|
درب التبانة
نعمت شريف
الحوار المتمدن-العدد: 8256 - 2025 / 2 / 17 - 21:40
المحور:
الادب والفن
أشرقت عيون حازم في الظلام قبل ان ينبلج الفجر. كان سعيدا بالذهاب إلى السوق حيث لم يذهب من قبل وكان دائمًا يبقى بمفرده في المنزل ولكن ليس هذه المرة . نام بملابسه ليكون مستعدا، والآن كان مع والده في طريقهما الى السوق العام في المدينة. كانت السماء على يساره يتحول إلى اللون الوردي مع بزوع الشمس رويدا رويدا. في تلك المسافة ظهرت قبة الامام على جانب النهر الصغير. وكلما اقتربا من مدخل المدينة بدأت الشوارع تنبض بالحياة فهناك دكان لبيع الألبان، واخر للخضار.. سأله والده: هل تشعر بالبرد يا حازم؟ حازم: لا يا بابا، انا حاضر للعمل معك عندما نصل.
كان حازم قد سحب معطفه فوق رأسه قبل ذلك. دخلوا شوارع المدينة التي أصبحت أضيق تدريجيًا وعلى جوانبها المباني الجميلة والتي تبدو نظيفة جدا ففكر في نفسه كيف العيش في دار كهذه، ياالله! انضمت إليهم عربات أخرى. نظر حازم إلى والده، شعر بالدفئ والاعتزاز بمهنتهما.انهم فلاحون يعملون على مدار السنة، لا راحة ولا حياة لهم غير العمل كباقي سكان القرية. هل ستكون الخضروات والأعشاب التي جلبناها أفضل مما جلبه الاخرون لكي نحصل على ثمن افضل، وهل ان التبن الذي جلبناه سيكفي الحصان ام سنضطر لبيعه كما فعل بابا في المرة السابقة عند اصطحبني معه لشراء ملابس العيد؟
. بينما كان حازم غارقا في افكاره، اهتزت العربة قليلا حتى رأى نفسه يدخل السوق بكل صخبها واختناقاتها فمن بائع الخضار يصيح باعلى صوته والى بائع الملابس الثمينة االمعروضة هنا في دكاكين اشبه بالصرائف. اخترقت اشعة الشمس شعر حازم عندما دخل هو ووالده السوق، نظر إلى المبانى المحيطة بساحة السوق إلى الغرب ومن ثم التفت وراءه ووقف ليرى اعلى منارة الجامع عن بعد والمضاءة الآن بشمس الصباح. كان السوق ساحة واسعة لا يحدها بصر الا اذا كانت خالية في الليالي المقمرة، وكان يحيط به من جهة اليسار جسرا حديديا يعود تاريخه الى القرن الماضي حيث احضر العثمانيون خبراء من بريطانيا لانشائه فوق نهر دجلة ليربط جانبي المدينة ببعضهما. ومن الجانب الاخر كانت هناك عمارات كبيرة بقياس ذلك الزمان. ومن الجانب الاخر الموازي للجسر كان هناك انحناء في النهر والذي كان يمثل حدودا طبيعية للسوق. ومن جانبنا الذي دخلنا منه، كانت هناك منطقة شعبية فيها الكثير من الدكاكين وكراجات السيارات وتزدحم شوارعها وفروعها بسيارات الاجرة والمارة واصحاب المحلات الصغيرة، وقصاب ينادي "افضل لحم خروف بالمدينة" مبالغا في جودة اللحم. ومن الجانب الايمن وخلف كل هذه كان يقبع جامع يرتفع صوت الاذان منه بمكبرات الصوت عندما يحين وقت صلاة الظهر.
شعر حازم بحكة في انفه حيث امتلأ بالروائح القوية من روث الاغنام والدواجن وأبخرة المصانع الصغيرة وآلاتها في المحلات المجاورة. فكر في ان الدراسة أفضل له حتى نبهه والده انه لا بد ان يقوم بمراقبة الحصان لفترة بعد تفريغ حمولة العربة واعدادها للبيع. وقبل ان يغرق حازم في افكاره مرة اخرى حيث ابهره مشاهد المدينة المزدحمة وخاصة السوق العام، جاء التنبيه من والده:
- ياحازم، انتبه وابق بالقرب مني، واذا انفصلنا، البس معطفك ولا تغطي راسك وسأراك حتى ان كنت بعيدا عني.
