|
قصص الحرب. المتاهة . القسم السابع
طالب كاظم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8241 - 2025 / 2 / 2 - 23:20
المحور:
الادب والفن
حين همدت الصيحات ،التي تعالت في الجانب الاخر من سيل الطمي والوحل ، انتظرت رصاصة ما تنهي تفجعات لامعنى لها وحياة مصفدة بالخراب ، مرت دقائق تعد على اصابع يد واحدة ، عندما انتبهت ان الهدوء وهو يصفد السكون الذي اطبق بحراشفه السميكة على السفح الصخري ، لم اعد اسمع همسات الجنود ولا انفاس كريم شميل الذي تقدمني بخطوتين ، أحاط بي صمت خانق ، رايت شكل الصمت وهو يسخر من التردد والقلق والتوجس الذي عشته في تلك اللحظات ، لا ادعي شجاعة تميزني او عمل بطولي لم اقم به ، ولكنها الحرب التي تقشطك بنصل غير مشحوذ فتزيل عن عظامك العروق والخوف ، الحرب التي تتركك متبلد الاحاسيس الا انها تصقل ذهنك الذي سيعمل على إيجاد طريقة ما لإنقاذك من دروب المتاهة المتقاطعة. مسلحا بكلاشينكوف و120 اطلاقة ، فكرت للحظة ، بأن السلاح والذخيرة ستنقذني من الدببة التي تجوب الاودية ؟! قبل سنوات عديدة، عندما كنت جنديا مراهقا امضي خدمتي في بيبو ، المثلث العراقي الإيراني التركي في ربيئة حشرت على قمة جبل يتطلب تسلق ممراته الوعرة ثلاث ساعات ، تلك الربيئة التي تقاسمت الجنود ايواء الافاعي والعقارب والقمل والبراغيث ، كنت اراقب بمنظار مقرب من على تلك القمة الدببة وهي تصطاد الاسماك مع دياسمها عند ضفاف الزاب الكبير، تحدث الجنود عن شراستها وانها تباغت فريستها ولاتترك لها أي فرصة للنجاة من مخالبها ، هناك اساطير يرويها لنا ، نحن الجنود صغار السن ، الجنود القرويون ، الذين يحكون عن اناث الدببة التي تختطف الجنود الشبان وتحتجزهم في كهوف سرية لا احد يعلم بمكانها ، اناث الدببة تلك كانت تعمد الى لحس مفاصلهم للحد ان أولئك الجنود لا يستطيعون بعدها المشي للفرار من مشقة التسافد مع تلك الاناث المولعة بالجنود الشبان ، القرويون بمخيلتهم الفطرية تلك ، كانت تجعلني اسخر حد الضحك وهو الامر الذي يزعجهم جدا . حين ركعت على ركبتي احاول الوقوف على قدمي ، لم ار ايا من رفاقي ، بينما الصمت الذي احكم قبضته استدعى الذكريات التي مررت بها ، فتدفقت الصور امام عيني ، الاحداث التي مررت بها طوال سنوات الحرب التي عشتها جنديا اجوب جغرافيا المحنة واللامعنى جنوبا وشمالا ، تذكرت السفر الذي عشته في مستنقعات الحويزة العميقة ، عندما كنت اعوم فوق طوف فليني بحافات مثلومة انتزع من حطام جسر ميداني عائم تسللت عبره قطعات الإيرانيين في معركة الحويزة ، احتال على الطوف المعاند ان يحافظ على وجهتي بلوح خشبي انتزع من صناديق ذخيرة صواريخ RPG7 وانا اتفقد طريقي وسط المياه الراكدة احاول اعادة وصل السلك المقطوع الذي يؤمن الاتصال بفصيل الكمين الذي يتسلل عبر الظلام واحراش البردي الكثيفة في زوارق الفايبر كلاس ، طوف فليني لاتتجاوز ابعاده متر في متر، كنت استدير بالطوف بفسحته الضيقة لاني لم استطع المناورة ، كنت اجثو على ركبتي وانا اخترق اجمة القصب ، في تلك الليالي الطويلة التي تختنق بالتوجس والقلق وقنابر التنوير التي تضيء وجه الغمر والامتداد