|
نحو بناء دولة القانون والمؤسسات
محمد علي مقلد
(Mokaled Mohamad Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8252 - 2025 / 2 / 13 - 10:17
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
قل لي ما مصطلحك أقل لك من أنت. قل لي ما مصطلحك عن الدولة أقل لك إن كنت مع الدولة أم ضدها. لماذا مصطلح دولة القانون والمؤسسات هو الأفضل؟ إليكم الجواب. المرحلة الراهنة في لبنان هي مرحلة الاستقلال الخامس وأقول جازماً النهائي. 1920- 1926 الأول عن السلطنة العثمانية. 1943 الثاني عن فرنسا، 2000 الثالث عن إسرائيل، 2005 الرابع عن سوريا، 2025 الخامس والأخير عن إيران. هو النهائي لأن القوى الثلاث التي استدرجت الخارج، المارونية السياسية واليسار القومي والشيعية السياسية، استنفدت بعد أن جربت حظها، ولم يعد يوجد في لبنان من يملك القدرة على تنظيم حرب أو على استدراج احتلال، لا حزب ولا طائفة ولا أية جهة سياسية. إذن المرحلة الراهنة هي بداية تأسيسية للبنان الجديد. لم نتمكن من التوصل إلى حل لأزمات وطننا، إما لخطأ في التشخيص، إما لخطأ في وصفة العلاج. قلنا، على منصة المنبر الوطني للإنقاذ، لا حل إلا بالدولة، مرددين ما سبق لنا أن قلناه، عام 2006، على منبر الحركة الثقافية في إنطلياس، بمناسبة نقاش كتابنا "اغتيال الدولة". كلما سئلنا عن الدولة التي علينا إعادة بنائها، كنا نكرر المواصفات ذاتها، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات، دولة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وكنا نكتفي اختصاراً بعنوان "دولة القانون والمؤسسات". التسميات الأخرى المتحدرة من قاموس الصراع السياسي على الدولة وعلى السلطة أثبتت عدم صلاحيتها، إما لأنها حمّالة أوجه ومثيرة للجدل أو لأنها خاسرة بحساب الجدوى، ولهذا فهي لم توصل مشاريع الإصلاح إلى غاياتها. إلغاء الطائفية السياسية، إلغاء طائفية الوظيفة، العلمنة، العلمنة المؤمنة، الفدرالية، الإسلام هو الحل، الوطن القومي المسيحي، ولاية الفقيه، الدولة القوية، الدولة القادرة، الدولة العادلة، الدولة الوطنية، الحكم الوطني الديمقراطي. الدولة العلمانية ومشتقاتها، هي الوصفة الأكثر نقاء وصفاء وهي الأكثر صلاحية لترميم الدمار.لكن الوصفة فشلت لأنها صارت شعاراً ترفعه المارونية السياسية في وجه "إلغاء الطائفية السياسية"، الشعار اليساري الدائم المتناغم مع هوى الإسلام السياسي. هنا خوف على الرئاسة ووظائف الفئة الأولى، وهناك رعب من التعرض لقانون الأحوال الشخصية ومن إثارة مسألة الزواج المدني. مع ذلك الزجل والغزل الطائفي ضارب أطنابه بين الزعماء. في الحقيقة لا خوف ولا حرص على "مصالح المسلمين" أو "مصالح المسيحيين"، بل رعب من التعرض لمؤسسات موازية لمؤسسات الدولة ودستورها وقوانينها ومنافسة لها، تنازعها السيادة، أي سيادة القانون على حلبة السلطة القضائية. الحل ليس بإلغاء قوانين الأحوال الشخصية بل باحترامها كجزء من تراثنا المتنوع، وبإلغاء المؤسسات الموازية والمنافسة، ولاسيما مؤسسة القضاء الديني، على أن تناط بالدولة وحدها مسؤولية تطبيق قوانين الطوائف، مضافاً إليها قانوناً مدنياً خاصاً بالدولة وأن يعطى المواطن حق الاختيار بين القانون المدني وقانون الطائفة التي ينتمي إليها. ألا يكفي قرن من عمر الوطن وحرب أهلية مستدامة ومئات آلاف القتلى والجرحى واحتلالات أجنبية بالجملة لإثبات فشل كل هذه المشاريع والشعارات؟ ثورة 17 تشرين 2019 أثبتت، بالحبل البشري من الناقورة حتى النهر الكبير، وبالعرض المدني وبالنضال السلمي تحت سقف الدستور، أن الحل بتطبيق النظام لا بتغييره، وجاء خطاب القسم الجمهوري البارحة ليؤكد أن الحل بالعودة إلى الكتاب، إلى الدستور، باستعادة سيادة الدولة كاملة على حدودها وداخل حدودها، بقوة القانون، بديلاً من حكم الميليشيات التي هي بالتعريف عدو القانون. آن أن تعترف الميليشيات أنها المسؤولة عن استدراج الاحتلالات كلها. ما من قوة انتهكت سيادتنا الوطنية إلا لأن قوى محلية، ميليشيوية أو سلطوية، شجعتها أو استدرجتها وأمنت لها الغطاء أو الذريعة. ارتكاب الخطيئة هذه ناجم عن فهم مغلوط أو مشوه لمعنى الدولة وعن سوء تقدير لأهميتها وعن استسهال التفكير بتجاوزها أو باستبدالها أو بالحلول محلها. أخيراً، العلمانية متحدرة من شجرة عائلة الثورة الفرنسية، الدولة الحديثة، الدولة المدنية، المواطنة، الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، ولها عدو واحد هو الاستبداد. غير أن رافعي لوائها قادة وأحزاباً وأنظمة نشأوا وترعرعوا وأداروا شؤون البلاد بآليات استبدادية. قد يكون النظام البعثي في سوريا والعراق أكثرها فجاجة ووحشية وفجوراً، لكنها، حتى في أكثر البلدان ديمقراطية في العالم، مموهة إما بقوانين الاقتصاد المنحازة دوماً لصالح مالكي الثروة، إما بشعبويات قوموية أو دينية كالتي استمرت تفتك بوطننا الجميل منذ انفجار الحرب الأهلية عام 1975 حتى اليوم، ومنها الطائفية. تعدد الطوائف في لبنان هو إحدى ظاهرات التنوع في التركيبة السكانية للأوطان الحديثة. قد ينطوي التعبير عنها على مضمون إيجابي فتكون غنى، وقد يأخذ منحى سلبياً فتصبح مرضاً. التشخيص المغلوط يرى أن الطائفية هي مرض النظام، والعلاج إما بتعديل الدستور كما حصل في الطائف إما بالتقسيم والفدرلة رداً على ما هو مطروح على الضفة الأخرى من خطوط التماس. والصحيح أن تطبيق الدستور هو الطريق إلى وطن معافى. هذا ما أثبتته تجربة ما قبل الحرب الأهلية التي بينت أن الطائفية ليست مرض النظام بل مرض أهل النظام. كما أثبتت التجربة أن التلاعب بالمشاعر الطائفية ليس هدفه الدفاع عن مصالح الطوائف، فما هي مصلحة الطائفة، أي طائفة، إن هي ربحت نفسها وخسرت الوطن؟ الطائفية بمعناها السلبي هذا هي رداء وتمويه شرير ووحشي للمرض الحقيقي الذي يفتك بصحة النظام والدولة والوطن. إنه مرض المحاصصة. المحاصصة هي المرض لا الطائفية، وهي ليست محاصصة طائفية بل بين المتزعمين على الطوائف. الحل بسيط ولا يحتاج إلى حروب أهلية وتسعير طائفي. دولة الكفاءة بدل دولة المحاصصة. المتزعمون ليسوا الوحيدين الذين يؤججون المشاعر الطائفية. يساعدهم عبر وسائل الإعلام والتواصل المحللون الستراتيجيون والخبراء، ومن خلال دور النشر كتاب ومؤرخون، يستخدمون مفردات ومصطلحات من لغة الانقسام الطائفي لا من قاموس الوحدة الوطنية، كالكلام عن حقوق الطوائف في بلد يتساوى فيه المواطنون تحت سقف دستور يمكن بل ينبغي تعديله بالنضال السلمي لا بالحرب الأهلية. دولة القانون والمؤسسات هي دولة الدستور. ما كان للوطن أن يولد لولا ولادة الدستور. قبله لم يكن وطن ولا دولة بل مقاطعات وولايات عثمانية أو متصرفية . أنشأ المؤسسون وطناً حمل إسم جبله الأشم لبنان، البطريركية المارونية عمرته والمارونية السياسية كانت البادئة بالتدمير واستكملت الميليشيات التدمير في حربها الأهلية.