تعالى صراخً بالقرب منهم واندفع نحوهم رجلان بزي الشرطة يطاردان رجلاً رمى حزمة إلى فتاة ثم اندفع باتجاه الجسر. نظرت الفتاة إلى الوراء وكان شرطي يقترب منها فما كان منها الا ان ألقت الحزمة في الهواء لتسقط على عربتهم حتى اهتزت العربة ومعها حازم والحصان ايضا. ولكن والده هدأ روعهم وتمالك الحصان وحازم ايضا. لقد كان الأمر مقلقًا بالفعل، وتعالت الصيحات خلفهم فسأل حازم والده: - ماذا يحدث؟ - هؤلاء الشرطة يلاحقون لصوص الشوارع واغلبهم من الاطفال فكن حذرا، وارم الحزمة على الارض، نحن لا نتدخل ولا نريد الحرام، قال له والده.
كان السوق مكتظا بالناس اكثرمن أي وقت مضى وبدأ حشد يتجمع في أحد الأركان المتفرعة من الممر الذي يفصل بينهم وبين سوق الحيوانات وكانت امرأة تبيع البرتقال والحليب الطازج مباشرة من بقرة، لذا قرر السير على الممر الى النهاية للاستمتاع بالمشاهد الرائعة التي لم يرها من قبل رغم الروائح المنبعثة من الروث الممتزجة بانفاس الحيانات والبشر. كان الجو رائعًا ولم يكن حازم متأكدا من المدة التي قضاها هناك ولكنه تذكر انه لا بد ان يعود الى والده فهو لايريد ان يفسد نهاره بالبحث عنه، كما كان ينصحه والده ان لا بدع يومًا يفسد اليوم التالي عندما يحضر له بعض مشروب البابونج لطرد الأحلام السيئة. شعر بالتعب قليلا ولا حظ الندبة العريضة على يده حيث أحرقه منذ سنوات ولا يزال يتذكر كيف أبقاه الألم مستيقظا في الليل حتى جاء والده مقدما له النصائح والعلاج لينام مرتاح البال.
كان هذا الجانب من المدينة كما يبدو ذا غالبية من ذوي المظهر الفقير ومزيج حقيقي من الناس. في الواقع لم يستطع أن يعرف أنه لسنوات عديدة كان هذا الجزء المدينة يضم عددا كبيرا من اصحاب المواهب من الفنانين والشعراء والممثلين والكتاب، بالإضافة إلى طبقة من الأغنياء الذين يمثلون برجوازية المدينة ولكن في الحقيقة هم الاقطاعيون الذين يملكون مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية المحيطة بالمدينة وما الفلاحون البسطاء الا عمال الارض يعملون لقاء اجر زهيد للحصول على قوتهم وقوت عوائلهم. وكان حازم ينظر في وجه والده لعله يقرا فيما اذا كان سعيدا بما جمع اليوم من مبيعاته، وهل سيشتري له هدية؟ وبعد لحظات من التمعن، وهم يغادرون السوق ليختلطوا في زحام المدينة توجهوا في غير الاتجاه الذي قدموا منه. تعجب حازم وسأل والده:
- الى اين نحن ذاهبون؟ هذا ليس طريقنا. قالها وكله ثقة ان والده على دراية تامة بما يفعل - نحن سنسلك طريقا آخر للعودة. ولكن قبل ان نعادر المدينة، سنقف لاطعام الحصان ما تبقى من التبن. قال والده كان حازم يشعر بالجوع، ولكنه تمالك ولم ينبس ببنت شفة . واستمر والده في الحديث: - وفي الوقت الذي يتناول الحصان مأكله، سنأكل نحن ايضا ، ماذا تحب؟ هل تحب الكباب، ياحازم؟ - نعم، وماذا انت ستأكل انت يا بابا؟ قال حازم وكأنه يريد ان يشاركه والده في الاكل ولا يفكر في توفير ثمن وجبته - ساكل الكباب ايضا او ربما "المعلاق المشوي" اذا كان متوفرا - ربما سأطلب انا ذلك ايضا، او نتقاسم الوجبتين. قالها حازم وهو يتوقع جوابا من والده - فكرة طيبة ربما نتقاسم الغداء وبذلك كلانا نتذوق الوجبتين
فرح حازم كثيرا، وفكر في نفسه، واخيرا يوافق ابي على راي اطرحه انا. في كل مرة اطرح رأيا يأتي هو برأي مغاير او يرفض رأيي. هذا يدل على رضاه عن تصرفاتي هذا اليوم، وانا لازلت ابن الثانية عشر. من الان فصاعدا ساحاول ان اقرأ دروسي وفاءا لاتعابه، وليرى بانني جاد في تحسين وضعنا. اعرف انه يحبني رغم انه يصرخ احيانا ويبدو متزمتا وعصبي المزاج.