الداكن ، تداعت في ذهني صور عتيقة غرزت مخالبها عميقا في ذاكرة تنوء بفجائع الحرب . في تلك اللحظات القصيرة ، لم يبرق في مخيلتي أي شخص ، لم تمرق احداث حياتي امام عيني ، كنت وحيدا جدا وتائها في منتصف الطريق الى اليباب، ثمة هدوء تسلل الي ، اشبه بالسكينة التي تنتاب الشخص حين يستسلم لقدره ، قلت لنفسي ، ما الذي استطيع فعله للإفلات من المصير الذي ينتظرني فالأمر يحدث فحسب ، ليس امامي سوى الانتظار، قلت ان ما اعيشه في تلك اللحظة سينتهي كما ستنتهي كل الاشياء وسيطويها النسيان وسنندثر ولا يعد لنا أي وجود يذكر ، لن نكون سوى ذكرى باهتة ستزول هي الاخرى حين ينتهي الاخرون الذين يحتفظون بصورنا الفاقعة في ذاكرتهم . قلت لم القلق والخوف؟ انها الحرب التي تضعك في مواجهة قاسية قبالة الوجود الحياة والموت . شعرت بالتيه والضياع والعجز للحظة تبددت حين استعدت تماسكي وهدوئي ، السفح اللامع جدا كشف عن اثر تخبط احذية الجنود الموحلة ، لم اعد حذرا او خائفا ، شعرت بأني حر ولكني بلا وجهة ، ، وقفت على قدمي أتطلع حولي ، تحيط بي العتمة والصمت ، تلألأت عناقيد النجوم ببريقها الفضي الذي انكسر على السفح الصخري ، تطلعت اتفقد طريقي ، فرأيت اثر خطوات احذية الرتل الملطخ بالوحل الذي طبع بصماته على الحجر. كنت اجوب الوادي الموحل استرشد طريقي الى الرتل باثر طبعات احذيتهم الموحلة ، اخذ الضباب الخفيف ينقشع ، بدت السماء اكثر صفاء بعتمتها ، كان الاثر واضحا ولامعا ، لمحت امامي ظلالا اكثر قتامة ، اعترضت طريقي ، عندما اقتربت اكثر ، كشفت الظلال عن احراش كثيفة لأشجار قصيرة متشابكة وصوت دوي تدفق مياه السيل الجارف العنيف . انتبهت لخشخشة الأوراق التي تسللت عبر الاحراش ، هاجس ما اخبرني بأني عثرت على حطام الرتل وحلقلته المفككة قلت بصوت عال ،في حينها لم افكر باي شيء ، لم ارهق نفسي بأكثر مما انا اعيشه ، لست حذرا وغير خائف . مغاوير؟!! تردد صوتي ، الجهوري والواضح ، كما دربونا في كتيبة تدريب المخابرة ، ليكن صوتك جهوريا وواضحا !! للحظة علقت بالصمت والفوضى لم اسمع سوى هدير السيل القوي ، تلك اللحظة التي انتهت بصوت رفيع وحذر يرد من جوف الاحراش اخفض صوتك كشفتنا ؟!! اندفعت صوب الرتل الذي فقد بوصلاته واسطرلاباته ، الوذ بالقطيع ، الموت او الحياة حينما يكون جماعيا لن يكون قاسيا ومؤلما فيما لو كنت وحيدا تلفظ انفاسك وحيدا على سفح اجرد وسط العراء . التقيت برفيقي محمد ، من اهالي مدينة الثورة ، منزله لايبعد سوى خطوات عن ثانوية قتيبة كما اخبرني حين التقينا اول مرة ، اب لخمسة بنات وتعثرت بمخابر القائد الموصلي بلكنته المميزة الذي اخبرني بانه يسكن حي الزهور الراقي ، لم ار بقيتنا ، كنا بحدود خمسين جنديا ، بلا بوصلة ولا خرائط ولا معدات اتصال ، بلا نبي كيما يشطر المياه التي اعترضت وجهتنا الاخيرة بمعجزات الرب لنمضي الى بيوتنا العتيقة ، الا ان الكل في تلك المحنة صار نبيا يتقن الكلام مع الرب، فتعالت الهمسات هنا وهناك ، الكل يريد ان نسلك الوجهة التي يشير اليها ، المحنة التي حولت الجنود المرهقون الى عرافين وانبياء وكهنة ومخلصين ، من يجرؤ ويجتاز