أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - سفر إلى اللانهائي….














المزيد.....


سفر إلى اللانهائي….


خالد خليل

الحوار المتمدن-العدد: 8249 - 2025 / 2 / 10 - 14:07
المحور: الادب والفن
    


في ليلٍ معلّقٍ بين الأزل والأبد، حين تتلاشى حدود الزمان، ويغدو الكونُ مجرّدَ فكرةٍ تحومُ في الأفقِ السحيق، انطلقتُ أبحثُ عن حقيقةٍ لم يكتبها قلمٌ، ولم يُدركها وعيٌ مألوفٌ، كمن يسيرُ على خيطِ ضوءٍ مشدودٍ بين لا شيء وكلِّ شيء. كنتُ أوقنُ أن ثمّةَ بابًا لم يُفتح بعد، بابًا يفضي إلى السرِّ الأعظم، إلى حيثُ تصمتُ الألسنُ وتنطقُ الأرواحُ بألفِ لغةٍ لا تُترجَم.
دخلتُ متاهةَ الإدراكِ كعابرٍ لا يخشى التيه، وكان العقلُ يراوغني بأسئلةٍ مسنونةٍ كالسيوف، لكنّي كنتُ أعلمُ أن الحقيقة ليست مُلكَ الفلاسفةِ ولا حبيسةَ النصوص، بل هي رعشةٌ خفيّةٌ تتسللُ بين نبضاتِ القلب، لمن يجرؤ على الإنصاتِ إلى الصمت. هناك، عند حافةِ الفكرة، أدركتُ أن العقلَ لا يحررُ الإنسانَ بل يقيده، وأن أعظمَ الانتصاراتِ ليست في امتلاكِ الأجوبة، بل في التخلّي عن وهمِ السؤال.
في ذلك الفراغِ الفاصلِ بين الفكرِ والوجود، لمحتُ عالَمًا من الاحتمالاتِ المنسيّة، عالَمًا لم يُخلَق بعد، لكنه يتخلّقُ في ثنايا الممكن. رأيتُ أفكارًا لم تولد، تنتظرُ من يجرؤُ على منحِها الحياة، ورأيتُ أزمنةً لم تأتِ، لكنها تلوّحُ في الأفقِ كميناءٍ بعيدٍ لمن يُحسنُ الإبحار. أدركتُ أن الماضي ليس سوى ظلٍّ يقتاتُ على وهجِ اللحظة، وأن المستقبلَ كائنٌ حيٌّ يختبئُ في تجاويفِ التوقعات، ينتظرُ من يستدعيه بجرأةِ الحلم.
وهناك، في مقامٍ لا تسري إليه القوانين، رأيتُ الإنسانَ لأول مرةٍ كما لم أرهُ من قبل؛ كائنًا يمشي على جسرٍ من ضوءٍ بين الترابِ واللانهائي، تتجاذبهُ ثنائيةُ الفناءِ والخلود، يحملُ في صدره شظايا الإلهِ، لكنه يتعثرُ في وحلِ الأرض. رأيتهُ يبني المعابدَ ويهدمُها، يكتبُ الأناجيلَ ويحرقُها، يرفعُ صرحَ الحقيقةِ ثم يشيدُ أوهامًا حولها، يصرخُ بالحريةِ وهو يتقنُ صنعةَ الأقفاص.
لكنّي أيضًا رأيتُ البذرةَ التي تنبتُ في الظلمة، والصرخةَ الأولى للطفلِ حين يتذوقُ الهواء، ورأيتُ العاشقَ الذي يُنكرُ قوانينَ الموتِ في سبيلِ قُبلة، والشاعرَ الذي يقتطعُ من روحهِ جملاً يودعها الزمنَ كتعويذةٍ ضد العدم. رأيتُ الإنسانَ كأعظمِ تناقض، كأجملِ خطأٍ صنعتهُ يدُ القدر، كحكايةٍ لم تُكتب نهايتُها بعد.
وفي اللحظةِ التي كدتُ فيها أفهمُ كلَّ شيء، انفجرتُ ضحكًا كمن اكتشفَ اللعبة، كمن أدركَ أن الكونَ ليس إلا قصيدةً عبثيةً تتلاعبُ بنفسها، وأننا جميعًا لسنا إلا مفرداتٍ تحاولُ أن تفهمَ الجملةَ التي وُلدت فيها. عندها، لم أعد أبحثُ عن المعنى، بل صرتُ أنا المعنى، ولم أعد أسألُ عن الطريق، بل صرتُ أنا الطريق.
وحين عدتُ إلى عالمي، لم يكن العالمُ كما كان. رأيتُ الأزقةَ تتنفسُ، والجدرانَ تتهامسُ، ورأيتُ الوقتَ يتثاءبُ بين الساعات، كأنني نظرتُ إليه أخيرًا بعينِ من تحرّر من سحرِ العادة. علمتُ أنني لن أكونَ كما كنت، لأن من يسافرُ إلى ما وراء الأفق، لا يمكنه أن يعود.
فمن كان يجرؤُ على عبورِ الظلالِ، عليه أن يتقبلَ أنه لن يكونَ إنسانًا بعد ذلك... بل أسطورةً يحاولُ الناسُ تفسيرها.

