|
التحرر (٣_٤_٥_٦)
الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي
الحوار المتمدن-العدد: 8244 - 2025 / 2 / 5 - 00:49
المحور:
الادب والفن
_٣_
كان بحوزتي مجموعة من المجلات الثقافية والكتب الدينية حين خرجت من الكنيسة في ذلك اليوم الربيعي من عام ٢٠١١ وجلست في البهو على مقعد خشبي أنضدها تحضيرا" لنقلها إلى الغرفة المعدنية التابعة للدير ،والتي خصصتها لهذا المشروع الذي اقترحته على القس بأن أجعل من تلك الغرفة ملاذا" للقراء الذين يرغبون كل الرغبة بالقراءة المكثفة لكن لم يتسن لهم ذلك ليتمكنوا فيها من استعارة ما يطيب لهم من الكتب. جلست أتأمل قبة الكنيسة بعد أن أرهقني التعب ،كان العشب نديا" في الحديقة المجاورة للكنيسة ومثله أنا كانت عيناي . أخرجت الكتاب المقدس من حقيبتي ، وقرأت أول ما ظهر لي : ((سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مظلما" )). ثم حملقت مجددا" بالعشب الندي ،وفكرت في كم كنت على الدوام بعين بسيطة وكم أن أحلامي وطموحاتي لم تتخط خدمة هذا المكان ،وكم أنني كنت مكتفية وراضية على الدوام . ورحت أتساءل من هم ياترى أولئك الأشرار الذين تحلو في أعينهم الدنيا إلى الحد الذي يغدو معه عالمهم مظلما" وأجسادهم ملعونة ؟! لم يكن ليخطر في بالي هكذا سؤال من قبل ،سوى بعد أن عملت بين الكتب فقد كنت أظن على الدوام أن كل البشر طيبون ويتبعون ما جاء به الإنجيل ،لكن الكتب أخبرتني بأشياء لم أكن لأتوقع أنها موجودة . رأيت أطفالا" ينسقون أكاليلا" من زهر ،استعدادا" لجنازة ربما ،ثم تيقنت من ذلك حين سمعت أحدهم يقول بأن تابوتا" يحمل شابا" في مقتبل العمر سيصل عما قريب . صلبت على وجهي مذعورة ،ورحت أتمتم :يا رب ،شاب في مقتبل العمر ،لماذا ليس شخصا" في عمري ؟! أنا الخمسينية التي لم تكتشف بعد شر هذا العالم ،أليس حريا" بي أن أرحل أنا بدلا" عنه هكذا ناصعة الإيمان بعد أن خدمت هذا الدير لسنوات ؟ انتفضت حينها عن المقعد وشعرت برغبة كبيرة في الخروج إلى الشارع المجاور . (الزمن ليس خطا" مستقيما" ،إنه أقرب إلى المتاهة ) قرأت ذلك في ديوان شعري لشاعر سويدي يدعى توماس ترانسترومر . وهذا ما شعرت به حين خطوت أولى خطواتي في الشارع المحاذي للكنيسة المؤدي إلى الجامعة ،حين عدت تلك الفتاة التي توفيت والدتها حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها ،ولم تجد سوى الدير ملجأ لها ،متخلية عن حلمها في الدراسة في الجامعة . ساقتني قدماي نحو الباب الرئيسي للجامعة ،كان ثمة شجرة ضخمة هناك لطالما اعتدت على الجلوس في ظلها إلا أنني اليوم كنت أراها مختلفة ،فقد شعرت بأنني شابة في الثلاثين من عمري و أطلقت لخيالي العنان بأن تكون هذه الشجرة هي التي ستزهر لي بأحلامي الضائعة مجددا" . لكن سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس ،حين خرجت من عالمي التخييلي للواقع مجددا" حين سمعت فتاة بقربي تخبر صديقتها :(لقد أخذوهم إلى وجهة مجهولة ،أتعتقدين أنهم سيعودون أحياء؟) . (احمدي الله أننا كنا في قاعة المكتبة المركزية ،ولم نسمع شيئا" ،لكنا اعتقلنا معهم ) . حين سمعت عن اعتقال طلاب جامعيين من قبل أمن الأسد ،ركضت مسرعة مجددا" باتجاه الدير ،متأكدة تماما" بأنني لا أرغب في العودة بالزمن إلى الوراء لا لأكون طالبة جامعية ،ولا حتى للتفيؤ بشجرة عجوز ،وأنني لا أرغب مطلقا" في معرفة شيء عن عالم الأشرار ،وأن تأمل العشب الندي وتوزيع الكتب في الغرفة المعدنية التابعة للدير ،أشياء أكثر جدوى ونفعا" .
