أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد زكرد - الطبيعة والثقافة في ضوء فيلم LEnfant Sauvage: رحلة الإنسان من الفطرة إلى التمدن














المزيد.....


الطبيعة والثقافة في ضوء فيلم LEnfant Sauvage: رحلة الإنسان من الفطرة إلى التمدن


أحمد زكرد

الحوار المتمدن-العدد: 8254 - 2025 / 2 / 15 - 00:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ أن بدأ الإنسان العاقل يشق طريقه في هذا العالم، كان في مواجهة دائمة مع الطبيعة. كان ضعيفًا مقارنةً بالمخلوقات الأخرى، بلا أنياب حادة أو مخالب قوية، بلا سرعة الغزال أو قوة الأسد. لكن كان لديه سلاح آخر، أكثر تأثيرًا من كل ذلك: العقل. باستخدامه، تعلم الإنسان كيف يتكيف مع بيئته، كيف يصنع الأدوات، كيف يُشعل النار، وكيف يصطاد بذكاء بدلًا من القوة الغاشمة. لم يكن هدفه مجرد البقاء، بل كان يسعى إلى السيطرة على الطبيعة، إلى ترويضها وجعلها تخضع لإرادته.
في البداية، كان الإنسان منسجمًا مع الطبيعة، يعتمد عليها بالكامل، يخضع لقوانينها ويعيش وفق إيقاعها. كان جزءًا من نظام بيئي متوازن، يتغذى على ما تقدمه الأرض دون أن يفرض إرادته عليها. لكنه لم يلبث أن بدأ يرى نفسه مختلفًا عنها، ككائن قادر على التعديل والتغيير، على إعادة تشكيل البيئة من حوله وفقًا لاحتياجاته. بدأ في بناء الملاجئ بدلًا من العيش في الكهوف، في زراعة الأرض بدلًا من الاكتفاء بجمع الثمار، في تدجين الحيوانات بدلًا من مطاردتها. وهكذا، ولدت الثقافة من رحم الطبيعة، لكنها لم تكن مجرد امتداد لها، بل كانت قطيعة جزئية معها.
إن هذه العلاقة الجدلية بين الطبيعة والثقافة ليست مجرد مفهوم نظري، بل تجسدت في العديد من التجارب الواقعية، ولعل واحدة من أكثرها إثارة هي قصة الطفل المتوحش، التي تحولت إلى موضوع دراسة علمية وفيلم سينمائي. هذه القصة تمثل نموذجًا حقيقيًا لكيفية انتقال الإنسان من حالة الطبيعة الخالصة إلى عالم الثقافة، وتجسد التحديات التي تواجه هذا التحول.
في أعماق الغابة، حيث لا لغة تُتحدث ولا قانون يُحكم، عاش "فيكتور"، الطفل الذي لم يعرف سوى الطبيعة حضنًا وقانونًا. جسده النحيل المتسخ، عيناه القلقتان، وحركاته المضطربة كانت شاهدة على عالم لم تلمسه يد الثقافة بعد. لم يكن "فيكتور" مجرد حالة فردية، بل كان سؤالًا حيًّا عن ماهية الإنسان، عن تلك الحدود الدقيقة التي تفصل بين الطبيعة والثقافة، وعن إمكانية العبور من حالة إلى أخرى.
حين قُبض على "فيكتور"، بدا وكأنه كائن هارب من مرحلة أخرى في تطور البشرية، أشبه بذكرى منسية لإنسان ما قبل المجتمع. لم يكن يستطيع المشي باستقامة، ولا يعرف معنى الكلمات، ولا يدرك القواعد التي تنظم العيش المشترك. كان مثالًا حيًّا على الإنسان في حالته الطبيعية، كما تخيله الفلاسفة: كائن تحكمه الغرائز، يعيش وفق قوانين الطبيعة القاسية، بلا لغة، بلا مؤسسات، بلا تعقيدات حضارية. لكنه في ذات الوقت كان إنسانًا، يحمل في داخله إمكانيات التهذيب والتعلم، وكان اللقاء بينه وبين الطبيب "إتارد" فرصة لاختبار الحدود بين الطبيعة والثقافة، وبين الإنسان بوصفه مادة خامًا والإنسان بوصفه نتاجًا للتهذيب والتربية.
كانت رحلة "إتارد" مع "فيكتور" أشبه بتجربة فلسفية عملية، تجربة ترصد ولادة الثقافة داخل الكائن البشري. لم يكن الأمر مجرد تعليم لمهارات العيش، بل كان محاولة لإعادة تشكيل العقل والروح، لصنع إنسان جديد قادر على التواصل، على الفهم، على الخضوع لقواعد المجتمع. ومع ذلك، لم يكن الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة سهلًا أو سريعًا، بل كان محفوفًا بالصعوبات، بالمقاومة، بالإخفاقات المتكررة. "فيكتور" لم يكن صفحة بيضاء، بل كان مشبعًا بطريقته الخاصة في الوجود، بذاكرته الطبيعية، بعاداته التي ترسخت عبر سنوات من العيش في الغابة. وكان على "إتارد" أن يخوض صراعًا هادئًا ومثابرًا من أجل تفكيك تلك العادات، وإحلال أخرى محلها.
لكن هل كان النجاح حتميًّا؟ هل يمكن لأي كائن بشري، مهما كان متوحشًا، أن يصبح كائنًا ثقافيًّا؟ لقد تمكن "إتارد" من تحقيق إنجازات هامة مع "فيكتور": جعله يفهم بعض الكلمات، يعبر عن حاجاته، يتأقلم مع القواعد الأساسية للحياة الاجتماعية. لكن شيئًا ما ظل ناقصًا، ظل "فيكتور" غريبًا في هذا العالم الجديد، لم يصبح مثقفًا تمامًا، ولم يعد طبيعيًّا بالكامل. بقي في منطقة وسطى، منطقة لا يمكن حسمها بسهولة. وربما هنا يكمن السؤال الأكثر إلحاحًا: هل الثقافة تحول الإنسان تمامًا أم أنها تترك بداخله أثرًا لا يُمحى من طبيعته الأولى؟
من الناحية الفلسفية، يمثل مفهوم الطبيعة تلك الحالة الأولية للوجود البشري، حيث لا توجد قوانين سوى ما تفرضه البيولوجيا والبيئة المحيطة. بينما تشير الثقافة إلى ذلك التراكم المعرفي والقيمي الذي يميز المجتمعات البشرية عن الكائنات الأخرى. هذه الثنائية كانت محور جدل طويل في الفكر الفلسفي، من هوبز الذي رأى أن الطبيعة البشرية قائمة على الصراع والعنف، إلى روسو الذي اعتبر أن الإنسان يولد بريئًا، لكن المجتمع يفسده. بين هذين التصورين، يبقى سؤال الطبيعة والثقافة معقدًا، إذ يبدو أن الإنسان ليس مجرد كائن طبيعي، لكنه أيضًا ليس مخلوقًا ثقافيًا بالكامل. إنه نتيجة مزيج دقيق من الاثنين، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
هذه القصة ليست مجرد حكاية عن طفل متوحش وطبيب صبور، بل هي صورة مصغرة عن التجربة الإنسانية بأسرها. كل إنسان يولد كائنًا طبيعيًّا، ثم يُعاد تشكيله عبر الثقافة والتربية، لكنه لا يفقد تمامًا جذوره الأولى. داخل كل فرد، هناك صراع خفي بين الغريزة والتهذيب، بين العفوية والانضباط، بين ما تمنحه الطبيعة وما تصوغه الثقافة. "فيكتور" لم يكن مجرد استثناء، بل كان مرآة تعكس حقيقة الوجود البشري نفسه: تلك الهوة الدقيقة بين الطبيعة والثقافة، التي نحياها جميعًا دون أن ندركها بوضوح.
وهكذا، يتجلى في قصة "فيكتور" سؤال أزلي عن معنى أن تكون إنسانًا. هل نحن ما تعلمناه؟ أم ما كنا عليه قبل أن تُمسك بنا أيادٍ تُعلمنا؟ هل يمكن فصل الإنسان عن جذوره الطبيعية، أم أن الثقافة ليست سوى امتدادٍ للطبيعة، صياغة جديدة لما هو موجود سلفًا؟ في النهاية، ربما يكون "فيكتور" قد فقد لغته الأولى، لكنه لم يكتسب اللغة كما يعرفها الآخرون بالكامل. وربما يكون قد غادر الغابة، لكنه لم يصبح بالكامل ابن المدينة. في مكان ما بين الاثنين، عاش ومات، كذكرى غامضة عن إنسان وُجد في لحظة عبور بين الطبيعة والثقافة.



