أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - الضمير بين الوعي والدين (2)














المزيد.....


الضمير بين الوعي والدين (2)


عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 8253 - 2025 / 2 / 14 - 18:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الروح
يتفرد الإنسان على كافة المخلوقات الحية بخاصية واحدة لا مثيل لها- الروح. حتى اليوم لا أطيق الوقوف أمام قبر والدي كعادة البشر مع موتاهم. أرفض القبول بحقيقة كونه عظاماً ملفوفة بكفن في ظلام حفرة يغمرها التراب. أبي حيّ، مهما كانت الحقيقة ساطعة إلى حد الإيلام. أبي حيُّ معي دوماً، يقاسمني حتى ملامحي وتفكيري، لا يغادرني لحظة في اليقظة ولا في المنام. أنا أبي، وأنا حيّ، كلانا واحد من الآخر ويعيش في الآخر؛ كيف أكون أنا حيٌّ وميتٌ في الوقت ذاته؟! هذه هي الروح، التي تسكنني وتسكن كل إنسان، ولا يمكن أبداً أن يشارك الإنسان فيها أي مخلوق آخر مهما كان على وجه الأرض.

في المنام، رأى إبراهيم الله يأمره أن يذبح ابنه إسماعيل. الرؤيا حُلم؛ الحُلم روح بلا جسد، بلا وجود محسوس في الطبيعة. كيف يصدق إبراهيم الحُلم الروحي ويكذّب الحقيقة الطبيعية الساطعة كأب يُفترض أن يحمي ولده لا أن يذبحه، كما يرى من حوله كل الحيوانات والمخلوقات تفعل بغريزة الأبوة؟! لكن إبراهيم ليس كبقية الحيوانات؛ إبراهيم بشر، والبشر وحدهم القادرون على الفكاك من قيود وقوانين العالم الطبيعي لكي يخلقوا لأنفسهم بأنفسهم، من خيالهم وذهنهم المجرد من المحسوس، عالماً آخر أفضل للعيش فيه، في يومٍ آخر إذا لم يكن اليوم الحاضر. هل في هذا الرفض للاقتناع والاكتفاء بالعالم الأرضي كُفر به ومن ثم كُفر بخالقه؟ لا، أبداً، بالعكس. كلما تعاظم السخط على عالم الأرضيين وتحقيره والتسامي عليه، كلما تعاظم وترسخ أكثر في الصدور الإيمان بحقيقة عالم آخر مُناقض أكثر صدقاً وطُهراً في السماء. ولما كان خالق العالمين هو نفسه واحد أحد لا شريك له، اعتُبر عالم الدنيا مجرد امتحان وجيز وتافه لكن من الضروري اجتيازه قبل التخرج إلى الفردوس الأبدي في الآخرة.

الروح تُولد من رحم الوعي. إذا لم يعي الإنسان وجوده ذاته أولاً، ثم وجود عالمه ثانياً، وأخيراً شعر بالعجز والنقصان الذاتي إزاء عالم لا متناهي، أحس بوجيعة المحدود المُنتهي (الإنسان) أمام اللامُنتهي المطلق (الطبيعة)، وفشل في إنشاء علاقة حقيقية مشبعة بين رغباته الذاتية المنشأ من جهة وبين هذا العالم الفسيح من الجهة الأخرى، ما احتاج في شيء وما نشأت فيه أصلاً ملكة الروح؛ كان سيرضى بحياته ويكتفي بها ويمرح فيها كما هي على حالتها الطبيعية مثلما تفعل سائر الحيوانات. الروح تنشأ لسد هذه الفجوة السحيقة بين المتناهي واللامتناهي، بين العاجز الفاني والقدير السرمدي. وإذ كانت الفرصة لذلك منعدمة في هذه الحياة الزائلة، لا مانع من الهجرة ذهنياً من هذا العالم كله إلى عالم آخر يصلح لتعويض النقص. بهذا المغزى، يمكن تعريف الروح بأنها حُلم- أثناء اليقظة والمنام- في محاولة للهروب من واقع أليم، أو في أفضل الأحوال ناقص غير مُشبع لرغباتنا وشهواتنا وطموحاتنا إلى الحد الذي يتمناه وعينا لكن تعجز عن تحقيقه قدراتنا المحدودة. من غير الروح لا يحلم الإنسان. وغير الإنسان لا شيء إطلاقاً في الكون قادر على أن يحلم. مثلنا، البهائم تعي وتفكر وتعقل؛ لكنها أبداً لا تحلم، لكونها محكومة للأبد بعالمها الطبيعي ولا تستطيع أبداً الفكاك منه بخيالها لكي تصنع لنفسها عالماً آخر موازي من الأرواح لا وجود له البتة سوى في مخيلة البشر.

