|
قصة قصيرة سيرة الاخت جولييت
طالب كاظم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8251 - 2025 / 2 / 12 - 23:55
المحور:
الادب والفن
لم يعد بالأمر اليسير، ان يسند هيكله الذابل، كما كانت عليه حياته لعشر سنوات مضت الى غير رجعة، بعد ان بات مسنا جدا، بأذنيه المتهدلين وذقنه التي استرسلت على صدره الهزيل، كان حذرا وخائفا الى حد ما وهو يطبق بأصابعه على مقبض عصاه الطويلة، التي يتفقد بها خطواته الواهنة، التي انتهت به تسند جذعه الذاوي نصف الاحدب، في منتصف الميدان الكبير، الذي شطر جانبي المدينة الضالة الى نصفين، كان غاضبا وحانقا جدا، فكل ما يحدث هناك، كان يعده تجديفا لايغتفر، بالأحرى لم يستطع تمالك اعصابه في تلك الظهيرة التي اختنقت بسحب الغبار الكثيفة، اذ استرسل بفم ادرد خاو، يحذرهم من اقتراب يوم الدينونة، اخبرهم ان الهه غاضب جدا وحانق لانهم مذنبون ومارقون، ولكن كرجل شحذته التجربة الكبيرة التي مر بها، لم يستطع البوح بما رآه تلك الليلة في يقظته، تلك الرؤيا التي داهمته لثلاث ليال تعاقبت عليه بكوابيسها المخيفة، يعرف ان لا احد سيلتفت اليه وهو يتوعدهم بكلام القدير، في تلك الظهيرة لم يعد بين يديه أي حل قد ينقذه من الخيبة، التي حلت به سوى ان يلملم اطراف ثوبه الصوفي البالي ويغادر الميدان بخطواته المتمهلة، يدرك ان لا جدوى من الصراخ الذي اهدره في الصمت الذي احاط به، بينما ترانيم وصخب النساء المخمورات في حانة سادومي ينسل كأفاعي ناعمة في طرقات المدينة الفاجرة، في تلك الليلة اخبره القدير، ان اليوم الموعود قد حل. اغلقت الكوة الوحيدة في برج سفينته الهائلة، بانتظار الطوفان، في الوقت الذي انهمك فيه كهنة مدينته الضالة في شعائر تقديم القرابين والاضاحي، تعالت صيحات النساء المذعورات، حينما اخترق الثور الابيض الضخم بخواره المخيف الممر الضيق الذي اختنق بالمخمورين، الطريق ليس اكثر من ممر ضيق معبد بالحجارة، الذي ينتهي عند بوابة المعبد، هناك تربص الكاهن بانتظار القربان الهائج الذي يعدو في الطرقات على غير هدى، امسك الكاهن بحربة لامعة طويلة تحت عباءة طويلة من الكتان الناعم، ينتظر اللحظة التي سيطعن بها الثور الهائج بين عنقه الضخم وكتفه الضخم، ستنفذ الحربة في طريقها عبر طيات اللحم، حتى تقطع شرايين قلبه فيجثو القربان على ركبتيه هامدا بلا حراك، حينها ستغرق المدينة في عتمة اللذة والخمر والغناء الفاحش، لا احد سيبالي بالتطلع الى السماء المكفهرة التي اختنقت بالغيوم والبروق . شارع الرشيد بناية المفتي الطابق الثالث الاخير فيما هو يسلط مساقط ضوء الكشاف عليها ليضيء جسدها في الغرفة نصف المعتمة، وهي تشير اليه بسبابتها كما لو كان متهما قالت : نلت ثقتي! واحدة غيري لن تقبل بثمنك ولا بشروطك؟! ثم انهمكت تفرقع فقاعة اللبان التي التصقت بشفتيها القاتمتين وهي تخلع القميص الاصفر الضيق الذي التصق بطيات الشحم تحت مشد صدرها الاحمر. رد بلا مبالاة ، ثقتك بي لا تقدر، ولكنك لا تهدريها هنا وهناك بلا مقابل . سلط ضوء الكشاف الساطع ، الذي غمر جسدها، حتى بدت حبات العرق التي تفصدت على وجهها، كما لو