|
نسبية الزمن في تقييم وقائع حياة الناس الإجتماعية
خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8251 - 2025 / 2 / 12 - 07:03
المحور:
قضايا ثقافية
كثيرا ما نسمع الناس في أحاديثهم الاجتماعية عن سنين بعيدة مضت وذهب معها ما ذهب من جميل ما يرونه فيها ويشيرون لها بفترة الزمن الجميل بكل ما كان يحيطهم فيه من أشياء بات ينظرون إليها كأشياء جميلة، مع احتمال انهم كانوا وقتها يشتكون في ذلك الزمن من الكثير الذي وقع فيه لهم او لغيرهم افرادا او مجاميع ، موطن او وطنا باكمله، ولعلهم جبلوا في تقييمهم هذا عن غيرهم ممن سبقهم في حديثهم عن زمن اقدم كان يشار له ايضا كزمنا جميلا اخر عاشه ابائهم وأجدادهم وهم يفتقدونه.
انهم بهذا يسترجعون ذكريات زمن مضى، يصفونه بـالزمن الجميل، حيث يرون فيه كل ما أحاطهم يومًا من لحظات باهية جميلة ناسين اللحظات الاخرى .أن المفارقة تكمن في أنهم، في تلك الأيام نفسها، ربما كانوا يشكون من صعوباتها، تمامًا كما يشتكي غيرهم اليوم من واقعه. وربما كان من سبقهم أيضًا يستحضر زمناً أقدم، يحنّ إليه كما يحنّون هم إلى ماضيهم. إن الإنسان يعيش عمره في دائرة لا تنتهي من الحنين، حيث يبدو أن لكل جيل زمنًا جميلاً مضى، وزمنًا حاضراً يراه أقل إشراقًا. ولكن يبقى هذا الزمن الجميل يشير حقيقه إلى لحظات مختارة وليس زمنا باكمله. الغريب انهم جميعا في اوقات تلك الأزمنة لم يكونوا يشعرون بجمالها وجمال ما كان متوفرا لهم فيها. ولكن بعد فواته تذكروا فقط بل شعروا من القلب بجمال ذلك الزمن الذي يسمونه الآن جميلا. لو تأمل الإنسان ماضيه بصدق، لاكتشف أنه لا يحن إلى الزمن كله، بل إلى لحظات معينة منه ، مثل فترة دراسته، نشأته، غربته، شبابه، محطاته العاطفية، جيرته الدافئة، صداقاته الحميمة، أو أي شيء آخر ارتبط بروحه بصفاء وبراءة. تلك اللحظات التي ما زال صداها يتردد في ذاكرته، فيعيد استرجاعها كلما داعبته نسائم الحنين.
لكن الحنين إلى الماضي ليس شعورًا عامًا يشمل الجميع؛ فهناك من كان ماضيه جرحًا غائراً، مثقلاً بالآلام والأحداث العاصفة التي تركت فيه ندوبا لا تندمل، فلا يحن إليه، بل يصبح مجرد ذكرى موجعة ، كجرح لم يلتئم تمامًا. وهناك من مرّ بأيام قاسية ظنّ أنه لن يخرج منها بسلام، لكنه تجاوزها، وربما نساها تمامًا، ليجد نفسه الآن يستذكر جمال أيامه الأخرى، متجاهلا ما أثقل كاهله آنذاك. فبعض المراحل تُختزل لاحقًا في كونها مجرد امتحان كان لا مفر من اجتيازه، لكنه كان اجتيازًا شكّل شخصيته وصنع مستقبله.
على المستوى الاجتماعي يتردد صدى السنين الماضيه بكل عفويه ونبل العلاقات التي كانت تجمع بين الناس بلا أية حواجز ومقاسات ، عندما يلاحظ الكثير منهم أن الناس في هذا الزمن افتقروا الى البساطة وطغت الكلفة على العفوية في أمور كثيرة ، وتسارع إيقاع الحاضر بوتائر شديدة باتت المادة فيه هي الهدف والمعيار الوحيد في التعامل حتى بين أقرب الناس لبعضهم وركنت المبدئيه عند الكثير جانبا الا اذا استخدمت بعناوين مزيفة لتحقيق أهداف مرسومة لغاية معينة.