_٤_ ستصبحين كاتبة مبدعة … قالت لي مدرستي ذات يوم معلقة على موضوع تعبير كتبته في الصف الثالث على حسب ما أذكر .. وفي الحقيقة أصبحت كذلك ،بحسب رأي المجتمع الأدبي المحيط بي في الجامعة والصالون الثقافي الذي أرتاده ،وبين طلابي الجامعيين . إلا أنني وحيدة ،كما كل الكاتبات أو بالأحرى كما كل الشاعرات . وكما كل الشاعرات أحب الاستماع إلى الأغنيات الرومانطيقية ،فمثلا" يأسرني مروان خوري ،وكمثل كل أنثى تستهويني الملابس والحلي ولدي خزانة تكتظ بالأزياء ،وصديقات كثر ،جميعهن أصبن بالاكتئاب ذات مرة . كنت منهمكة بمشروع كتابة سيناريو فيلم قصير حين بدأت الثورة عام ٢٠١١ . حينها أفلتت كل ما بيدي وتركت خلفي كتبي المبعثرة وفوضى سريري حيث أعيش وحيدة ،ونزلت لأتظاهر إلى جانب أهل بلدي. كنت قد ضجرت من السكوت على نظام الأسد الديكتاتوري ،ولم ينفع معي بعد تأمل الغروب من فوق سطح منزل أو قضاء العطلة في مزرعة أو حتى تضييع الوقت وتبديد غضبي في العيادات التجميلية ،أو في معارض الكتب . نصف حياة عشتها قبل الثورة مع أم تقضي معظم وقتها في الصلاة لأبنائها الثلاثة الذين اختاروا المنفى موطنا" لهم بعد ضغوطات أمنية عليهم وإغلاق مراكز صحفهم الخاصة التي افتتحوها واعتقال معظم الصحفيين العاملين فيها . نصف حياة مع نصف أم مشتتة بين الوطن والغربة ،بين الذكريات والحاضر ،وبين الغضب والتعايش . لحسن حظي أنني لم أعتقل في المظاهرات كغيري ،أو ربما لسوء حظي فلو اعتقلت لما رأيت ما رأيته من مشاهد مفجعة عن النازحين باتجاه المخيمات والأطفال الحيارى خلف أسيجة الحدود . وحين لم نجد لصراخنا أي نفع ،صرنا نلتقي نحن أصدقاء الطفولة الذين وللصدفة المحضة غدونا كتابا" ،صرنا نلتقي في المقاهي الثقافية ونستذكر حفلات تخرجنا من المراحل التعليمية الأولى في المطاعم الريفية حين كنا نقطن الأرياف ونعيش بكل هدوء وسذاجة . تعلمت اللغة اليابانية ،وقمت بترجمة رواية جميلة لياسوناري كاواباتا تدعى (ضجيج الجبل) ،الذي يشبه ما أنصت إليه في وحدتي و خنوعي . وحين أشعر بوحشة الوحدة كنت أتخيل أنني أجلس برفقة أخوتي الغائبين لنحتسي القهوة ونتحادث كأشقاء في كل ما يخطر في بالنا ،وأستمع إلى أغنيات جان فيرا كما كنا من قبل . تعلقت بالكتب أكثر وقضيت وقتي بينها وبين عملي ،قرأت لكاتبات معارضات للنظام الإيراني ،بعد أن جلب الأسد إيران إلينا لتنهشنا وترمي بظلمتها فوق رؤوسنا . قراءة ماركيز ،وأرونداتي روي ، ومحمد شحرور و جورج أورويل و روايته عن النظام الشمولي الديكتاتوري كنظام الأسد أو الاستماع لداليدا في مقهى رصيفي كئيب . محادثات مع كتاب وكاتبات نفاهم الأسد خارج البلاد عبر السكايب بكل سرية . الانهيار أمام مشاهد النزوح والغرق في البحار ،دون أن نملك في اليد من حيلة لفعل شيء . علاج النفس بروايات الطفولة أمثال هايدي وتوم سوير وأحزان صوفي وروايات كونتيسه دي سيغير وأحدب نوتردام وكوخ العم توم وكتاب الأدغال …. كلها أشياء كنت أعيشها في أوقات وحدتي وعجزي .