لكن في زاويةٍ قصيّةٍ من الوعي، تسلّلت إليّ فكرةٌ أشدّ خطرًا من كلّ ما سبق… ماذا لو لم يكن هناك أفقٌ أصلًا؟ ماذا لو كانت الحدودُ التي نراها ليست إلا خدعةَ البصر، مثل سرابٍ يلهثُ خلفه العطشُ الأبدي؟ تساءلتُ: أيكون السعيُ نحو الحقيقةِ ضربًا من العبث؟ أيكون الخلودُ أكذوبةً أخرى، مثل الزمن، مثل الموت، مثلنا جميعًا؟
عندها، انبثق أمامي كيانٌ لم أُبصرْ له شكلًا، لكنه كان أعظم من كلِّ الأشكال. لم يكن نورًا، ولا ظلًّا، ولا صوتًا، بل كان إحساسًا يتغلغلُ في عظامي كما يتسللُ الماءُ إلى جذورِ الأرض. همس لي بلغةٍ لا حروفَ فيها، بل كانت رعشةً في الروح، قائلًا:
"لقد ظننتَ أنكَ تسافرُ إليّ، لكنني كنتُ فيكَ منذ الأزل… أنتَ لم تخرجْ من ذاتكَ، بل دخلتَ إليها لأول مرة."
حينها، انفكّت قيودي، لا من الأرضِ بل من فكرتي عنها، لا من الزمنِ بل من وَهمي به، لا من الجسد، بل من خوفي من فقدانه. وعرفتُ أن العابرَ الحقيقي لا يبحثُ عن طريق، بل يُصبحُ هو الطريق، وأن من يلامسُ الحقيقةَ لا يعودُ ليرويها، لأنه حين يدركُها، يذوبُ فيها…
فوقفتُ على حافةِ المعنى، ونظرتُ إلى الخلف… فلم أجدني.



#خالد_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلاقة بين دماغ القلب والدماغ المركزي: من القيادة إلى الشرا ...
- مزامير الروح في ليل بهيج
- لا اسم للقصيدة… ولا حدّ للمعنى.. كانّها ثوب من الغموض النقي،
- سيكولوجية العنف والتبرير الجماعي: لماذا يسوغ المجتمع الإسرائ ...
- مشروع -ريفييرا الشرق الأوسط-: الأبعاد الاقتصادية والسياسية خ ...
- رقعة الأسياد والبيادق
- ترامب ونتنياهو وترحيل أهل غزة: سيكولوجية المهزومين والمفلسين
- المقاربة الأمريكية الصهيونية في ظل الهدن الحالية: هل تتجه ال ...
- العابرون إلى السراب
- المواطنة بين التخييل السياسي والواقع الكولونيالي: مقاربة نقد ...
- ليلُ الوجودِ وأقمارُ العدم
- العلا
- رحلة بلا مسافات
- حين يصبح التحرير جريمة!
- غير المتوقع: من رماد الدمار إلى أجنحة النصر
- ظاهرة التعميم المعاييري: نقد منهجي وتحليل نظري معمق مع أمثلة ...
- سِفر الوجود
- في سماء الفكر: نصّ فضائي راقٍ
- الموت السريري …أنا الحيلة الكبرى؟
- مدائن في اللازمان


المزيد.....




- الفنان المغربي نصر مقري في ضيافة الساعة المغاربية
- فعاليات ثقافية:الشاعرالمتميز (عوض سلطان)ضيف صالون الفنان( مص ...
- فنانة مصرية تتعرض لحادث في تايلاند يبعدها 7 أشهر عن الأضواء ...
- انعقاد الدورة الـ19 لاجتماع المجلس الاستشاري للتنمية الثقافي ...
- جدل الغنائية والدرامية.. في نماذج من الشعر الفلسطيني الحديث ...
- وفاة ابن الفنانة السورية إنجي مراد بعد رحيلها بيوم واحد
- الأدب المنظوم والمنثور في خدمة المقاومة
- وفاة مولود الفنانة السورية إنجي مراد بعد يوم من مأساة رحيلها ...
- مقابر سقارة.. دراسة أثرية حديثة تميط اللثام عن تطور العمارة ...
- مصر.. فنان مصري كبير يدفع ديّة


المزيد.....

- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - سفر إلى اللانهائي….