فرات المحسن
الحوار المتمدن-العدد: 8246 - 2025 / 2 / 7 - 14:08
المحور:
الادب والفن
كان بيتنا قريباً من حّمام السوق الكبير بمائتي خطوة لا أكثر. أبي عامل الصيانة في مرآب "الأمانة"، مغرم بالذهاب إليه كل يوم، ويسعد بمرافقتي له، لذة العنقود، مثلما يسميني. رغم كل الإغراءات التي يقدمها لي، كنت أتهيب المكان ويتعبني مجرد التفكير فيه. جدرانه العتيقة، ظلمة الممر الضيق، الأنابيب القديمة المنداة،الأرض الكلسية الصفراء، البخار الذي يغطي ملامح المكان، قطرات الماء المتساقطة برتابة من جوف القبة، الرجال العراة وصدى الأحاديث، كأنها صادرة عن جبّ عميق.
كان يوماً شتائياً حين خرجنا من الحمام. ولكون جسدي الصغير ما زال يحمل دفء الحمّام، شعرت بالضيق من الملابس الثقيلة التي دثرني بها أبي. وددت التخلص منها، ولكن أبي كان يسحبني بعجالة للوصول إلى البيت.
عند المنعطف نادوا على أبي باسمه وبصوت حاد كأنه قادم من جوف قبّة الحمّام، توقفنا. ثلاثة رجال ينتظرون في العتمة. التزم أبي الصمت ثم مد يديه ورفعني ضاماً جسدي إلى صدره. شعرت بارتعاش جسده عندما تحركوا نحونا. توقفوا على بعد خطوات، كانوا بملابس غير معتنى بها، يحملون بنادق مصوبة نحونا. بادرنا صاحب النظارة الطبية السميكة.
ـ حمّام العافية .. دع الصبي يذهب إلى البيت .
تشبثت يداي برقبته، ولكني شعرت أن يديه تحاولان إعادتي إلى الأرض بصعوبة. طالعت بفزع وجهه المتحجر. نظرت عميقا في عينيه الكلسيتين. قبـلني ولم ينبس بكلمة، فوجدت جسدي ينسل من بين يديه، فدفعني من كتفي ففهمت.
هرولت خائفاً أتـلفت..أجهشت أمي بنحيب رافقها لليال طوال دون عودة لأبي، بعد أيام جهزت أمي حقيبة وضعت فيها ملابسا وطعاماً، وغادرت الدار بعد أن أوصت أختنا حوراء بي وبأخي الصغير وائل. لم يطل غياب أمي، وحين عادت بعد يومين، بكت بحرقة مع نسوة من أقاربنا، وكانت تلهج طيلة الوقت بعبارة واحدة، رمضان الأسود عليكم. لم أكن لأفهم كنه عبارتها تلك، ولكن بعد حين عرفت أن لا عودة لأبي.
#فرات_المحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