بعد استراحة قصيرة غادرا المطعم الصغير الذي كان على حافة الطريق الترابي. وبعد دقائق قليلة من السير، تذكر حازم ان هذا هو الطريق الذي قال عنه والده مرة، انه ليس آمنا كالطريق الاخر، ولا تمر منه سيارات الشرطة الا نادرا على عكس الطريق الاخر المبلط. فكر قليلا قبل ان يزعج والده بالسؤال فقد بدأ يومه مبكرا ولم يتوقف طوال فترة الصباح. صمت حازم ولكن علامات القلق بدت على وجهه فهو الشاب ذو الاحساس المرهف ويشعر بنضال والده في الحياة ليحصل على لقمة العيش للعائلة.
- لماذا انت ساكت، يا حازم، فامامنا الطريق وعلينا ان نقطعه؟ لم يجد حازم ما يقول، ولا يريد ان يشعر والده بقلقه فهو لا يزال شابا يافعا وخوفه من الطريق سيقلق والده كثيرا.- كيف كان صباحك هذا اليوم؟ هل انك مرهق الى هذه الدرجة؟ قال والده وكأنه يشعر بقلقه ويريده ان يتكلم.- - لا يا بابا، ولكن خطر لي سؤال الان. لماذا نسلك هذا الطريق الترابي ورغم انه غير آمن؟ قال حازم وهو يداري قلقه ووالده يركز نظره على ظهر الحصان ليستطيع توجيهه حسب الحاجة. ببساطة يا حازم، انه اقصر بكثير من الطريق الاخر وسترى ذلك عندما نصل البيت. قالها بثقة ودون ان يفكر في المخاطر.- وماذا عن قطاع الطرق الذين ذكرتهم لي مرة؟ قال حازم.- - نعم، هذا صحيح، وهم لصوص جبناء من القبائل المجاورة التي تعيش على النهب والسرقة، وهذا عار كبير وليس من شيمتنا. ورغم ذلك فانا قد اعددت جوابي لهم اذا ظهروا على الطريق على حين غرة. بابا، قطاع طرق! ماذا ستقول لهم وهل يتفاهمون؟ اضاف حازم بسرعة وهو غير مقتنع بالجواب.- - ياولدي: انهم يبحثون عن المال، ونحن ليس لدينا ما يأخذونه، وما حصلنا عليه اليوم مخبأ في مكان آمن. سأقول لهم جئنا من خدمة السيد الكلبي مالك قريتنا، فهو غني وله معارف في الدوائر الحكومية، وهذا سيعني لهم انه سيدافع عنا اذا حدث لنا اي مكروه. وكذلك سيعني اننا لم نكن في السوق بهدف بيع منتوجنا والحصول على النقود. واذا لم يصدقونا، فساقول لهم فتشونا ان شئتم وسوف لا يجدون شيئا. - فردعليه حازم قائلا: واذا كان هدفهم الاعتداء علينا وتخويفنا؟ - لا ياولدي، لا يستطيعون ذلك، لانني لدي سلاح مخبأ وسادافع عنك وعن نفسي، وكل ما هو مطلوب منك ان تختبئ وراء احدى عجلات العربة حت لا تصاب وسينهزمون حتما اذا عرفوا بالسلاح وعدم الخضوع لهم، وانا واثق من ذلك. قال ذلك وهو يطمئن ابنه ويهدئ من روعه. هل تعتقد ان المواجهة هو افضل طريق؟ قال حازم بنبرة واضحة.