|
البحث عن سردية معاصرة لليسار
رشيد غويلب
الحوار المتمدن-العدد: 8251 - 2025 / 2 / 12 - 00:17
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
ترجمة ما جوهر السردية اليسارية المعاصرة؟ لقد طور اليسار الاجتماعي التعددي عناصر مهمة من هذه السردية، لكنه لم يتمكن حتى الآن من إنتاج سردية شاملة، مقنعة، ومناسبة لعصرنا. ويساهم هذا الوضع بشكل كبير في الضعف الراهن . إن الادعاء بالتوافق بين تعقيد وتشابك واقع المجتمع مع السرد اليساري يتعارض مع المطالبة الضرورية بالبساطة وسهولة الفهم، على عكس خطاب السوق الليبرالي الجديد السيء أو تصوف الشعب اليميني. إن تنوع الواقع يؤدي إلى نشوء مناهج مختلفة لسرد تحرري، لا يمكن دمجها بسهولة لتشكل كلاً واحداً. ومن المرجح أن يتم ذلك فقط من خلال مناقشات عامة ومكثفة.
نشر ميشائيل بري (فيلسوف وباحث ألماني معاصر) لأول مرة ثلاث مخططات تعود لعام 1943 لمشروع كتاب لكارل بولاني أحد أكبر مثقفي القرن العشرين،. إن أحد مبادئ بولاني للسرد التحرري هو: "يجب أن يكون هذا السرد ، سرد المواطن العادي". إن الناس لديهم العديد من السرديات "الصغيرة: الصحة بالنسبة لي اهم شيء، والأهم هو التعليم ومستقبل الاطفال، في ان يعيشوا بأمن اجتماعي، وبلا خوف، وبسلام، فلا وجود لأي شيء بلا سلام ، ولكي تستمر الحياة يجب انقاذ البيئة، ويجب جعل العلاقة عادلة بين الجنسين..الخ.
إن الأخذ بهذه التطلعات والتأكيد على قواسمها المشتركة ، ينبغي ان يكون في مركز السرد التحرري للجهات الفاعلة الإنسانية، بما في ذلك اليسار المعاصر، وينبغي أن تكون هناك نقطتان أرخميدسيتان (نسبة الى أرخميدس) بمثابة توجه للسياسة:
- المشاركة الاجتماعية المتساوية للجميع في توفير الشروط الأساسية لتنميتهم الشخصية الحرة وخاصة في شكل تركيز أساسي على البنى التحتية الاجتماعية الموجهة نحو الصالح العام (التعليم، والصحة، والإسكان، والتنقل، والمعلومات..الخ)
- الحفاظ على الطبيعة والسلام كشرط أساسي لكافة الحيوات.
وهذا يعني إعطاء الوزن الأساسي في السردية اليسارية، للعدالة الاجتماعية باعتبارها ما يميز السياسة اليسارية، عبر الالتزام، بإعادة توزيع الموارد والسلطة وفرص الحياة. وبعبارة أخرى: يتلخص جوهر السردية اليسارية في جعل الإنسانية مركزا ومعيارا لجميع قرارات المجتمع المهمة.
يجب ان يكون هذا الترابط حاضرا في ذهن من يشارك في الحملة الانتخابية لحزب اليسار الالماني (الانتخابات المبكرة في 23 شباط 2025 ): الترابط بين السرديات الفردية والأحلام الملموسة والرغبات ومطالب المواطنين والفكرة الجوهرية للإنسانية والعدالة الاجتماعية كمحور موحد للسردية اليسارية.
وبالضد من ذلك، ان استمرار احزاب اليمين المحافظ والليبرالي في التمسك بسياسة تؤدي إلى تركيز شديد للثروة، فلن يكون هناك تمويل لسياسة صناعية استراتيجية للدولة، أو لتوسيع البنية الأساسية الاجتماعية العامة، أو للمدارس، للسكن بأسعار معقولة ودور التمريض، والنقل العام في المناطق الريفية، والنوادي الشبابية والثقافة. ان رد السردية والسياسة اليسارية، على هذا الاستنتاج هو اعتماد سياسات ضريبية عادلة، وفرض ضرائب أعلى على أرباح الاحتكار، وعلى الثروات الكبيرة، وتخفيف العبء عن غالبية السكان.
إن الالتزام بسياسة كبح الديون يعني أيضا حرمان الدولة من الموارد اللازمة للاستثمارات الاستراتيجية، أي الاعتماد بشكل أساسي على السوق، على الرغم من ان السوق اعمى أو قصير النظر اجتماعيا وبيئيا. لن يوفر "السوق" الموارد اللازمة لإعادة الاقتصاد إلى مساره الاجتماعي والبيئي. وتشير تقديرات شركة ماكينزي لاستشارات الشركات إلى أن الحياد المناخي لألمانيا سوف يتطلب استثمارات تبلغ في عام 2045 قرابة 6 تريليون يورو.
