|
فصل من رواية - المزاحمية - لــــ - سمير الأمير -
سمير الأمير
الحوار المتمدن-العدد: 8246 - 2025 / 2 / 7 - 18:51
المحور:
الادب والفن
كل يوم عند الفجر يدق الشيخ عبد الله السعدي بعصاه الشباك قائلا: - الصلاة الله هداكو فاذهب لأوقظ أبو حسين ونتوضأ بمياه ساخنة من السخان المثقوب، فالطقس في هضبة نجد شديد البرودة ليلًا، وأنا لم أعد أحتمل "غتاتة" هذا الرجل، وإن ادعينا أننا مسافرون وقررنا مواصلة النوم، يظل الرجل يقول في مكبر الصوت "الصلاة خير من النوم حتى يطير النوم من أعيننا". توضأنا وصلينا مع الشيخ عبد الله بالمسجد، لم يتجاوز عددنا عشرة مصلين، وما إن ختم الصلاة حتى بادرني: - اسمع يا استاد علي، تراني باسير على إخواني في الشرقية. حين قال ذلك تخيلت لوهلة أنها محافظة الشرقية، ولكني تذكرت أننا في المملكة وأن الشرقية هنا تعني الدمام والخبر والمنطقة الواقعة على شاطئ الخليج و بينها وبين نجد مسافة كبيرة ويتحدث أهل نجد عن معظم العائشين هناك باعتبارهم كفارا وقطعا لم يكن الشيخ عبد الله ذاهبا للكفار فلابد أن إخوانه نجديون يعيشون في المنطقة الشرقية - وماله يا شيخ عبد الله تروح وتيجي بالسلامة.. - أصبر يا رجال.. أنا ما اقدرش أأتمن حد على المسجد غيرك.. ترى انت حتبقى الإمام محلي لغاية ما أعاود.. وترفع الآذان والإقامة وتصلي بالديرة وأهم حاجه صلاة الفجر. سمعت هذا الكلام فنزل على قلبي كالحسرة، فالروماتيزم يكاد يفتك بعظامي وعندي مشاكل في فقرات العنق وضيق في القنوات العصبية وأستيقظ الصبح دائمًا لأجدني متيبسًا تمامًا، والآن يطلب مني هذا "المطّوع" أن أرفع الآذان خمس مرات وأصلي إماما بالناس؟ - يا شيخ عبد الله عندك أبوحسين أهوه، رجال صعيدي على كيفك، ودينهم أحسن مننا، إحنا بتوع بحري معظمنا حرامية وولاد رقاصات! فرد أبو حسين بسرعة: - يا شيخ عبد الله إحنا صعايدة ونصنا قتالين قتلة!! فحسم الشيخ الأمر: - لا والله ما حد مصلي بالناس غيرك يا علي وهوه أسبوع وأعاود يا رجال. وقد كان لصاحب القصور ما أراد، تحولت بأوامر الشيخ عبد الله السعدي إلى إمام ومؤذن، وأصبحت الشيخ علي! وذات يوم، وأنا أختم صلاة العصر وأواجه المصلين كما يفعل الشيوخ، رأيت الشيخ عبد الله السعدي، كان الرجل قد جاء بعد بداية الصلاة فصلى ورائي، قلت: - الحمد لله على سلامتك يا شيخ. انصرف المصلون وبقيت أنا وأبوحسين فابتسم الشيخ عبد الله وقال: - تراك البارحة الفجر نسيت تقول في الآذان "الصلاة خير من النوم". كنت أعرف أن هذه العبارة تتم إضافتها في آذان الفجر فقط، لأن النوم يصبح أكثر متعة في هذا التوقيت سواء بطبيعته أو بجهود إبليس، الله وحده يعلم، ولكن من أين علم الرجل أنى نسيت أن أقول "الصلاة خير من النوم"، إن كان مسافرًا في الشرقية؟ - يا شيخ عبد الله يعني انت كنت نايم في البيت سامعني؟ ابتسم الرجل ولم يرد، وذكرتني فِعلته بما فَعلته وأنا طفل، حين كنت أختبىء من الشيخ عبد الرحمن وهو يمر علينا نحن تلاميذ منشأة المالكي ليأخذنا معه لصلاة الفجر، بعد أن يكون الشيخ محمد الشبراوي قد رفع الآذان من فوق المأذنة إذ لم تكن مكبرات الصوت قد دخلت الدين الإسلامي بعد، فضلا عن قِلتها ولم نكن نراها إلا في أفراح القادرين، إذ تتبادل الفلاحات خبر قدومها بفرح بالغ وكأنها البشرى، فمثلا تزف إحداهن الخبر لبقية النسوة على " الموردة " أثناء غسيل الحلل أو ملء البلاليص فتقول: - افرحي يا ملدوعة انتي وهيه حنهيص الليلة عشان الجماعة أهل العريس ، جايبين "مكنة غُنا" كان هذا اسم مكبر الصوت قبل انفتاح الرئيس المؤمن الذى جعل في كل مسجد ماكينة غناء لرفع الآذان! وذات مرة وأنا أذاكر للثانوية العامة مع جاري كان ابن اخته الطفل الصغير ينام في نفس الغرفة وانطلق حوالي أربعة ميكرفونات يرددون واحدا تلو الآخر "الصلاة خير من النوم" فاستيقظ الطفل مذعورا وتمتم: - خير من النوم إيه؟ طب ما إحنا عرفنا هادا وعرفنا هادا" وواصل نومه مبتسمًا كملاك، تمامًا كما فعل الشيخ عبد الله السعدي ليلة أمس.
كان الشيخ عبد الله السعدي من الجيل القديم الذى شهد أيام الفقر ومعظم من ينتمي لجيله يرون مصر كما نراها نحن "أم الدنيا" ويعشقونها مثل أهلها، لم تكن الدراسة قد بدأت، وفي هذه البلاد لا مسرح ولا سينما ولا تلفزيون بالمعنى المصري، ولكن لديهم تلفزيونهم الخاص الذي إن تحملت مشاهدته لساعة فأنت في الحقيقة بطل في الصبر وفي القدرة على التحمل، ولم تكن الفضائيات قد انتشرت بعد في البيوت، ولكنها ستنتشر كما انتشر التلفزيون، بالرغم من وجود فتوى معلقة على جدران المدارس وعلى أعمدة المساجد مشهورة اسمها "فتوى تحريم التلفاز ". كانت أطباق الساتلايت في الفنادق فقط، واستمر هذا لمدة عام واحد قبل أن تنتشر ويصبح فوق كل بناية طبق كبير جدًا يكاد يشبه محطة الأقمار الصناعية في منطقة المعادي بمصر، وكان يلزم لكل واحد 200 ريال لكي يحجز غرفة في فندق ويسهر مع "الإم بي سي" لم يكن هناك ما يدفعنا للخروج من البيت في تلك المدينة الصغيرة إلا الصلاة وكانت حلوة بالنهار، بمنتهى الصراحة، إذ بعدها يمكن أن نجتمع مع المصريين والتوانسة والفلسطينيين وغيرهم ونتبادل الأخبار والنكات، أما في الفجر فكانت صعبة وبالتعبير القرآني "كبيرة " على "اليساريين" من أمثالي والعياذ بالله. بعد صلاة العصر يوميًا، كنا، الشيخ عبد الله، ومستأجري قصوره نجلس لكى "نسولف"، ذات مرة في شهر أكتوبر، لا أذكر مَن مِنا فتح سيرة الحرب فأردت أن أجامل الشيخ عبد الله السعدي بالثناء على الملك فيصل كما جاملت البروفيسير الذي أجرى معي المقابلة بامتداح الخديوي إسماعيل في بداية الرحلة، فقلت: - اسمع طال عمرك يا شيخ عبد الله، إحنا في مصر بنحب جدا الملك فيصل عشان شجاعته ووقفته معانا في حرب أكتوبر ومنع البترول عن الغرب، وعشان قال: "إحنا عرب حنولع في البترول ونعيش ع التمر واللبن" كنت أعلم أنني أمارس قدرًا من النفاق، فلم تنمح من