يبقى ضرورة تقييم الماضي دون تعميم مطلق ، فليس الماضي كله كان ماضي جميلا او كله مراً لاذعاً.
تكمن حقيقه ما اشرت له ان الناس لا تستشعر بجمال الأشياء المحيطه بهم الا بعد فقدهم لها. ذلك ان الجميع يفتقدون لما يمكن ان يسمى بثقافة عيش اللحظة وأن كل ما يواجهونه من صعاب سيعوض بشكل أو بآخر في قادم الأيام ، ليدعوا بعدها الايام تحكم لهم لا عليهم. ويأتي فقدان هذا الشعور من كون الجميع يفتقر لمبدأ الإستمتاع حتى بأصغر الأشياء احياناً.
ليت الجميع يدرك وفق هذا المقياس أن أيامهم هذه جميعا ستكون غدا او سيقولون عنها غدا بانها ايضا كانت زمنا جميلا مضى ، مع انهم الآن مشغولون فيها عن غيرها بامور الحياة او ما يحقق ذاتهم واهدافهم ليشعروا خلاله بتفوقهم او تحقيق ما رسموه لانفسهم بما يضمن السعاده وفق رؤيتهم ، مع ان السعادة بدون مقدمات وانشغال بالبحث عنها ، هي قرار شخصي بامكان الانسان فيه ان يجعل اوقاته كلها جمالا وسعادة ، وعندها يحق له ان يقول بعد مضيء هذا الزمن الذي عاشه حقيقه بسعاده وجمال روحي انه كان زمنا جميلا. حين يصل الإنسان إلى مرحلة عمرية تنضج فيها أفكاره وتتسع رؤيته للحياة، يدرك أن الأمور لم تكن بتلك الجدية التي تصورها في شبابه، وأنه ربما بالغ في القلق والانشغال بما لم يكن يستحق استنزاف عمره وطاقته. ورغم ما تحمله الحياة من مصاعب وآلام، يكتشف أنها أبسط مما كان يظن، وأنه كان بالإمكان العيش بتوازن أكبر بين الجدية والاستمتاع. في المقابل، نجد أن الإنسان الذي يأخذ الحياة بجدية مفرطة قد يحرم نفسه من متعتها، فلا يمنحها حقها من البهجة والتجربة. ولو مُنحت له فرصة ثانية، لأدرك كيف يمكنه استغلالها بحكمة، فيحقق التوازن بين التزاماته تجاه الآخرين وحقه في أن يعيش حياته بملء روحه وسعادته.
اشير بتصرف الى ما ذكره الدكتور أحمد سوسة في مقدمة كتابه الذي تناول سيرة حياته ، إلى أن الإنسان في فتوته يؤجل تمتعه بالحياة الى شبابه لانهماكه في دراسته ، وفي شبابه يؤجل تمتعه بالحياه ثانيه لانهماكه في اعداد مستقبله وحصوله على شهادة علمية او اي مؤهل يضمن له مستقبله ، حتى اذا ما تزوج يؤجل ذلك ثالثه لانهماكه في اعداد شؤون البيت وتربية الأطفال ،ثم يعيد الكرة مرة اخرى الى كهولته لانهماكه في تحقيق مستقبل اولاده. وبعد ان يصل الى عمر الشيخوخة يجد نفسه أنه لم يستمتع بكل مراحل حياته التي عاشها جادا اي لم يعطي نفسه حقها في حياته . وهنا تجده ينظر الى الوراء او الى ماضي حياته ليقول مع نفسه انه لو عادت لي من جديد ايام وسنين حياتي لعرفت كيف استغلها من جديد واستمتع بها من جديد ولكن بعد فوات الآوان ومضي سني عمره وايامها التي بات يرى في الكثير منها انها كانت سنينا جميلة لم يعشها كما يتوجب. أن حكمه عليها بالسنين الجميله لانه ضيع فرصها الجميله وحرم نفسه من بهجة الاستمتاع بها.