وصاغ بولانيا أحد مبادئ السرد التحرري: "ينبغي أن يكون هذا السرد عمليا". عملي بمعنى مزدوج:
أولا، يجب أن تتضمن هذا السردية خطوات قابلة للتنفيذ في زمن منظور وأن تكون قادرة على تعبئة الناس. وهذا يعني عادة التعامل مع المهام التي يمكن إدارتها بخطوات إصلاحية ضمن الظروف المعينة، ولا تثقل كاهل الجهات الفاعلة. ومع ذلك، عندما تفشل، على سبيل المثال، الإيجارات المعقولة، بسبب سقوف ارباح المستثمرين الماليين، تصبح حدود النظام واضحة. وإن الواقعية العملية تشمل أيضاً تسمية حدود النظام ومهاجمتها. وهذا هو بالضبط ما حدث في برلين في حملة الاستفتاء الشعبي "مصادرة العقارات الألمانية وشركائها". يجب ان تتضمن السردية اليسارية الاشارة إلى طريق عملية التحول المزدوج، داخل النظام، وتلك التي تتجاوزه.
ثانياً، يجب على السرد التحرري أن يعطي أهمية مركزية للعديد من المشاريع والمبادرات الفردية الملموسة للمواطنين والتي يعملون بواسطتها على تحسين حياتهم ومجتمعهم: الدفاع عن فرص العمل، مشاريع المدارس، الملاعب، المشاريع البيئية، وسائل النقل العام ذات التكلفة المعقولة، والاحتجاج ضد سياسات التهميش، وسياسات الاستبعاد الاجتماعي. ان الحق في مقاومة الإيجارات المفرطة، وتحسين التوظيف في دور الحضانة والمستشفيات، ..الخ، وكل ما لا يترسخ في الحياة اليومية "للناس البسطاء" لا مستقبل له. وبدون الضغط من الأسفل لا يمكن أن يكون هناك تحول في الأعلى. إن السردية اليسارية تنظر إلى العالم من الأسفل.
"ينبغي أن يكون هذا السرد مكتملاً بمعنى ان يأخذ في الاعتبار مشهد الحياة الجماعية الإنسانية بكل اتساعه وعمقه، وأنه يصوغ المهمة بالكامل." وهذا أحد الاعتبارات الأخرى التي طرحها بولاني.
بشكل كامل" يعني، على سبيل المثال: عندما يطالب اليسار بحياة كريمة للجميع، فإنه يتحدث أولاً وقبل كل شيء عن أبسط الحريات، أي البقاء على قيد الحياة وعدم الموت قبل الأوان (أمارتيا سن- اقتصادي هندي عالمي ولد في 1933). إنه يتحدث عن حياة بلا حرب وعن السعي إلى السلام لا من خلال المزيد من موتى حروب متصاعدة، بل من خلال إعطاء الأولوية للدبلوماسية والمفاوضات، مع تأمين قدرة الدفاع عن النفس واتخاذ خطوات عدم القدرة على الهجوم. وفي الوقت نفسه، تتطلب الحياة تجنب كارثة مناخية نهائية وتسريع إعادة الهيكلة البيئية بشكل هائل.
وهذا يعني ايضا بذل جهود هائلة لتحويل الاقتصاد من النمو المتهور إلى التنمية الصديقة للبيئة لصالح الاحتياجات الإنسانية. ان النمو والتطور امران مختلفان. والتغيير البنيوي المطلوب لتحقيق هذه الغاية ينطوي على اضطرابات مؤلمة، ومشاكل انتقالية كبرى، والعديد من أوجه عدم اليقين. وبالتالي، فإن إعادة هيكلة الاقتصاد بشكل مستدام يجب أن تتم بالتوازي مع توفير ضمانات ضمان للمتضررين، وتوسيع النظم الاجتماعية التضامنية، بمرافقة توسيع كبير لحق الناس في اتخاذ القرار: التحول الاجتماعي والبيئي باعتباره ديمقراطية حقيقية.
ان السلام، وإعادة الهيكلة الاجتماعية والبيئية، والتحول الهيكلي للاقتصاد، ودولة الرفاهية والديمقراطية المتجددتين، كلها أمور مترابطة . وإن كل شيء متماسك بفضل معيار لا يمكن المساس به لمجموع القرارات الإنسانية! و كل هذا يعني:
ينبغي أن يتناول هذا السرد المشاكل التي لم تُحل في عصرنا... هذه "المشاكل التي لم تُحل هي التي تسبب الكارثة، وتشكل مسار الأحداث، ولا تزال تهيمن على الوضع". سمى كارل بولاني "المشاكل العالمية غير المحلولة" آنذاك في عام 1943 (!) واعطى الأولويات لـ: الحروب، والفاشية، وتنظيم الأسواق، والتعاون بين الإمبراطوريات السلمية، و"التركيز على الصين، التي تقوم على التسامح مع أسلوب حياة الشعوب الأخرى". إن حل كل مشكلة من هذه المشاكل بمفردها هو مهمة القرن. ولكن السردية اليسارية يجب أن توضح سياق معالجتها وربطها دائمًا بمخاوف "المواطن البسيط". على سبيل المثال، يجب أن توضح مدى عمق وكيفية تغلغل الحرب والأزمات البيئية في حياة الأفراد اليومية.