ذاكرتي أبدًا قصة خلافه مع جمال عبد الناصر، غير أنه في واقع الأمر، لم يكن نفاقا خالصًا بنسبة مائة بالمائة، إذ تربطني بكل أهل الجزيرة صلة بعيدة، ربما منذ قدوم عمرو بن العاص إلى بلادنا حسب رواية البعض وربما منذ انهيار سد مأرب حسب رغبتي في تدعيم انتمائي لمصر ولأصولي العربية في نفس الوقت، فأمي أيضا من ميت عاصم ومن نسل " مولانا الشيخ عارف " ويعود نسبه إلى آل البيت بحسب ما يرددون في القرية، في الواقع كنت دائما أسيرًا لحالة التناقض في كل شيء، أنتمى لعبد الناصر ولاشتراكيته وأفتخر في نفس الوقت أن جدودي كان لديهم أكبر مساحة من الأراضي في منشأة المالكي، أتحدث عن حرية المرأة، وداخلي زهو وافتخار بجدي عبد البديع المالكي الذي تزوج من تسع نساء. بكل حال لم يكن مدحي للملك فيصل نفاقًا كامل الأوصاف، أو ربما كان نفاقًا، وأنا أقول هنا ما أقول لأبرره، فالمتناقض عائش دائمًا على التبرير، وليس عندي شك في كوني رجلًا مزدحما بالتناقضات. المهم أن الشيخ عبد الله ابتسم وظهرت على وجهه علامات الرضا والسرور وقال: - والله يا علي إنك رجال ما عليك زود وتفهم في السياسة.. هاده الملك فيصل طال عمرك عبقري مرة، وكان دوره في التخطيط لحرب أكتوبر كبير واجد، تراه رجّال ذكي ووارث مهارة التخطيط للمعارك من أبوه جلالة الملك عبد العزيز . سمعت هذا فهمست وحرصت على ألا يسمعني: - لا كده كتير بقى يا سعدي. ونظرت لوجوه الإخوة المتعاقدين فوجدتهم يبتسمون ابتسامات عريضة سطحية بل بلهاء، ولم يبد عليهم أية علامة للانزعاج من مبالغات الشيخ عبد الله، فقررت أن أكون عاقلًا، فصحيح أن هذا الرجل طيب، لكنه مطّوع في النهاية، وكثيرًا ما يدخل الناس للصلاة بضربهم على مؤخراتهم، ويبدو أن الصمت والابتسامات شجعت الرجل فقال : - ترى باقول لكم على السالفة بين المرحوم أنور السادات وأخيه جلالة الملك فيصل واضطجع الرجل على شقه الأيمن وواصل حديثه مستمتعًا: - صلوا على محمد...يوم من الأيام جه فخامة الرئيس أنور على المملكة يزور الملك فيصل ويتشاور معاه وبالمرة يسوي عمرة ولا عمرتين، وعُقب الغدا الملك فيصل، ترى كان عنده فراسة رحمة الله عليه، صار يتطلع في وجه أخيه فخامة الرئيس أنور، وقام سأله: "بيك شي يا أخي أنور؟، باين على وجهك الحزن، إيش تبي؟، قول ولا تعول هم، تبي أسلحة، تبي دراهم؟ كل طلباتك مجابة يا طويل العمر" الرئيس أنور.. اتشجع وقال والله يا جلالة الملك عندي مشكلة في الحرب.. وهي معطلاني عن بدء المعركة.. جلالة الملك فيصل قال: "قول يا أنور لا تعول هم"، السادات قال: "ترى يا جلالة الملك إحنا خططنا كل شي وعملنا حساب كل شي إلا حاجه واحده ما ندري ايش نسوي فيها؟" قال جلالة الملك: قل يا رجال ما عليك انت. قال أنور: سم يا جلالة الملك، إسرائيل وانت بكرامة عاملة قدام خط برليف ساتر ترابي عالي وكبير، وما ندري كيف نفتح فيه ممرات لعبور المدافع والدبابات؟ وكان طال عمرك، الملك فيصل زي ما قلت قبل، ذكي جدًا، فكر شوي، ما يجي دقيقتين، ثم تبسم لأخيه أنور، وقال له: "أبشر بسعدك، لا تعول هم، أتحلت المشكلة، السادات قام على حِيله فرحان.. قال: "أرجوك يا جلالة الملك قول لا تشوقني?" جلالة الملك قال: "بسيطة يا رجّال، ما عندكو "هوز" كبير؟" قال السادات:"إيه، إيه عندنا طال عمرك مصنع خراطيم، قال جلالة الملك: "خلاص سلطوا المويه ع الرمل حق الساتر ينفتح ليكو الطريق"، وكانت هادي الفكرة حق الملك اللي مكنت الجيش المصري من إتمام العبور. تأملت للمرة الثانية في وجوه عباد الله المأمومين، فلم تنم عن أي اعتراض، فقمت وقلت معترضًا ولكن وأنا أبتسم: - والله حرام عليك يابا الشيخ عبد الله... "هوز" إيه وخرطوم إيه ومية إيه؟ انتو حداكو ميه أصلا، لا ، لا، لا كبيرة دي، هوه خد موقف جامد في الحرب آه، على عينا وراسنا لكن مش للدرجة دي؟ كنا في بداية التسعينيات في عز أيام ما سموه الصحوة الإسلامية ولم تكن قد انتشرت حكاية اللواء "باقي" واستيراد ماكينات ضخ المياه باسم وزارة الزراعة تمويها على العدو الصهيوني، من كان سيسمح لهذه الحكاية عن عبقرية مسيحي مصري أن تنتشر?، حتى أنا الذي لم تشملني الصحوة الإسلامية لم أكن أعرفها.. نظر الشيخ عبد الله لي وقال فيما يشي بلهجة بين الغضب والعتاب: -اجلس يا علي، تراك جاحد. ( الناشر-دار نفرتيتي - القاهرة -22 ش عبد الخاق ثروت- الدور الأول )
#سمير_الأمير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديوان -ترانزيت- للشاعرة رنا عبد السلام
-
حكايات من جنازة بوتشي بين الصدام والتعايش المشترك
-
يا إلهي
-
دواعي السعادة... قصة قصيرة
-
لايوجد أقل من ذلك!!
-
ما اسم هذه القرية؟ قصة قصيرة
-
الرقابة وسنينها...
-
أزمة السويس ( من بحث الدكتور كريم عبد العزيز غازي المقدم لقس
...
-
أزمة السويس ( من بحث الدكتور كريم عبد العزيز غازي المقدم لقس
...
-
حجاب الشاعر أحمد الشهاوي
-
قصص - أمانى فؤاد - : سرد الدفاع عن المرأة والحياة
-
أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره
-
جاليري 68: عمر قصير.. لماذا؟. الجزء الخامس والأخير.. ترجمة س
...
-
ما اسم هذه القرية؟
-
جاليري 68 – عدو للتراث الأدبي؟ الجزء الرابع من دراسة اليزابي
...
-
طموحات -جاليري ٦٨ الجزء الثالث من دراسة /اليزابيث
...
-
جاليري ٦٨(الجزء الثاني)
-
جاليري ٦٨... اليزابيث كندل
-
الحنان.. قصة قصيرة
-
يا إلهي.... شعر/سمير الأمير
المزيد.....
-
قناة RT العربية تعرض فيلم -الخنجر- عن الصداقة بين روسيا وسلط
...
-
مغامرة فنان أعاد إنشاء لوحات يابانية قديمة بالذكاء الاصطناعي
...
-
قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائ
...
-
في قطر.. -متى تتزوجين-؟
-
المنظمات الممثلة للعمال الاتحاديين في أمريكا ترفع دعوى قضائي
...
-
مشاركة عربية في مسابقة ثقافة الشارع والرياضة الشعبية في روسي
...
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|