#أحمد_زكرد (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية الحب عبر التاريخ
- الريح التي حملت الأمل: قراءة في فيلم The Boy Who Harnessed t ...
- تأملات في مسيرة الإنسان وتحديات المستقبل من خلال كتاب العاقل ...
- إشكالية الرغبة والسعادة في عالم متغير: من خلال فيلم -Nomadla ...
- الأتمتة وسؤال الإنسان
- الريد بيل Red pill: فلسفة جديدة لفهم العلاقات بين الجنسين وت ...
- نظرة بانورامية حول تاريخ الفلسفة منذ الاغريق الى الآن
- اشكالية الرغبة: جدلية النقص والإشباع في تشكيل الذات
- إشكالية نقد الدين بين الوعي والواقع: من فيورباخ إلى ماركس
- Lillusion et la vérité
- مستقبل سوريا في ظل الصراع الدولي
- الفلسفة المعاصرة: جدلية الإنسان بين انهيار اليقين والبحث عن ...
- إشكالية الهوية و الوجود الرقمي: بين الأصالة والاغتراب
- بين الظلم التاريخي وإعادة الاعتبار: إشكالية قراءة أفكار السف ...
- النقاب كظاهرة ثقافية: تحليل فلسفي واجتماعي في السياق المغربي
- الناسخ والمنسوخ والمفقود والمرفوع


المزيد.....




- مصر تُعلن اكتشاف مقبرة الملك تحتمس الثاني المفقودة في الأقصر ...
- ترامب يزعم كذبًا أن أوكرانيا بدأت الحرب مع روسيا.. شاهد ما ق ...
- الاتحاد الأوروبي يقرّ حزمة العقوبات الـ16ضد روسيا
- هل نبدأ في فقدان شبابنا بعد الخامسة والثلاثين؟
- حذر وترقب لما قد يحدث.. سكان الشمال في إسرائيل خائفون من الع ...
- البرازيل: الرئيس السابق بولسونارو متهم بمحاولة اغتيال لولا و ...
- ترامب يحمل أوكرانيا مسؤولية بدء الحرب ويشكك في شرعية رئيسها ...
- السعودية كعبة السياسة: انتظار مرتقب للقمة الأمريكية الروسية ...
- -حماس- تعلن عزمها الإفراج عن 6 رهائن إسرائيليين و4 جثامين غد ...
- مسؤول أوروبي: أوروبا عاجزة عسكريا بمعزل عن الولايات المتحدة ...


المزيد.....

- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد زكرد - الطبيعة والثقافة في ضوء فيلم LEnfant Sauvage: رحلة الإنسان من الفطرة إلى التمدن