|
توريق الصورة القصصية ومدافعة اليأس
خالد جودة أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 8250 - 2025 / 2 / 11 - 09:52
المحور:
الادب والفن
أول ما يلتقي القارئ مع قصة "الصرخة" بقلم د. بهيه كحيل، العنوان الذي يحمل المغزي الرئيس للقصة، ويحيل إلى مأساة كائنة بها، والصوت عموما يمكن اعتباره أمرا حسيا أو معنويا حسب السياق، فالصوت في حقيقته ظاهرة فيزيائية يمكن دراستها وقياسها، باعتباره موجات تنتقل في الهواء، ويمكن اعتباره معنويا في حالة استعماله رمزا معبرا عن العاطفة والفكر. والصوت عبر "ثريا القصة" التي تشرق على النص في عليائها، ليس صوتا عاديًا لكنه صوتا ينبع من الألم، وهو الميهمن على أجواء النص، والبطل الرئيس كما يتضح من الحبكة. "الصرخة" إنسانا جوالا يصنع المد الحركى للحدث القصصي، بالتالي النمط البلاغي قائما على التجسيم (إيصال المعني المجرد مرتبة الإنسان في قدرته واقتداره)، كما أن هذا النمط الرمزي قائما على الأنسنة بطبيعة المغزي القصصي. جاء الاستهلال القصصي متوترا مشتملا على صور معنوية جائحة، وزاخرا بنمط نفسي يحتوى الصور الشمية (رائحة العفونة والتراب)، والبصرية (الضوء الخافت الصادر من مصباح صغير، الكراسي المتهالكة ...)، والسمعية (حشرجة ...). بالتالى حقق الاستهلال المشحون بمفرداته الكئيبة، يتكافل معه العنوان، عنصر الجذب المرغوب والمهم جدا لمحدودية مساحة القصة القصيرة. إذا الصرخة في المسار القصصي نائبا عن الإنسان المعذب، وهذا الحضور القوي يؤكده الغياب بالإغماء والفراغ والصمت، لذلك كان رد فعل الصرخة منطقيا وحيويا استجابة لمتطلبات تلك النيابة، وذلك عبر مراحل تراتبية تتحول فيها الصرخة من المادة الصلبة (اصطدمت)، إلى التنحيف (استدقت)، إلى الحالة السائلة (انسالت)، ثم في مرحلة لاحقة إلى التمدد والانتشار (التسرب عبر فتحات وليس فتحة واحدة في جدار قبر الطفلة). شكلت الفقرة الاستهلالية القصة الإطار (الأم)، التي نبعت منها تداعيات وتوريق قصصي مستدام –نتيجة الخاتمة التى تشكل عود على بدء- أصبحت "الصرخة" راويا وشاهدا على العصر، تمثل ذاتها، وتعبر عن محنتها، وتتضامن وتشهد على محن مناظرة بطريقة (ولولا كثرة الباكين حولى على قتلاهم لقتلت نفسي) وجهة النظر الصحيحة ساهمت في رسم البيئة القصصية، ومشهدية المكان الذي يحتوي الحدث، ويعنى المدافعة والرحلة في باطن الأرض (تزاحم ذرات التراب الناعمة، تدفع أحجارا صغيرة، تمر تحت درنات الزنابق، قرب حلزونات التربة وديدانها. وتتوالى تباعا القصص المؤسية، بداية من قصة الطفل النسخية من واقعنا العروبي البائس، لكنها ُطعمت بالمجاز (حملت الطفل غيمة) استعارة جعلت الغيمة بساطا للريح، الشخصية الأرى أيضا لها قدرات منطلقة جوالة ترتفع في السماء تحملها غيمة، وتتسلل في العتمات، وتتمدد في القبر. ثم تتنقل القصة الحركية إلى تفريع ثالث، وتورق ذاتها، وتستعين بالتناص الداخلي، واستنساخ المعنى (دمعة جذلان حارة لم تجف / الخيبة والمرارة المرسونة على وجوه الشباب الجثامين الحية) بالقصة تسع شخصيات بدأت بالرجل المظلوم، وصرختة البطل الرئيس، وألم الطفل الذبيح، وألق الحلم، والجثامين الحية، حتى النبات (اللبلاب والنخيل)، وجميعها تتكافل في انتاج المعني الإنساني بالتعاطف مع المقهورين، لذلك تكسب كائنات القصة بعضها بعضا حيوية وسرعة وفعلا لتبديل الواقع المر. القصة طبقا لسياقها ومغزانها الإنساني مفتونة بالمجاز الأولى (التجسيم)، فحفلت بالتركيم للصور الجزئية، وحشد المواقف الإنسانية التى تشكلها، وشيوع الذوات القصصية في الذات الأولى "الصرخة"، فمسار الحبكة بالتالى أفقيا حول ذات الثيمة (الصرخة الجوالة وأخواتها). هناك رأي يقول أن الأدب ليس ملزما بتقديم الحلول، وأن مهمته فقط طرح الأسئلة، لا تقديم الإجابات، بينما يرى الكاتب "محمد جبريل" أنه على الأديب إذا صور نقصا في بع مناحى المجتمع أن يهتم بأوجه علاج هذا النقص. والقصة اقتنت المفهوم الأخير، لذلك في رحلة المدافعة نبت الشعاع البسيط الذي تسرب مع شق برعم صغير لجذوره، فالتحمت به الصرخة وألق الحلم بصحبته، وتداعت الصورة القصصية في منحى جديد، حيث إرادة الارتفاع والعلو والنهضة منطقية (صرخة المظلوم المسموعة سبيلا للانصاف)، استدعت تلقائيا فكرة النخيل السامق. وجاءت مناجاة الذات القصصية "الصرخة" بدون مؤشرات لفظية (تسريد المناجاة) لتخبر عن التباين بين القبر وغمر الشمس لألق الحلم فوق ذؤي النخيل: "آه ما أجمل الحياة .. وما أشد الفرق" ويدعم هذا المنحى دائرية القصة، فالخاتمة تعود للبدء بطمر جديد للصرخة وقبرها، ورحلة متجددة للنهوض والبحث الشاق عن شعاع علوي، فالصرخة كلما حلت ارتحلت، لتدعم ثنائية النور والظلمة، والصباح والمساء.
#خالد_جودة_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-كانوبوس-: سردية التاريخ الفنتازي المثير
-
ملكة القلوب وجائحة الطلاق العاطفي
-
حرائق الروح الإنسانية
المزيد.....
-
ديفيد لينش سيد الغموض وأيقونة السينما السريالية
-
الفنانة هدي حسين تكشف أمر سحب الجنسية الكويتية منها بقرار أم
...
-
مفاجأة من والدة الممثلة السورية انجي مراد عن سبب وفاتها وابن
...
-
موت بالا هيقلب الأحداث.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
عشاق الإثارة والغموض أنتم على موعد مع الحلقة 180 من مسلسل ال
...
-
المفكر المغربي حسن أوريد: الاستعباد الطوعي نتاجٌ للكبوات الع
...
-
الفلسفة الغربية واختبار طوفان الأقصى
-
اختتام مهرجان فجر السينمائي بدورته الـ46 بطهران
-
تحويل رواية لكاتب روسي مشهور إلى مسلسل بمساعدة الذكاء الاصطن
...
-
شريان موسكو الرئيسي.. شارع تفيرسكايا ومعالمه التاريخية (صور)
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|