مع أن الطائفية متغلغلة في النفوس وفي الاقتصاد وفي العادات والتقاليد وفي كل شيء، فإن الدستور اللبناني دستور علماني غير طائفي ينص على المساواة التامة بين اللبنانيين أمام القانون. أو لنقل بالدقة، إن نظامنا اللبناني علماني مع نقيصتين طائفيتين هما توزيع الرئاسات وقوانين الاحوال الشخصية. وهما نقيصتان لا لأنهما تحيلان إلى انتماءات دينية بل لأنهما تنتقصان من مبدأ أساسي في قيام الدول الحديثة وهو المساواة أمام القانون، أو لأنهما تنتهكان الدستور الذي ينص على أن اللبنانيين جميعا متساوون تحت سقف القانون. علتهما في انتهاك القانون، ومن ينتهك القانون ليست الطائفة بل شخص في الطائفة، سياسي أو رجل دين، يجندها وراء مصالحه الشخصية. بسبب هذا الخطأ في التشخيص أخطأنا في التصويب وصارت نضالاتنا ضد الطائفية كالسهام الطائشة، أو هي كانت تخبط خبط عشواء، فأصابت المجتمع واستعدت الطوائف وبقي المسؤولون عن العلة سالمين في هرم السلطة السياسية يتفرجون على اليساريين والعلمانيين وهم يتقاتلون مع أهلهم وبيئاتهم نعم، نحن أهل اليسار، نحن الذين عممنا قيماً جميلة وسامية في ثقافتنا، لكننا نحن بالذات من أطلق الحملة لتحطيم أسس الدولة، من غير أن نكون جاهزين ومهيئين لنكون البديل الثوري ومن غير أن نكون مقتنعين بأهمية الدولة، دولة القانون والمؤسسات، فكان من الطبيعي أن تنحدر الأحزاب اليسارية والقومية والعلمانية، بسبب نواقص الديمقراطية في سلوكها السياسي وفي بناها التنظيمية لتلتحق بركب الاستبداد العربي وتدافع عنه. بدل أن نرمي سهاماً طائشة ضد الطوائف أي ضد المجتمع فيسلم الطائفيون الرابضون على صدر السلطة، لنجرب التصويب على من ينتهك الدستور والقوانين في كل مراتب السلطة من قاعدتها إلى أعلى الهرم. في موازاة الشعار العربي، الشعب يريد تغيير النظام ، علينا أن نناضل في لبنان تحت شعار الشعب يريد تطبيق النظام . بعدها نناضل لتعديله.
عندما يصبح الموقف من الدولة هو المعيار يستقيم دور الإعلام والكتابة الصحفية والتاريخية. تاريخ الجمهورية اللبنانية مرتبط بتاريخ الدولة والدستور. ما قبل 1920 هو تاريخ الولايات والطوائف والملل. تاريخ فيه ثروة وطنية كبرى هي التي مهدت ليكون لبنان مع مصر رائدي النهضة في العالم العربي. أما الوطن فهو شعب وأرض وسيادة، والسيادة تجسدها الدولة. هل سألتم لماذا لم يتمكنوا من كتابة تاريخ موحد للبنان؟ لأن الكتّاب لم يعتمدوا الدولة معياراً، ولأن الحكام أوكلوا سيادة الدولة على الحدود لميليشيات مسلحة وفرطوا بسيادتها داخل الحدود بانتهاكهم الدستور والقوانين.
#محمد_علي_مقلد (هاشتاغ)
Mokaled_Mohamad_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكورد، مشكلة أم قضية
-
الهزيمة ليست عيباً العيب ألا نتعلم من الهزيمة
-
رئيسان من نتاج الثورة
-
الاستقلال الخامس والنهائي للبنان
-
الممانعة والمحور
-
لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ماهية الدولة
-
سقوط الطغيان والتحرر الوطني
-
المتضررون من النصر
-
نعم انتصرنا
-
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
-
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
-
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
-
الإذعان بعد فوات الأوان
-
اليسار والإسلاميون
-
برّي: فرصة واشنطن الأخيرة
-
الصهيونية وتحولاتها
-
صناع الحروب يخطئون وقرّاؤها أيضاً
-
طوفان عيوب في حرب الإسناد
-
حزب الله كمقاومة وحزب الله كحركة تحرر وطني
-
هل الصمت الدولي مشروع ومبرر؟
المزيد.....
-
لماذا اختار ترامب السعودية كمكان محتمل لاستضافة قمته المقبلة
...
-
البحرية الأمريكية: حاملة الطائرات ترومان تصطدم بسفينة تجارية
...
-
بحضور محمد بن سلمان.. قمة مرتقبة بين ترامب وبوتين في السعودي
...
-
حافظ الأسد يثير الجدل بفيديو جديد يكشف تفاصيل هروب العائلة إ
...
-
أنا أعزب، فماذا أفعل في يوم عيد الحب؟
-
بعد حادث الدهس -الشنيع- .. شولتس يتعهد بطرد المشتبه به الأفغ
...
-
العراق: لا لتهجير الفلسطينيين
-
لبنان.. إصلاح العلاقات داخليا وخارجيا
-
زيلينسكي يعرب عن استيائه من اتصال ترامب ببوتين
-
طهران: لا تفاوض مع واشنطن
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|