كانت لآلئ لامعة، فيما هي تحرر ساقيها من الجورب الاسود الشفاف، كما تخلصت من تنورتها القصيرة والقت بورقة التوت المخرمة كمنديل ورقي مجعد تحت كرسي الخيزران، الذي جلست عليه، انهمك بنثر خصلات شعرها على كتفيها فيما هو يتحسس بأطراف اصابعه فقرات ظهرها الناتئة حينما حرر صدرها من المشد الاحمر، كانت واجمة كتمثال من الكلس والشحوب، تحدق في الفراغ الذي انسكب في عينيها ، وهو يهمس في اذنها بنبرات ناعمة، بدت فخا للإيقاع بها اكثر منها توددا بمشاعر مزيفة، شعرت به كما لو كان يبحث عن اطفاء شبق مزمن دسه الاله في مخلوقاته المخادعة الهزيلة. - ستكون لوحة رائعة ! هي تعرف جيدا الفخاخ التافهة التي وضعت في طريقها، منذ الخطوة الاولى التي وضعت فيها قدمها لتسلك ممر الرذيلة، ولكنها كما يحدث للجميع، عندما يقشط الوقت بلادتهم بحكمة الاحتراف الذي يكشف الدسائس التي تفخخ طريقها كلما توغلت ابعد في محترفها، هاهي كمحترفة تستطيع اكتشاف الاباطيل التي تعترض حياتها، الا انها ستمرر رواياته بغباء متعمد وهو يسرد قصته ملوحا بذراعيه ، ما الذي يربطها به غير عقد مدفوع الاجر لا يتطلب منها سوى ان تتصلب عارية في كرسي خيزران بلا مسند ظهر، يجعل منها موديلا عاريا للوحته، بصريرها المعدني، أيقظت الهواء الراكد بتيارات خفيفة ما ان بدأت ريشات المروحة المعلقة في سقف الغرفة تدور ببطء. في ممر الطابق الثالث والاخير، هناك لمبة وحيدة تضيء الممر نصف المعتم بضوئها الشاحب ، لا احد من رواد هذا الجزء المهمل من الخليقة، فطن الى اللمبة الكهربائية، بفتيلتها التي تتوهج بضوء اصفر فاقع، باستثناء الرجل الثلاثيني المتجهم الغامض، بأرديته الفضفاضة واوشحته الملونة، التي يلف بها عنقه، بقامته الطويلة وتقاطيع وجهه الحادة، مستأجر الغرفة السرية او الصومعة، كما يحلو له تسميتها، التي شهدت طوال سنوات اقامة الممرضة المتمرسة، جولييت*، ليس بالضرورة ان نرهق انفسنا في البحث عن تحدر جولييت او حتى تحرى اصول الاسماء التي ترد هنا، اغلب الاشياء هنا تشبه اغلب الاشياء هناك، الاشياء التي تراها انت حقيقية قد تبدو غير ذلك لرجل في مكان اخر، انها الحياة السرية، التي مضت بين جدران غرف وممرات هذا المبنى المعتم ، فـ اسم جولييت ، كغيره من الاسماء والالقاب في هذه البناية، غالبا اما مزيف او مستعار او لاوجود له باستثناء ذاكرة البعض الذين تقطعت بهم السبل، جولييت الجميلة جدا، التي امضت سنوات شبابها في مستشفى القديس بطرس، المستشفى التي شيدها الاباء الأرثوذوكس الاوائل بعد وباء الكوليرا الذي حصد الاف الضحايا، غادرت اجنحتها الفخمة ناصعة البياض، لتمارس عملها كمخلصة من لعنة الفضائح التي قد تلحق ببعضهن، كانت في نهاية الاربعينيات من عمرها، تمتعت بجمال حسناوات السينما، انها المتمرسة في مهنتها، التي اخضعت نساء عديدات تحت مبضعها السلكي الرفيع، نساء عازبات كما اخضعت راقصات ملاهي بغداد وفتيات قرويات عملن خادمات في بيوتات اثرياء، اخضعتهم لكفها الناعم الذي تتسلل بخفة ونعومة افعى، في الرحم المستفز المليء باللزوجة لتنتزع سره، اضطجعت على طاولتها الصلبة بغطائها البلاستيكي