|
نجا -قصة قصيرة-.
سليم صفي الدين
الحوار المتمدن-العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 01:38
المحور:
الادب والفن
في إحدى بقاع الأرض كانت مدينتنا الصاخبة تقع، ولا أتذكر مرور فترة سلام كبيرة عليها، أو أن السابقين من سكّانها ذكروا ذلك. الناس يسرقون بعضهم ويكذبون ويغتابون، ولا أحد منهم راضٍ عن حاله، حتى جاء غريب سكن أعلى جبل يطُل على المدينة، لم يبرح مكانه، وإن كان طيفه يظهر أحيانًا ليلًا أو نهارًا، ولبُعد المسافة كان الناس يرونه بحسب قوة نظر كلٍ منهم، حتى زاره مرةً شابٌ أربعيني، طرق الباب الخشبي للكهف الذي يسكنه، فجاءه الصوت من الداخل: - تفضل. دخل الشاب متوجسًا، وفي ذهنه تدور كل الحكايات التي سمعها عن الغريب، وإن تساءل في دهشة متى نحت هذا الكوخ؟ أم أنه كان موجودًا من قبل ولم يلتفت إليه أحد؟! وكيف صنع له هذا الباب الخشبي؟ من أين جاء بالخشب وسط تلك الصحراء القاحلة؟! ثم من أين يأكل؟ وكيف يشرب؟ بل كيف يعيش أصلًا؟ أسئلة كثيرة تصارعت في رأس الشاب قبل أن يقطعها صوت رصين من داخل الكوخ:
- أهلًا بك.. كيف أستطيع مساعدتك؟
رد الشاب وقلبه يتسارع بالنبض: - جئت أتعرف إليك؟ - ما اسمك؟ - اسمى نجا يا سيدي.. هل ستظل تحدثني من الداخل؟
- ألم تكفك استضافتي لك؟
- لا أقصد ولكن... قاطعه الغريب: - لا تسأل. اندهش الشاب، كيف يمكنه التعرف إلى شخص لم يره، لكن قاطعه الغريب: - اسمع يا نجا، قل لي حال البلاد والعباد، وما رجاؤك لهم وفيهم؟
اتسعت عينا الشاب عن آخرهما، وقال بصوت متهدج:
- هل ستساعدنا يا سيدي؟
- نعم، لقد جئتَ من أجل هذا.
جلس الشاب على الأرض متفائلًا، وبدأ يقص على "سيده" -كما يناديه- ما كان في الماضي، وما حدث ويحدث في الحاضر، بينما تظهر هالة نور من داخل الغرفة التي جلس بها الغريب، هالة عجيبة، أنارت المكان عن آخره، وما إن انتهى الشاب من حديثه حتى قال له سيده: - اذهب إلى الناس، وقل لهم إنني أبشِّرهم بالخير، وقريبًا ينتهي كل سيئ.
انطلق نجا بكل طاقته، يكلِّم الناس في الشوارع والطرقات، ويشير دومًا إلى كوخ الغريب الذي أطلق عليه بفضلهِ لقب "السيد"، فكانوا يقولون له: - هل سيدك سيطعمنا؟ يسقينا؟ يحكم بالعدل بيننا؟ وكان يجيب على كل شيء بنعم. كان واثقًا فيه إلى درجة كبيرة، وقال عنه: - إنه ملاك، لقد رأيت النور يشع من غرفته. ثم صمت قليلًا وتابع: ألم تفكِّروا كيف يعيش ويأكل وهو وسط صحراء جرداء؟ إنه ليس بشرًا.. أقسم على ذلك!
في اليوم الثاني، انطلق الناس إلى الغريب، يطرقون بابه، يسألونه المال والغذاء والعدل، وكان الغريب يرد عليهم من داخل الكوخ: - أبشروا فإني منجيكم.
ولم يمر سوى وقت قصير، حتى أصدر "السيد" تعليماته إلى شخوصٍ بعينهم اختارهم بنفسه، وكان على رأسهم نجا، فوكَّل القضاء لـ"عادل" وإدارة السوق لـ"حسن" وأمور الدين -التي يعلّمهم إياها بنفسه عبر خطاباته- لنجا، ونسب التعليم إلى عرفة، وهكذا علم كل واحد دوره، وبدأت المدينة نظامًا جديدًا أرسى مبادئ العدل والإخاء والسلام.
كانت القصص والحكايات تنتشر عن السيد، حتى ذاع صيته في كل المدن المجاورة، فجاءه الناس رجالًا من كل فج عميق، كان كوخه مفتوحًا للجميع، ولم يفرِّق بين شخص وآخر، وعدَل بين الرجال والنساء، ولم يبخس أحدًا حقًا. من الناس من قال إنه ذو لحيةٍ بيضاء، طويل النجاد، رفيع العماد، جهور الصوت، طيب الريح.. وبعضهم أكد أنه في ريعان شبابه، ورغم صغر سنهِ، استطاع أن ينشر رسالته في العدل والحب والدين، وكذلك قِيل في حقهِ إنه يسهر الليل كله، ولا ينام بالنهار، وعنده من الزوجات ألف، ومن الأبناء عزوة، وأقسم الرواة على أنهم رأوا أبناءه وبناته واشتموا رائحة الضأنِ تنبعث من كهفه على أيدي نسائه.