و طالب بولاني بأن يكون العرض بلغة بسيطة "كيف بدأ كل شيء، ومن يتحمل المسؤولية عن الأخطاء السابقة وأي الأخطاء كان يمكن تجنبها، سواء كانت ناجمة عن ضعف أخلاقي أو فكري أو سياسي". كتبت روزا لوكسمبورغ مخاطبة اليسار: "كل هذا تقليدي للغاية، خشبي للغاية، نمطي للغاية". و"الأوقات المختلفة تريد أغاني مختلفة". لكن أغاني، شخبطتنا، ليست أغنية في الغالب، بل همهمة بلا لون ولا صوت، مثل صوت دوران عجلة الآلة. أعتقد أنه في كل مرة، وفي كل يوم، ومع كل مقال، يجب على المرء أن يعيش الموضوع مرة أخرى، وأن يشعر به، وسيجد ا كلمات جديدة ايضا، تذهب من القلب وإلى القلب، للمادة القديمة المألوفة".
وبالمناسبة، فإن حزب اليسار لديه مفاهيم متطورة للغاية للعديد من القضايا السياسية منفردة. لكن أفكاره بشأن المعاشات التقاعدية المستندة على التضامن، وسياسة الضرائب العادلة، والنقل .. الخ، غير معروفة للعامة. ومرة تلو أخرى، يتعين على قادة اليسار أن يلفتوا انتباه الرأي العام إلى هذه القضايا في إطار سردية يسارية تتضمن تأملات أفلاطون حول السلام، شكوى الطالب: "يا أستاذ، أنت تتحدث دائما عن نفس الشيء". رد أفلاطون: "يا صديقي، إنه الشيء هو نفسه دائما".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البروفيسور ديتر كلاين، مواليد 1931، اقتصادي وأستاذ علوم سياسية، ومن العاملين في مؤسسة روزا لوكسمبورغ. والترجمة هي لنصه المنشور في جريدة "نويز دويجلاند" في 13 كانون الثاني 2025 .
#رشيد_غويلب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا لترامب والحرب، نعم للاشتراكية.. حول الطبقة العاملة وعسكرة
...
-
خمس سنوات على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي.. خيبة أمل تع
...
-
للفلسطينيات المفرج عنهن وجوه وأسماء أيضاً
-
احتجاجات غاضبة ضد التعاون بين اليمين المحافظ والنازيين الجدد
...
-
كولومبيا وبقية بلدان أمريكا اللاتينية ترفض غطرسة ترامب
-
قبيل الانتخابات المبكرة في ألمانيا.. دعوات لهيكلة الدولة على
...
-
حزب اليسار الألماني.. مؤتمر استثنائي وحملة انتخابية واعدة
-
تمثيل واسع لليمين المتطرف الأوربي في مراسيم تنصيب ترامب
-
لماذا تفوز الأحزاب اليمينية المتطرفة بأصوات الطبقة العاملة ف
...
-
الليبرالية والديمقراطية أمران مختلفان
-
طلبة صربيا يحتجون على الفساد والقمع
-
بالعودة إلى خريطة «المكسيك الكبرى».. رئيسة جمهورية المكسيك ت
...
-
مراجعات 2024 .. العام الثالث لحكومة الفاشيين الجدد في ايطالي
...
-
ما زال يحاول فك شِفراتها المعقدة / يسار 2024.. تحديات جديدة
...
-
منظمات حقوق الإنسان تعرب عن مخاوفها / النازيون الجدد في الأر
...
-
مؤتمر واسع لمؤسسة روزا لوكسمبورغ الأزمة العالمية وصعود اليمي
...
-
البرلمان الكولومبي يقر قانونا يحظر زواج القاصرات
-
الموقف العنصري تجاه الكرد أحد مفرداته / تركيا تريد تحديد ملا
...
-
هل يقود كوربين حزباً يسارياً جديداً في بريطانيا؟
-
جمعية اليسار الماركسي في ألمانيا.. حملة للتضامن مع نضال حزب
...
المزيد.....
-
رجل مجهول بشارب رفيع.. اكتشاف صورة مخفية تحت تحفة فنية مشهور
...
-
ترامب يُشيد ببوتين بسبب الإفراج عن فوغل ويؤكد: -خطوة مهمة لإ
...
-
إسرائيل تتوعد حماس بـ-معارك عنيفة- وإنهاء اتفاق الهدنة في حا
...
-
مدفيديف يؤكد على مفهوم -السلام من خلال القوة-
-
سفن أمريكية تبحر عبر مضيق تايوان لأول مرة منذ تولي ترامب وال
...
-
إستونيا تشهد قفزة قياسية في أسعار الكهرباء بعد انفصالها عن ا
...
-
الصين تطلق صاروخ CZ-8A مع أقمار صناعية
-
زاخاروفا: كلام زيلينسكي حول تبادل الأراضي -هذيان شخص مريض نف
...
-
الحكومة الألمانية تبحث إرسال قوات شرطة إلى رفح
-
-البالة- تغيّر وجه السوق السورية.. والصناعة المحلية على محك
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|