_٥_
كنت شيوعيا" في شبابي ،ثم تعرفت إلى الإسلام واعتنقته ،لأحذو بذلك حذو الكاتب الفرنسي روجيه غارودي . وقبل الثورة كنت مجرد شاب طائش على وشك أن يطرد من جامعته يقضي جل وقته في المقاهي والخمارات . قرأت في بداية حياتي كتاب الثالوث المحرم لبو علي ياسين عن الدين والجنس والسياسة ،وكانت أمور من قبيل أجراس الكنيسة أو سماع تلاوة آية قرآنية على سبيل المثال :(فأما اليتيم فلا تقهر ) لا تؤثر بي مطلقا" ! لكنني كنت جيد التأقلم مع أي جديد ،حتى مع أي عمل إلى الحد الذي عملت فيه ذات مرة حارسا" لمقبرة ومرة حارسا" لمستشفى مجانين ! قرأت هرطقات جورج طرابيشي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة ،وتشاجرت مع أبي بعد وفاة والدتي وزواجه حين أزال صورتها من المنزل ورمت زوجته الجاهلة بكتب مكتبتي الصغيرة في صناديق ونقلتها إلى السقيفة ،ثم هجرت المنزل بمن فيه . عملت بداية في مكتبة خارجية ونمت فيها ،وكنت أقضي ليال كثار أستمع إلى أغنيات شارل أزنافور العاطفية ،وقراءة أعمال آرثر ميللر مثل أي صبي حالم . حين اعتنقت الإسلام لاحقا" تعلمت احترام جميع الطوائف وعدت إلى منزل والدي وطلبت الصفح منه وجلبت معي صورة لي برفقة والدتي وأنا أضم عنقها بكلتا ذراعي . صرت أصوم رمضان ،وألتزم المنزل خلاله ،وأقرأ أعمال نجيب محفوظ لتؤنسني في لياليه . وحين انتفض الشعب في وجه الظلم ،بسطت جناحي كفراشة خبيئة في الشرنقة وانطلقت نحو الحرية ،بقلب مؤمن ورغبة جامحة في الدفاع عن الشرف والفضيلة والحق بعد المجازر التي ارتكبها النظام الأسدي ،وسارعت للانضمام إلى الثوار ،لأحمل السلاح والذي به فقط سيعلو صوت الحق و تكلل حياتي أخيرا" بالمعنى الذي أضعته كثيرا" من يدي بملء إرادتي .