نظم الجيش الألماني في حفلة وداع السيدة انجيلا ميركل بعد ١٦ عاما قضتها كمستشارة لبلدهم حققت فيها ألمانيا قفزات كبيرة في الاقتصاد والتقدم التكنولوجي والعلمي وغيرها اضافة الى استقبالها ورعايتها لمئات الآلاف من لاجئي الحروب. ميركل هذه عندما طلب منها الجيش الألماني اختيار ٣ معزوفات وأغاني لتقوم فرقته بأدائها امامها ، اختارت ثلاثة من اغاني الستينات والسبعينات وقالت انها اختارتها تحديدا لتذكرها بشبابها والاحلام التي كانت تراودها في مخيلتها. وكانت حفلة الوداع فرصة لتذكر الماضي وما حرمت منه نفسها وقتها.
نخلص من هذا الى القول: الحياة بسيطه وايضا واسعه جداً ، وكثيرا ما يضيّقها الإنسان على نفسه عندما يظن أن سعادته مرتبطة بأشياء معينة وليس بقناعته بما يتوفر له. الحياة تعلمه ، بعد طول عمر ، انه من الافضل ان يعيش حياته على مبدأ أن كل شيء يتعوض كما يقول احد المهتمين. ان خسر شخصا يأتيه شخص اخر ينسيه الاول او يعوضه عنه. ان خسر فرصة عمل او دراسه ، تأتيه فرصة اخرى تعوضه عن ما فاته.
وبالمقابل، تعلّمنا وقائع الحياة درسًا مهمًا: من لا يوقظه ضميره عند إيذائه للآخرين أو تجاوزه على القيم التي تقوم عليها الحياة بتوازنها وتكاملها، ستتكفل الأيام بتأديبه بطريقتها، حين تدور عجلة الزمن وتعيد لكل فعل صداه. وفي النهاية، يدرك الجميع أن الحب والتسامح هما مفتاح تجاوز العقبات والمشاكل التي تعترض طريق الإنسان، بينما الكراهية والحقد، سواء كان لهما سبب أو بلا مبرر، لا يؤديان إلا إلى تسميم الحياة، وإضاعة العمر فيما لا يستحق. احيانا كثيرة يؤدي مرور السنوات إلى جعل الكثيرين يعيدوا النظر في تقييم ماضيهم لتجدهم عند ذلك يحبون ماضيهم هذا ، متجاوزين الألم والتجارب الصعبة وكأنها لم تكن موجودة أصلاً. فهم يتجاوزون مرحلة التفكير المفرط في الصراعات والانشغالات التي عانوها، لأنهم يدركون أن تلك التحديات قد أسهمت في تشكيل شخصياتهم الحالية. وفي هذا السياق، يمكن القول إنهم حتى في الأوقات الصعبة يشعرون بالامتنان لها، بدلاً من الالم و الحسرة على ما جرى لهم ، لأنها منحتهم القوة والمرونة. ولهذا يجدهم المقابل يتمسكون بذكريات السعادة، ويستحضرون اللحظات التي بنوا فيها أساس حياتهم، مما يؤدي بهم إلى قناعة راسخة أن وجودهم اليوم هو نتيجة كل تلك التجارب. وهكذا، يعبّرون بفخر عن تلك السنوات، معتبرين إياها "ماضيًا جميلًا"، لأنها كانت مليئة بالجمال الذي ساهم في بناء حاضرهم القوي والمستقر. هكذا بعدما ينضج الإنسان يدرك كم هي منصفة وعادلة هي الحياة بدقة وإنصاف ما تفعله بحكمتها أو ما يمكن تسميتها احيانا لعبة القدر ، اللعبة التي يكون لإرادة الإنسان (المعني او غيره) دور في صنعها . ولو ادرك الانسان كم هي هذه الدقة في توقيتها وحجمها وان كل ما يفعله يعود إليه ، تضاعفت متعة الحياة لديه منذ بداية حياته ولعرف الهدف من وجوده في الحياة الخالية من العبث. ذلك كل كلمة او فعل خير او شر ، نصيحه او نميمة ، حكم على الاخرين بود او تطرّف، ضحكة او بكاء يمارسه على الآخر أو معه، عائدة اليه بشكل من الأشكال مكافاة او عقوبة.
