أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فراس الوائلي - بغدادُ.. الحلمُ الذي لا يشيخ














المزيد.....


بغدادُ.. الحلمُ الذي لا يشيخ


فراس الوائلي

الحوار المتمدن-العدد: 8257 - 2025 / 2 / 18 - 09:47
المحور: الادب والفن
    


بغدادُ لا تُقرأُ، بغدادُ تُعاشُ كصرخةِ مؤذنٍ تتداخلُ مع تراتيلِ الكنائسِ، كأنفاسِ سوقِ الصفافيرِ حينَ يعزفُ النُحاسُ ألحانَهُ على جلودِ العابرين، كأناملِ الحرفيِّ وهو يسكبُ الضوءَ على خشبِ الشناشيلِ ليتركَ الشمسَ تتسللُ خجلى بين أهدابِ الأزقة، بغدادُ لا تُرى، بل تُلمَسُ في أوّلِ كوبِ شايٍ فوقَ أرصفةِ الكرادةِ حينَ تفترشُ المقاهي وجوهَ الحالمين، في ضحكةِ طفلٍ يركضُ بين بسطاتِ المتنبي باحثًا عن كتابٍ يسبقُ عمرهُ، في تنهيدةِ العابرِ على جسرِ الجمهوريةِ وهو ينظرُ إلى دجلةَ كأنّهُ يكتبُ رسالةً لم تصلْ منذ ألفِ عامٍ، في شهقةِ السهارى فوقَ شارعِ أبي نؤاسِ حينَ يسرحُ القمرُ شعرَهُ فوقَ الماءِ، في نايٍ يسري صوتهُ من نافذةِ بيتٍ قديمٍ في الكرخِ، وفي همسةِ عاشقٍ يتركُ نبضَهُ على ضفافِ الرصافةِ خوفًا من أن يضيعَ في الطرقات.
بغدادُ ليست مدينةً، بغدادُ كائنٌ يسيرُ في الأسواقِ بعباءةٍ مطرزةٍ برائحةِ الهيلِ والزعفران، بغدادُ أنثى تتعطّرُ بالمقاماتِ، تختالُ بزهوٍ بين الأوتارِ، ترفعُ حاجبًا حينَ تعبرُ دجلةُ متمايلةً كراقصةٍ تنثرُ الماءَ على النوارسِ فتطيرُ مفزوعةً ثم تعودُ، بغدادُ رجلٌ مسكونٌ بالقصائدِ، يُلقي حروفَهُ في دجلةَ لتُعيدها لهُ الريحُ بعدَ قرونٍ، بغدادُ لا تُحكى، بغدادُ تحدثُ داخلَك، تُغيّركَ، تُعيدُ ترتيبَ ذاكرتِكَ، تُخبرُكَ أنَّ الأزمنةَ تسقطُ في أزقّتِها ثم تنهضُ، أنَّ الحكاياتِ القديمةَ ليست خرافاتٍ بل أضواءٌ تلمعُ فوقَ الأرصفةِ حينَ يغسلُها المطرُ، بغدادُ لا تنامُ، بغدادُ تغفو في حضنِ المساءِ، تفتحُ عينيها مع آذانِ الفجرِ، تضعُ كحلَها مع أولِ شعاعٍ للشمسِ يلمسُ الشناشيلَ في الجادريةِ، ثم تمضي، تتعثرُ بخطواتِ الباعةِ على أبوابِ الشورجةِ، تتوقفُ عندَ أولِ قصيدةٍ تُلقى في مقهى الزهاوي، ثم تبتسمُ وتواصلُ طريقَها، كأنّها لا تزالُ تبحثُ عن نفسها وسطَ هذا الدربِ الذي لا ينتهي.
يا بغدادُ، كيفَ يحفظُ الطينُ خطاكِ منذ سومرَ ولم يتعبْ؟ كيفَ يُعيدُ الماءُ رسمَ وجهِكِ في كلِّ مساءٍ دونَ أن يتكررَ؟ كيفَ تظلّينَ سيدةَ الزمنِ دونَ أن يُرهقَكِ الوقتُ؟ كيفَ يعلو صوتُ المقامِ في دروبِكِ، يلتفُّ حولَ المآذنِ، يذوبُ في أعمدةِ البيوتِ العتيقةِ، ثم يتناثرُ مع الريحِ كدعاءٍ يعرجُ إلى سماءٍ لا تُجيب؟ كيفَ تهيمُ النوارسُ في حضنكِ ثم تضيعُ، ثم تعودُ؟ كيفَ يكتبُ الماءُ اسمَكِ في كلِّ موجةٍ ثم يمحوهُ، ثم يعيدُهُ كأنّهُ لا يريدُ أن ينسى؟
بغدادُ، يا امرأةً تمشي على حدِّ السيفِ دونَ أن تنزفَ، يا أنشودةً لم تكتملْ منذ أولِ وترٍ في عودِ التاريخِ، يا حلمًا يتكررُ كأنَّهُ لا يريدُ أن يصحو، يا قلبًا تتشعّبُ فيه الطرقُ ولا يضلُّ، يا نشوةً تتركُها دجلةُ فوقَ الماءِ قبلَ أن يبتلعَها الغروبُ، يا وجعًا، يا ضحكةً، يا شهقةً، يا صمتًا، يا صدى المقامِ الذي ظلَّ يرنُّ بينَ الجدرانِ ثم علقَ في الذاكرةِ، يا نشيدًا يترنمُ بهِ الفجرُ على مآذنِ الكرخِ، يا قصيدةً يُلقيها الموجُ كلَّ مساءٍ على مسامعِ الرصافةِ، ثم يعودُ، يهمسُ لدجلةَ كأنّهُ يحاولُ أن يفهمَ كيفَ تكونينَ أنتِ، كيفَ لا تموتينَ، كيفَ كلُّ هذا العشقِ، وكلُّ هذا الخرابِ، وكلُّ هذا النبضِ، وكلُّ هذا التيهِ، وكلُّ هذا الضوءِ… وكيفَ أنّكِ في كلِّ مرةٍ تولدينَ من جديد!
ديترويت
2025/2/18