_٦_ احتفلت بزواجي على الطريقة الريفية ،على نحو بسيط للغاية بعد أن تأخر زواجي لسنوات ،لكوني امرأة مثقفة وعاملة لا يفضلها الرجال . كان خطيبي يملك سلطة ونفوذا" في قريته التي نصب مختارا" لها ،وكنت أنا بالنسبة له زوجة لائقة تكمل صورته البراقة التي عليه أن يظهر بها على الدوام أمام أبناء بلدته . وبعد زواجي به اكتشفت بأنه مخبر ينقل كل ما يحصل في بلدته إلى الأفرع الأمنية التابعة للنظام الفاشي الأسدي . كنت أشاهد التقارير التي يكتبها في دروج مكتبه ،وأحيانا" كان يلفقها للقضاء على من لا يستسيغه . انزويت بنفسي بداية وانشغلت بعملي كمدرسة للغة الفرنسية وهواياتي بالاستماع إلى ماكسيم لافوريستيير وقراءة دواوين شارل بودلير . لكنني لم أكن لأحتمل السكوت عن الحق مطولا" والبقاء كزهرة مقيدة لا تفوح بعطرها وبأسرارها . كنت أرغب في أن أملك شجاعة سكارلت أوهارا بطلة مارغريت ميتشل في روايتها الشهيرة وأمسك بزمام الأمور . كان لي صديقاتي وأصدقائي نجتمع في مجالس مسائية أغلبهم يحملون أفكارا" شيوعية ،نتكلم فيها عن فاشية نظام البعث وبيروقراطيته ،كاسرة بذلك خوفي من زوجي المخبر . تمنيت لو أخوض في غمار السياسة أو أتجرأ على الولوج في عالم الصحافة إلا أنني كنت أضعف مما اعتقدت ،كنت كغيري مجرد عبدة اعتادت على العبودية ،وكنا جميعا" نحتاج شخصا" كنيلسون مانديلا ينقذنا من عبوديتنا . كان زوجي كغيره من رجالات السلطة الأسدية يجمع ما بين الجهل والتعصب الطائفي مع الانحلال الأخلاقي وسوء استخدام حريته المنفلتة وسوء استخدام سلطته . كان كاذبا" ومنافقا" مثله مثل رجالات الدين المقربين من سلطة البعث ،همهم الوحيد التنعم بغنائم السلطة متسترين على إجرامها وفسادها . ولكن ورغم كل ذلك كنت على يقين بأن الآية الكريمة :((ولا تحسبن الله غافلا" عما يفعله الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار )) ستتحقق لا محالة . رغم ظن البعض بأنني شيوعية إلا أنني كنت أثق بالقرآن الكريم . أتعلمين ماهي الحياة ؟ كان زوجي يسألني ،ثم يجيب بأنها القوة كما يقول نيتشه ،بالقوة وحدها يا زوجتي تعاش الحياة ولا شيء أهم من القوة . ماذا عن الحقيقة والأخلاق والحق والضمير ؟ كنت بداية لا أجرؤ على النطق بهذا السؤال أمام زوجي المقيت ،إلا أنني ذات يوم انتفضت كما كل الشعب السوري وسافرت إلى المدينة للخروج في المظاهرات الاحتجاجية ،وأنا كلي ثقة بأن الحق سينتصر يوما" مهما ملأ الفساد البر والبحر .
#الحسين_سليم_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التحرر (الجزء الثاني)
-
التحرر (الجزء الأول)
-
القمع (كاملة)
-
ما الذي لم يقنعني في الأديان؟ (محاضرة)
-
أزهار أبدية(الجزءالثاني)
-
أزهار أبدية (الجزء الأول)
-
القمع (٨)
-
القمع (٨)
-
القمع (٧)
-
القمع (٦)
-
القمع (٥)
-
القمع (٤)
-
القمع (٣)
-
القمع (٢) منقحة
-
القمع (٢)
-
القمع (الجزء الأول)
-
قم هات عودا-
-
سوق السلام
-
اعترافات البومة القاتلة
-
أحفاد زورو
المزيد.....
-
مصر.. قرار للنيابة في واقعة صاحب رسالة الانتحار الموظف في دا
...
-
الذكاء الاصطناعي في الترجمة.. أداة مساعدة لا بديلا
-
-نسائم الإضاءة وستائر الدهشة-.. حوارات مع الشاعر الفلسطيني م
...
-
أوكرانيا تعترف بأن اللغة الروسية تضاهي الأوكرانية استخداما ب
...
-
زوار كثر بلا كتب.. جولة في معرض القاهرة للكتاب
-
وزارة الثقافة في صنعاء تحتضن معرضا فنيا عن القضية الفلسطينية
...
-
صوت أم كلثوم ينبعث من الكتب والمقاهي بعد 50 عاما على رحيلها
...
-
50 عامًا بعد الرحيل.. ودموع فرقة أم كلثوم لم تجف
-
محاضرة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب تستعرض ثراء وتنوع الثقافة
...
-
مهرجان كان السينمائي يختار الممثلة جولييت بينوش لرئاسة لجنة
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|