وتبقى وجهة النظر في تقييم درجة الالم او الفرح نسبية بين الناس في الكثير من الامور. فكم مغبون متألم يعيش بضمير حي عزاءه حسن نيته ونبل غايته وسط تقدير الآخرين له ، وكم غيره يعذبه ضميره او نظرة الآخرين إليه بعدما حقق غايته صاعدا على اكتاف الكثير مستغلا همومهم واوجاعهم.
ب. د. خالد محمود خدر
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقفة حوارية ثانية مع افكار الدكتور ابراهيم الفقي في كتابه ال
...
-
وقفة سريعة مع افكار الدكتور ابراهيم الفقي في كتابه البرمجة ا
...
-
قراءة وملاحظات على ديوان شعري الموسوم بعنوان : نرجسه في حقل
...
-
تبقى تبعات نزوح وهجرة الأقليات ، بعد جرائم داعش بحقهم دون قص
...
-
خواطر صباحية في محطات دروب الحياة
-
حوار افتراضي مع نخبة من قادة الفكر الادبي والإنساني
-
لم يعد عند الكثير ذلك الاهتمام المفروض في قراءة الكتب الثقاف
...
-
أزمة المياه في إقليم كردستان/ العراق (الأسباب والحلول) الجزء
...
-
أزمة المياه في إقليم كردستان/ العراق (الأسباب والحلول) الجزء
...
-
أزمة المياه في إقليم كردستان/ العراق (الأسباب والحلول) الجزء
...
-
أزمة المياه في إقليم كردستان/ العراق (الأسباب والحلول) / الج
...
-
أزمة المياه في إقليم كردستان/ العراق (الأسباب والحلول) / الج
...
-
أزمه المياه في إقليم كردستان/ العراق (الأسباب والحلول) الجزء
...
-
أزمه المياه في إقليم كوردستان / العراق (الأسباب والحلول) / ا
...
-
يبقى العالم المنشود هو العالم الذي تجمعه القيم والفضائل الإن
...
-
فقدان الارادة بين الانتظار واتخاذ القرار يفقد الإنسان الكثير
...
-
هكذا ينبغي ان تكون وتبنى النفوس ليرتقي الجميع بأنفسهم ومجتمع
...
-
كن منشدا للسلام لتببني جسوراً من الفهم المتبادل لردم الخلافا
...
-
محبتك للناس تبدأ بمحبتك لنفسك ليسهل انتدابها للأعمال الجليلة
-
عش كل يوم من ايام حياتك كيوم جديد وسيكون هكذا
المزيد.....
-
وصول وفد حماس إلى القاهرة لمتابعة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النا
...
-
الملياردير الإمارتي حسين سجواني يتحدث لـCNN عن علاقته بترامب
...
-
الكرملين يعلن عن أول اتصال هاتفي بين بوتين والشرع
-
مصادر لبي بي سي: قمة عربية خماسية في الرياض قد تعقد الأسبوع
...
-
بعد تهديدات ترامب.. خامنئي يطالب بزيادة دقة الصواريخ الإيران
...
-
ألمانيا تقرر المشاركة في البعثة الأوروبية لمراقبة معبر رفح
-
الخسائر الأوكرانية في محور كورسك تقترب من 60 ألف جندي
-
ترامب يلتقي الأمريكي المفرج عنه مارك فوغل
-
أقارب الرهائن الإسرائيليين ينصبون خياما أمام مقر نتنياهو في
...
-
تعزيزات عسكرية سورية تنتشر بالقرى الحدودية مع لبنان
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|