- - فرح الاب بعقلانية ابنه الشاب واجاب في الحال: انا احب طريقتك في التفكير، واؤكد لك انه لم يحدث شئ اليوم لاننا لا زلنا في وضح النهار، فقطاع الطرق جبناء ويختفون تحت جنح الظلام ولا يريدون المواجهة الحقيقية، فهم يريدون الحصول على الاموال من الضعفاء وباسهل طريقة ممكنة. فهؤلاء هذا ديدنهم ويقتاتون على الحرام. طأطأ حازم رأسه ولم يجد ما يقوله لوالده. ولكن والده استمر في الحديث قائلا: - نحن لا نتعرض لهم ونحاول تجنب الاصطدام معهم فهم الاغلبيية في المنطقة، ولكننا ندافع عن انفسنا بلا خوف والله يحكم بيننا بالحق. وهذه طريقتنا في التعامل معهم. - شعر حازم بالاطمئنان من ثقة والده بنفسه، ولم يشعر الا وانهم على اطراف قريتهم وقد عبروا كل المناطق الخطرة دون ان يشعر بذلك. وهنا ذكره والده بقوله: - - الم اقل لك يا حازم ان هذا الطريق اقصر بكثير. ها نحن وصلنا وهذا ما نسميه ب"درب التبانة" حيث لا يتعرض اللصوص لهم.
#نعمت_شريف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لكرد بين المحرقة والضمير العربي
-
لماذا خسر الديمقراطيون الانتخابات الأمريكية لعام 2024؟
-
الحلم الكردي: الى أين؟
-
ترامب او هاريس: 2024 معركة من اجل امريكا
-
أنا اصرخ بأعلى صوتي: هل من مجيب؟
-
الغرفة رقم 3
-
شاهزنان
-
الرحلة 516
-
عن اصل الشبك واسمهم ولغتهم
-
الشوق للانتماء
-
ما وراء الثقافة
-
-حلال لكم ، حرام علينا- مناقشة للتعليقات التي وردت الينا
-
العقل الكردي -نقد العقل العملي-
-
قراءة في كتاب -دراسة عن محافظة الجزيرة السورية-
-
الاغنية الظاهرة في الانتخابات الامريكية
-
في حارتنا كلب
-
عزاء البو هدلة
-
قواعد العشق الاربعون
-
الدفاع عن الارض والعرض شهادة -قصة حقيقية من زمن الارهاب-
-
الخال -قصة من صميم الواقع-
المزيد.....
-
خبراء يدعون إلى ترميم المواقع التراثية في سوريا
-
هل يوجد فن منحطّ؟ النازية كانت ترى ذلك وفرنسا تفْرد له معرضا
...
-
-خشبية وحارة وحلوة-..دراسة علمية تكشف روائح التحنيط المصري ا
...
-
اكتشاف أقدم جزء من سور الصين العظيم يعود إلى 3,000 عام
-
بقائي: القواسم الثقافية المشتركة بين إيران والصين منصة للحفا
...
-
Youdao تكشف عن جهاز مميز للترجمة يعتمد على الذكاء الاصطناعي
...
-
وصف مصر: كنز نابليون العلمي الذي كشف أسرار الفراعنة
-
سوريا.. انتفاضة طلابية و-جلسة سرية- في المعهد العالي للفنون
...
-
العراق.. نقابة الفنانين تتخذ عدة إجراءات ضد فنانة شهيرة بينه
...
-
إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|