|
أوربا وقيمها.. التحديات والحلول
وليد الأسطل
الحوار المتمدن-العدد: 8250 - 2025 / 2 / 11 - 18:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في عام 1989، تنبأ عالم السياسة فرانسيس فوكوياما -في مقالة مدوية- "بنهاية التاريخ". يبدو أن سقوط العديد من الأنظمة الدكتاتورية في أوروبا وأميركا اللاتينية، ثم نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، أدى إلى انتصار كبير للديمقراطيات الليبرالية واقتصاد السوق ــ مثل سقوط سور برلين والأمل الهائل الذي نشأ عنه.
بالطبع، لا يزال بإمكاننا قراءة فوكوياما اليوم، ولكن علينا الإعتراف بأن التنبؤ بالمستقبل أمر صعب. لأنه على مدى ثلاثة عقود من الزمن، لم يعرف التاريخ نهاية: الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا، الصراعات المتواصلة في الشرق الأوسط، الحرب في العراق وأفغانستان، الربيع العربي، المعجزة الاقتصادية الصينية، وما إلى ذلك. لم يكن هناك نقص في الحروب، بما في ذلك أوربا: التفكك الدموي ليوغوسلافيا السابقة، ثم السياسات الإمبريالية التي انتهجها فلاديمير بوتين.
في الاتحاد الأوروبي، الكيان السياسي والإقتصادي المشترك، تم رفض مواجهة التقلبات والشكوك المتعلقة بمستقبله.
بغزو أوكرانيا، سلط فلاديمير بوتين الضوء على نقاط الضعف التي تعاني منها أوروبا: عدم القدرة على التحدث بصوت واحد، الدعم العسكري المتردد وغير المتسق، والاعتماد على الولايات المتحدة.
إن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض توضح هذه النقطة: ليس فقط أن الدعم لأوكرانيا لم يعد مضمونا، بل إن حلف شمال الأطلسي نفسه، الذي يمثل حجر الزاوية في أمن أوربا منذ عام 1949، أصبح ضعيفا، والآن يهدد رئيس الولايات المتحدة بمهاجمة جرينلاند!
إن الديمقراطيات الغربية، التي يأكلها اليمين المتطرف من الداخل، تتعثر. فالشعبوية آخذة في الصعود: إنها تحرز تقدما في الانتخابات ثم تمارس السلطة إما بشكل مباشر أو ضمن ائتلافات. وحتى في المعارضة، أصبح ثقلها كبيرا، لدرجة أنها تؤثر على كل العمل السياسي، كما هو الحال الآن في فرنسا -حيث أعيش- خاصة وأنها تستفيد حاليا من التأثير الكبير لوسائل الإعلام الرئيسية، لنشر أيديولوجية اليمين المتطرف.
تعتبر إعادة انتخاب دونالد ترامب تتويجا لهذا التقدم بقدر ما تمنحه زخما إضافيا. ففي الوقت الذي يتعين فيه على أوروبا أن تتحدث بصوت واحد، تجد نفسها تواجه خطرا كبيرا، يتمثل في رؤيتها تنقسم إلى عدد كبير من رؤساء الدول الصغار الذين يتوجهون إلى واشنطن للتفاوض على بعض المعاملة التفضيلية.
يقال: الولايات المتحدة تبتكر، والصين تقلد، وأوروبا تنظم. من المؤكد أن الصين تبتكر الآن أكثر بكثير مما تنسخ، أما أوروبا التي تتخلف عن الركب في الاقتصاد الرقمي، هي قارة المستهلكين المسنين. تتزايد فيها التفاوتات الاجتماعية، ويبدو أن جميع معاقلها الصناعية مهددة بالمنافسة الدولية.
هناك غياب لرؤية أوربية استراتيجية مشتركة. من هنا، لا شك أن الأوربيين يتمنون أن تكون الحرب الاقتصادية التي وعدهم بها دونالد ترامب مجرد خطابة.