#فراس_الوائلي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفاتار
- قراءة نقدية/ بقلم الناقدة القديرة فاطمة عبدالله/ لنص - قصة ح ...
- حدائق الغيوب
- المدار المحرم
- إنكي
- احتراقٌ لا يُرى
- الغراب
- قصة حب في جزر البهاما
- تصوف
- صفراء هي الشمس، خضراء عند المغيب تكون
- المطر
- دراسة نقدية لنص: “أنا لست شاعراً” / بقلم فراس الوائلي
- ملحمة الأرواح العابرة
- الفجر المضيء
- دراسة نقدية/ النص: هضاب الذاكرة/ بقلم فراس الوائلي
- نداء النار
- ليليث
- صقيع الأبدية
- النهر
- دراسة نقدية حول نص “حديثٌ بيني وبيني” للشاعرة سكينة الرفوع/ ...


المزيد.....




- مسلسل -كساندرا-.. موسيقى تصويرية تحكي قصة مرعبة
- عرض عالمي لفيلم مصري استغرق إنتاجه 5 سنوات مستوحى من أحداث ح ...
- بينالي الفنون الإسلامية : أعمال فنية معاصرة تحاكي ثيمة -وما ...
- كنسوية.. فنانة أندونيسية تستبدل الرجال في الأساطير برؤوس نسا ...
- إعلاميون لـ-إيلاف-: قصة نجاح عالمي تكتب للمملكة في المنتدى ا ...
- رسمياً نتائج التمهيدي المهني في العراق اليوم 2025 (فرع تجاري ...
- سلوكيّات فتيات الهوى بكولكاتا نقلها إلى المسرح.. ما سرّ العي ...
- الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة تصل إلى ليبيا لتول ...
- الرئيس اللبناني: للأسف الفساد بات ثقافة
- فضاء يضم الإبداع و-كل ما كرهه الدكتاتور-.. فيلا -أنور خوجا- ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فراس الوائلي - بغدادُ.. الحلمُ الذي لا يشيخ