ناصع البياض، الكثير من مومسات شارع النهر، كن مستسلمات ووديعات وصامتات، تحت نظرات جولييت، التي انشغلت بانتزاع اجنة لم تتشكل ملامحها بعد، كانت ، المخلص المنقذ، التي تتلذذ بأعمالها المكتملة ، احتفظت ببعض الاجنة التي تشكلت ملامحها في انيه زجاجية مليئة بالكحول النقي وجدت طريقها لتستقر على طاولة بلون البلوط الابيض، كما احتفظت بقنينة كحول، كطقس مقدس، كانت تعمد الى تناول ثلاثة كؤوس صغيرة من الكحول بعد ان تنجز مهمتها في انقاذ زبوناتها من الفضيحة، كما تستخدمه كمطهر للجروح الشنيعة، التي تحدثها في الاعضاء التناسلية لضحايا اللذة المحرمة. انتهت سيرة جولييت بالهجرة الى ديترويت في منتصف الستينات، بعد ان اخفقت في انقاذ الفتاة الجميلة الصغيرة التي لم تبلغ بعد عامها الخامس عشر التي شعرت بآلام الحمل، بعد معاشرة غير شرعية، كانت فيها ضحية خداع قريبتها القوادة التي حاولت طمر الفضيحة، لانها كانت شريكة في خداع الطفلة التي ماتت لاحقا بسبب التهاب الرحم بعد الجرح الذي احدثته جولييت بسلكها النابضي حين فاجأتها الصبية بانتفاضاتها بسبب الم الوخزات، حينما كانت تحاول قشط الثؤلول بملقطها الطويل الذي دسته عبر مهبلها. انها سيرة الصومعة السرية بكل تاريخها المدنس واجنتها والدماء التي ساحت على طاولتها الصلبة بغطائها البلاستيكي الابيض، انها الغرفة نفسها التي تشغل نهاية ممر الطابق الثالث. بمقابل بخس استأجر الغرفة، التي عانت النحس لسنوات طويلة، وكيل البناية، الرجل المسن الذي يرتدي بدلة قديمة بلون الغبار، لاحت على وجهه المجعد الشاحب ابتسامة هزيلة على شفاه مجعدة، وهو يعد دفعة الايجار الاولى كما لو كان يتلقى هبة، الغرفة التي تحولت فيما بعد الى ستوديو لرسم النساء العاريات، المومسات المتمرسات اللواتي يحترفن الاغواء في قلب المفترق والتقاطع الذي يفضي الى شارع النهر عبر شارع المال، هناك ستطالعك ببواباتها القديمة بناية المحكمة الشرعية التي اقيمت على وقف سيدة محسنة تتحدر من اصول عثمانية سلطانية، بعد موتها تحول الوقف الخيري الى مقبرة وجامع صغير اقيم على حديقة الفناء الخلفي، الواجهة التي تطل على ضفاف دجلة، هناك تنتشر اقبية السحرة والعرافين، الذين يقرأون الطالع بتقاطع مدارات الكواكب للإيقاع بالمطلقات اللواتي ارهقتهن العزلة والوحدة ، نساء يبحثن عن سحر اسود للفتك بزوجات عشاقهن، عجائز متصابيات، رجال يتوسلون بزيت الافاعي ومسحوق غبار العقارب لإنقاذ رجولتهم الغابرة، نساء يبحثن عن توبة مفقودة في مدينة الذنوب، انه شارع الذهب واللذة الذي لا يبعد سوى خطوات معدودة عن صومعته السرية، يخيل اليه في الليالي يطل فيها قمر مكتمل الاستدارة بوجه مجدور، انه يسمع ثغاء ناعم لحملان وجداء صغيرة و اجنة تزحف غير مكتملة النمو ، انه ارث الممرضة جولييت الجميلة التي اجهضت الاجنة المحرمة طوال عقد من تاريخها العريق، في عمارة المفتي، التي تضم مكاتب محامين مخضرمين يقضون وقتهم باحتساء العرق وتبادل النكات الفاحشة مع طبيب امراض تناسلية، يمكن عده الوريث الشرعي للتاريخ الذي سطرته جولييت الغابرة وطبيب اخر للقلب ومكاتب اخراج جمركي، انه