كانت بدايات الإنترنت العام مدفوعة بوعد عالمية المعرفة ونشرها. من المنتصر اليوم في الإنترنت في أوربا؟ الإباحية والمؤامرة. ومن المثير للدهشة حقا أن نلاحظ إلى أي مدى يمكن بسهولة التشكيك في المعرفة العلمية الأساسية: روبرت كينيدي جونيور، وزير الصحة الجديد في الولايات المتحدة، معارض للقاحات! في العديد من الولايات الأمريكية، ظهرت مقترحات لحظر المركبات الكيميائية...
نحن أمام عصر من التراجع العلمي غير المسبوق، تسهله المعتقدات الأكثر جنونا. قد يبدو الأمر مضحكا، ولكنه في الحقيقة مخيف، لأن السذاجة أرض خصبة لكل أنواع التطرف.
الترامبية خطاب يفرض نفسه على أوربا بكل قوته ويهدد بمحو معظم قيمها. لقد وضع الخطر الإمبريالي معارك بالغة الأهمية مثل الحركة النسوية أو مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، في المرتبة الثانية: ما قيمة توربينات الرياح وإجازة الدورة الشهرية أمام إعادة التسلح القسرية في أوروبا؟
الإجهاض؟ محظور في الولايات المتحدة وفي كثير من الدول. الهويات والجنس؟ أسئلة غير موجودة. المناخ؟ المجد للنفط الرخيص. الهجرة؟ غير قانونية!
اليمين المتطرف؟ عندما نستخدم كلمات ونفس تعبيرات اليمين المتطرف في وسائل الإعلام، فإن الناس يصوتون لليمين المتطرف. في فرنسا يتغازل الوسط واليمين الليبرالي مع اليمين المتطرف، أما اليمين الديغولي فقد اختفى تقريبا، وبالنسبة لليسار فإنه منشغل للغاية بمشاحناته المتواصلة، فليس لديه أي رؤية قادرة على إثارة ولو لمحة من الحماس: إنه يعبر عن سخط لا طائل من ورائه. كما أن مطالبته بفرض الضرائب على الأغنياء هو في الحقيقة شعار، وليس خطابا تحرريا.
وبالتالي، إن الهجوم هائل. فماذا يمكن فعله؟
لقد ترسخت فكرة القوة التي تمزج بين الذكورة وعودة الدين أو التدين -بمفهومه الخاطئ- والإمبريالية والإيمان التكنولوجي ورفض المعرفة العلمية. هذه الرؤية مبنية على تقديرات تقريبية، بل وعلى الأكاذيب. إنها مسألة غير عقلانية، لكنها تكتسب المزيد من المؤيدين كل يوم، للأسف الشديد. كل شيء يشير إلى أن الأمر سيستمر لفترة طويلة. ولكن بفضل المؤسسات الأميركية، سيكون للقيم الليبرالية وقت إضافي قصير: حيث سيتم الطعن في العديد من قرارات دونالد ترامب في المحاكم.
إزاء هذا التسارع التاريخي، تبدو أوروبا أكثر عجزا لأنها غير قادرة على التحكم في تقويم لا يمكن التنبؤ به على الإطلاق. ماذا يمكنها أن تفعل؟ عدة سيناريوهات ممكنة: "التبعية السعيدة"، مثل تلك التي تتعلق بقضم الأراضي: جرينلاند من قبل ترامب، ودول البلطيق من قبل بوتين. وعلى الرغم من هذا، لا يجب تجاهل فرضية أن تجعل هذه الأزمات أوروبا تتحد. لا شيء يمنعني من تخيل سيناريو تطويرها لدفاع مشترك حقيقي وسياسة اقتصادية قادرة على الرد على الضربات التي يوجهها لها خصومها، وعلى رأسهم شريكتها الخصم، الولايات المتحدة.
