نسا ...
- إعلاميون لـ-إيلاف-: قصة نجاح عالمي تكتب للمملكة في المنتدى ا ...
- رسمياً نتائج التمهيدي المهني في العراق اليوم 2025 (فرع تجاري ...
- سلوكيّات فتيات الهوى بكولكاتا نقلها إلى المسرح.. ما سرّ العي ...
- الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة تصل إلى ليبيا لتول ...
- الرئيس اللبناني: للأسف الفساد بات ثقافة
- فضاء يضم الإبداع و-كل ما كرهه الدكتاتور-.. فيلا -أنور خوجا- ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح بشير - قصيدة -مطر على خدّ الطّين-.. بحث عن الذّات في محراب الحبّ والخطيئة