ليس شرطاً أن يكون الحُلم متطرفاً كحُلم إبراهيم؛ ولا رجعياً يجتر الماضي ويعيش على ذكرياته الجميلة كحلمي أنا شخصياً. الحلم قادر على أن ينضج ويعتدل، حتى لا يغادر الحياة الدنيا والعالم الطبيعي بأسره، تاركاً حياته هناك جاهلة وفوضوية وتعيسة كحياة وحوش البراري، ثم يُصَبِّر ويوهم نفسه بالسلوى والنعيم في عالم آخر لا وجود له سوى في أضغاث الأحلام المنفلتة من قيود العقل الطبيعي. الحُلم المعقول قادر على استعادة تصور وتمثيل الماضي لملايين السنين إلى الوراء بحثاً عن دروس يستفيد بها ويبني فوقها عالم الحاضر وعالم المستقبل. إن كل المكتسبات المعنوية والحضارية والتقنية في حياتنا الراهنة ما كانت أبداً أن تتحقق لولا أحلام قلة من العقلاء الذين سبقونا عبر العصور. لولا أمثال هؤلاء، لكنا لا نزال قطيعاً ضخماً أشبه بقطيع الحمير، أو البقر.



#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الضمير بين الوعي والدين (1)
- هل ضاعت غزة حقاً؟
- بين العقيدة والسلطة، أزمة الدين
- بين الوحي والعقل، المأزق الديني
- ليس طمعاً في نعيم الجَنَّة ولا خوفاً من جَحيم النار
- كيف أزاح الشيطان الإله من مُلْكه - أحمد الشرع
- عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (6)
- عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (5)
- عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (4)
- عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (3)
- عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (2)
- في مآلات المشروع العربي الناصري
- عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا
- حاسبوا أنفسكم مع بشار
- هل تُبالي حكومة حماس بحياة الفلسطينيين؟
- السيد صاحب مفتاح مطبخ الفرح
- ما ضير الديمقراطية لو انتخب المعاتيه معتوهاً منهم؟
- عن حاجة الإنسان إلى رَبْ
- في القانون بين الرذيلة والفضيلة
- في معرفة الواحد


المزيد.....




- شاهد كيف تخطى آيساب روكي مقاعد المحكمة لعناق ريانا لحظة الحك ...
- ألقى بنفسه بين ذراعيها في المحكمة.. ريانا تعبر عن سعادتها بت ...
- حزب البديل من أجل ألمانيا مهدد بغرامات ضخمة بسبب تبرعات غير ...
- زعيمة حزب المحافظين البريطاني ترد على وصف ترامب لزيلينسكي بـ ...
- من نجم على السوشيال ميديا إلى متهم بتصنيع المخدرات.. قرار قض ...
- إفريقيا قارة المستقبل
- خامنئي: نعتبر قطر دولة صديقة وشقيقة لنا رغم بعض -القضايا الم ...
- روسيا تحذر من مخاطر تفكك ليبيا وتؤكد ضرورة دعم جهود توحيد ال ...
- ترامب يقول إن زيلينسكي -ديكتاتور من دون انتخابات- وينتقد شرع ...
- لماذا ترفض إسرائيل الانسحاب الكامل من جنوب لبنان وما الأهمية ...


المزيد.....

- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - الضمير بين الوعي والدين (2)