تبدو مكافحة التضليل والمؤامرة أكثر صعوبة، حيث تمنحها شبكات التواصل الاجتماعي طابعا وبائيا: إن التأكد من المعلومات بحاجة إلى إجراءات طويلة ومملة، في حين أنه يتم نشر الأخبار الكاذبة بسرعة. فهل ينبغي وضع قيود أو حتى حظر شبكات التواصل الاجتماعي؟ ربما، لأن إكس -مثلا- (تويتر سابقا) التي يملكها إيلون ماسك، ويستخدمها لزعزعة استقرار الديمقراطيات الأوربية! كما أن إن استخدام البرلمانيين الأوربيين لوسائل التواصل الاجتماعي ليس محزنا فحسب، بل خطير أيضا، لأنهم لا يستخدمونها بغرض تأجيج حوار ديمقراطي، بل لإثارة الصراعات. لقد بدأت منذ مدة حرب المعلومات والأكاذيب. يعد تقييد وسائل التواصل الاجتماعي أو منعها فرصة لأوروبا لإظهار أنيابها. حتى لو كان هذا يتعارض مع مفهومها للحريات، فإن السؤال يستحق أن يُطرح.
أرى أن التغيير وإعادة البناء وتحرير النفس من خطاب وكلمات اليمين المتطرف، مهمة تقع على عاتق ما تبقى من الوسط واليمين المعتدل واليسار. ستكون مهمة صعبة، لأنهم سيضطرون إلى مخاطبة جمهور عدائي، مدمن على المواجهة العقيمة، جمهور بمثابة وقود للعاطفة والفورية. سيكون لزاما عليهم تناول كافة المواضيع، السهلة منها(هل يوجد أي منها؟) والمعقدة، لكي يجمعوا الأجزاء المتناثرة من قيم أوربا المشتركة.
وسوف يتضمن هذا العمل تجديدا عميقا للسياسيين، وسيكون من الضروري العمل على تطوير الحوار من أجل استعادة حيوية الديمقراطية.
#وليد_الأسطل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل سيفي ترامب بوعده ووعيده؟
-
تعليق عدم التصديق
-
رواية الخوف من النور.. دوجلاس كينيدي
-
ثلاثة كتاب كبار أدركهم الموت قبل نوبل
-
وعاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض
-
هل ستصبح كندا الولاية الأمريكية 51؟
-
مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية كما أراه
-
رواية قبل أن تختفي.. ليزا جاردنر
-
عن رواية قصة خرافية.. ستيفن كينغ
-
ستيفن كينغ والأدب الخفيف
-
عن رواية حجر القمر.. ويلكي كولنز
-
خواطر
-
فرانك.. من مجموعتي القصصية شيء مختلف
-
قصة بعنوان توم. من مجموعتي القصصية (شيء مختلف)
-
الناقد عمار بلخضرة يكتب عن شيء مختلف
-
صباح مقاطعة شامبانيا (فرنسا)
-
من سجل تجاربي ٣
-
مشيناها خطى كتبت علينا
-
الناقد الأستاذ عمار بلخضرة يكتب عن رواية -سقوط-
-
من سجل تجاربي ٢
المزيد.....
-
وصول وفد حماس إلى القاهرة لمتابعة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النا
...
-
الملياردير الإمارتي حسين سجواني يتحدث لـCNN عن علاقته بترامب
...
-
الكرملين يعلن عن أول اتصال هاتفي بين بوتين والشرع
-
مصادر لبي بي سي: قمة عربية خماسية في الرياض قد تعقد الأسبوع
...
-
بعد تهديدات ترامب.. خامنئي يطالب بزيادة دقة الصواريخ الإيران
...
-
ألمانيا تقرر المشاركة في البعثة الأوروبية لمراقبة معبر رفح
-
الخسائر الأوكرانية في محور كورسك تقترب من 60 ألف جندي
-
ترامب يلتقي الأمريكي المفرج عنه مارك فوغل
-
أقارب الرهائن الإسرائيليين ينصبون خياما أمام مقر نتنياهو في
...
-
تعزيزات عسكرية سورية تنتشر بالقرى الحدودية مع لبنان
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|