زادت القصص، وكثرت الحكايات، ونجا تحول إلى شخص مقدس، لا يمكن أن يراجعه أحد، فهو رسول السيد صاحب الفضل والمنة. ثم حدث أن غاب السيد كثيرًا، ولم يعد يرد على المريدين، فبدأ الناس يقلقون، أين ذهب؟ ولماذا لم يعد يجيب؟ ومن يُكمل ما بدأه؟ وعندما ثقل عليهم الانتظار وآيسوا من عودته، بدأ الإيمان يتزعزع في قلوبهم رويدًا، وعاد الرجال يزدرون النساء والحال تسوء، لكن بعضهم أخذ على عاتقهِ إكمال الطريق وتعويض الغائب، فبدأوا يدعون الناس إلى فكرة السيد، الذي ما إن حلَّ بالمدينة حتى ارتقت نفوس الناس، واطمأنت أرواحهم، وأتقنوا عملهم، وقلَّت السرقة والاضطهاد. بدأ الناس التكتل في مجموعات متفرقة، كل فرقة تقول إنها الأصح في ما ترويهِ عن السيد.. وفرق ثانية تبشِّر بقرب عودته، وفرق ثالثة تقول إنها تملك رسلًا اختارهم السيد في أيام محددة، إذ اصطفاهم من وسط العالمين، ليكونوا أنبياءه الذين يوصلون رسالته وينبِّئون الناس بأخبار السابقين واللاحقين.
وسرعان ما تحولت المدينة لفرقٍ متناثرة، وضلَّ العوام الطريق، فلم يعرفوا إلى أي فرقةٍ ينتمون، فكانوا يتنقلون بين فرقة وأخرى، وليتمكَّن بعضهم من إرغام الناس على البقاء في رحابهم، قالت فرقة إن الدخول فيها "مُطلق" ولا يجوز الرجوع عنه، وإن رجع أحد، فحكمه القتل! وقالت أخرى إنها الفرقة الناجية التي يولد فيها الأطفال على فطرة السيد وبشارته. حتى حدث أن اشتبكت كل الفرق، وكفَّر بعضهم بعضًا، وانتشرت العداوات حتى داخل العائلة الواحدة، وصولًا إلى أن نظَّم أحدُهم جيشًا كبيرًا وسلَّحه، وحارب كل الفرق الأخرى التي لم تقف مكتوفة الأيدي بالتأكيد، فاستدعت أتباعها واندلعت حربٌ لا نهاية لها.. اكتست المدينة بالدم، وأصبحت كئيبة، انعدم فيها الحب والسلام، وأصبح لكل فرقة زي محدد ترتديه، حتى يُعرف العدو من الصديق، وفي أكبر المعارك وأشرسها، ظهر نجا بين الجيشين يصرخ: - إن رسالة السيد باقية، لماذا تتقاتلون والسيد لم يدع إلا إلى السلام؟
لكن أحد القُواد قاطع حديثه بسخرية: - ها قد جاء من يعرف ما لا نعرف.. اذهب يا نجا وإلا قتلتك.. الخلاف ليس فقط على الرسالة، وإنما على السيد نفسه، هؤلاء القوم –وأشار إلى الجيش المقابل- يقولون إن السيد له ألف امرأة، ونحن نقول إنه لا يعاشر النساء، ويُقسمون على أنه أبيض اللون ذو هيئة بشرية، ونحن نقول إنها صفات بالية.. أشهر قائد الجيش الآخر سيفه وقال: - إياك أن تُنكر صفات السيد، نحن أعلم بها منكم. واستمر الجدل والتراشق وقتًا حتى قال نجا: - إنه كما تقولون أنتم، وأشار إلى يمينه، وهو كذلك كما تعتقدون أنتم، وأشار إلى الجهة الأخرى، وهو كذلك كما قالت المدن المجاورة.. السيد هو السيد، مهما تعدَّدت صفاته، ومهما نُسب إليه من صفات البشر، إنكم تقتلون أنفسكم، السيد لا يهمه ما تعتقدون عنه من صفات وملامح، نورًا كان، أو له يد، المهم أن تطبّقوا رسالته.. لقد دعا للعدل والحب والمساواة، وأنتم تدعون إلى الكفر بقتل الناس! أشهر قائدا الجيشين سيفيهما معًا، وكأن بينهما اتفاقًا مسبقًا، وضربا كلاهما -ربما في الوقت نفسه- رأس نجا، فسقط قتيلًا، وعادوا جميعًا إلى الحرب!
#سليم_صفي_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكالية نسب -حول التبني- قصة قصيرة
-
قنديل أم هاشم -قصة قصيرة-.
-
القاضي الجاني -قصة قصيرة-.
-
فى بيتنا كلب -قصة قصيرة-
-
ثالثوث الدائرة المفرغة.. لماذا يتغير الواقع دون أن ندري؟
-
ما بين دين عبدالله رشدى وعلمانية خالد منتصر
-
أحزب من ورق
-
اخترناه وبايعناه
-
شوكة الأزهر في حلق العلمانية.. إلى أين؟!
-
كيف يدعو الأزهر إلى التجديد ويرفض التطوير؟
-
بديهيات حقوق الإنسان
-
ظاهرة الإلحاد بين الحوار الفلسفى والإرهاب الدينى
-
الأزهر يحارب الدولة؟
-
حول تصريحات السيسى
-
جمهورية بامبوزيا
-
فض اشتباك رابعة والنهضة
-
يناير.. من حلم التغيير إلى كبت الوطن
-
سيدى الرئيس.. نظرة دون خوف
-
الأحوال الشخصية وقانون -ع-
-
بين فراقين.. صديقى الذى لم يَعُد
المزيد.....
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|