الممر نصف المعتم، الذي يتلقى مساقط ضوء شمس الظهيرة ، عندما يتسلل عبر نوافذ العلية التي تحتضن السلالم الخرسانية المتآكلة، مساقط الضوء الخافت التي تزحف ببطء في منتصف الممر وتتسلق الجدران الرمادية فتضيء المكان بضوء شاحب حتى تختفي عند انزلاق شمس الظهيرة في الساعة الثانية بعد الظهر، في حقيقته، يبدو الممر قبوا طويلا ضيقا، بسقفه الواطئ كالملاجئ التي شيدت خلال الحرب العالمية الثانية، اكثر منه ممرا مظلما يشطر المكان الى نصفين، تطل على الممر الضيق ابواب غرف الطابق الثالث والاخير، في منتصف الممر تواجهك السلالم التي تقودك الى السطح المهجور، في احد جواب السطح ستجد بقايا موتور سيكل بريطاني من بقايا الحرب الثانية، هناك صناديق خشب لحفظ الذخيرة مدموغة بأرقام واحرف انكليزية، اسرة حديدية نخرها الصدأ، انها الذاكرة المهملة للمبنى الذي شيد في نهاية الاربعينات، اي شخص يدخل بطن هذا الحوت الهامد، المجبول بالآجر والكلس واعمدة الخرسانة التي اخذت تتفتت ، المبنى الذي يختنق بالرطوبة والعفن الاخضر الذي تسلق حافات جدرانه التي طلست بطلاء دهني سميك ببياض يميل الى الاصفرار، يستطيع قراءة تاريخ تشييد هذه البناية القديمة بطوابقها الثلاثة، في لوحة التعريف التي ستلفت انتباهه، لأنها ستبدو كما لو كانت كائنا حيا في نزعه الاخير، بعد ان تدلت في الهواء وهي تتشبث بأحد طرفيها بمسمار واحد " عمارة المفتي شيدت عام 1939". انتهت * الاسماء كما الاحداث التي ترد هنا غير حقيقية .
#طالب_كاظم_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهرطقي
-
ترانيم مجوسية
-
هجرة طائر السنونو الاخيرة
-
ادب الطفل ليس حقلا لتجارب غير ناضجة .
-
قصص الحرب . المتاهة . القسم الثامن
-
قصص الحرب. المتاهة . القسم السابع
-
قصص الحرب . المتاهة . القسم الخامس
-
قصص الحرب. المتاهة .القسم الرابع
-
الصوفي
-
المتاهة. قصص الحرب
-
الكاهن
-
تلاميذ الاسخريوطي
-
صديقي الذي فتك بالعصافير في طفولته
-
في ادب الطفل
-
المسرح والدهشة الاولى التي سترشد خيال الطفل الى الجمال
-
جلجامش وانكيدو سيناريو للفتيان
-
مسرحية لليافعين: ابنة الخياط
-
نووايس عقدك الثاني
-
نواويس عقدك الثاني المهجورة
-
قصة قصيرة : في الاسبوع التاسع والاربعين
المزيد.....
-
اختيار بغداد عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي للعام 2026
-
مهرجان برلين السينمائي 2025 .. مئات الأفلام ومن بينها عربية
...
-
من قصر الكرملين.. بوراك أوزجيفيت يقدم عرضا فنيا ويكشف انطباع
...
-
اختتام الدورة العاشرة لمهرجان نواكشوط للشعر العربي في موريتا
...
-
الحب والأفلام.. وصفة سحرية لعلاقة رومانسية قوية مع الشريك؟
-
ابن بشار الأسد يقدم رواية جديدة لليلة الفرار من سوريا
-
بالصور والموسيقى والجلسات التفاعلية .. ابوظبي تحتفي بقامات ع
...
-
المغرب يشهد تصوير فيلم -أوديسة- للمخرج البريطاني كريستوفر نو
...
-
وزير الثقافة السوداني يدعو الإيسيسكو لدعم استعادة آثار السود
...
-
كلاكيت: الفيلم الكوميدي الذي نسعى إليه
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|