السيل الى الضفة الاخرى ، من سيغامر ويعبر برزخا عظيما من ثلاثين ذراع ، التخبط والعماء والبرد والاردية المبللة التي تلقت وابل المطر العنيف ، حتى فقدنا الإحساس باصابعنا التي اخذت بالانجماد ، هناك من يتقن الخطوة الاولى ، هناك كما في المدونات من يمسك البلطة ويطيح بالخوف ، قذف احدهم بنفسه الى الغمر العنيف ، فجرفه التيار بعيدا ، ضاعت صيحاته وهو يحاول الخلاص من موت ادخر مخالبه في عنقه ، فضاع صراخه في التيارات التي تدفقت صوب الجنوب ، قال محمد بانه سيجازف بعبور السيل ، وهو يشير الى خانق ضيق بعرض 10 امتار ، تسلل الى المياه بتدفقها العنيف ، لم تكن عميقة ، كان جسمه مغمورا بالمياه حد عنقه ،رأيته يكز على اسنانه التي اصطكت بسبب برودة المياه ، في خطوته التالية التي ابتعد بها عن الجرف ، تلقفه السيل العنيف الذي جرفه بعيدا ، لم نستطع الامساك به ، او انقاذه ، كانت المياه العنيفة تدور به بدواماتها ، في لحظات حفرت صورتها في احداقنا المنهكة ، رايت رفيقي محمد اب لخمسة بنات ومنزله على بعد خطوات عن ثانوية قتيبة يضيع في اللجة والزبد واللاجدوى . لاحقا بعد انتهاء الفجيعة ، الفوضى ، شقيقة وجد جثمان محمد في قبر علم باسمه وكنيته بعد ان عثر عليه الاكراد ملقيا على بعد فرسخ حين يمتد السيل عريضا فتخمد حدته وسطوته . الليلة التي لاتريد ان تنتهي ، الموتى والضياع والتشتت ولكن الله لم يرسل لجنوده ، التائهون في قلب المحنة ، لا المن ولا السلوى ، تركنا نواجه مصيرنا ببصيرة حانقة وقلب مشحون بالغضب . انها المحنة التي تقشط عن عينيك العتمة ، المحنة وحدها التي تجعلك ترى الطريق مضاء وواضح الملامح، كنا ننتظر عصاه ان تشطر المياه ولكنه لم يفعل ، قال احد الجنود اريد اصحاب البنية القوية وين اخواني ؟ كنت احد اولئك الجنود ببنيتنا الضخمة نحن الذين عشنا المشقات كلها تحت رايات القائد العظيم جالوت لولا الغطرسة والانشقاقات والخيانة ، باستثناء السلاح الذي وتد الى مناكبنا ، تخلصنا من اقنعة وقاية الحرب الكيمياوية ، والقينا الرصاص في المياه التي تدفقت وهي تعول في طريقها الى الوجهة الغامضة ، ذلك الجندي الغامض الذي لم يكشف عن كنيته فضاع اسمه في التاريخ المهمل ، طلب من اصحاب جالوت خلع النطاق العسكري الذي نشد به سراويلنا البالية ، زند لزند ربطنا انفسنا احدنا بالاخر بنطاقات الفجيعة ، انحدر المستكشف الاول وتبعه الجندي الثاني والثالث وكنت الرابع وهبط الخامس والسادس والسابع ..والعاشر ، شكلنا سلسلة بشرية تحاول الوصول الى الجانب الاخر عبر اللجة ، غمرتني المياه حد العنق كنت اتنفس بصعوبة شعرت بان المياة الباردة تضغط على صدري ، يتعين علينا مواجه القدر وانتزاع نابه الوحيد وهو يكشر في وجوهنا ينتظر تردد احدهم فيعمد من فوره الى طعنه في ظهره ، وصلت !! بصوت عميق كالمعجزة تعالى صوت الاول وهو يمسك بحافة الضفة الثانية ، شكلنا جسرا مغمورا ، الاخرون المنهكون عبروا الى المجهول يتشبثون بنا نحن اعمدة الخليقة ، امسك جنديان بالعميد الكهل ، كان مريضا جدا ، منهكا ، يسعل بصوت مكتوم ، شعرت بان رئتيه تتمزق وهو يتشبث بكتفي في الطريق الى الموت .
#طالب_كاظم_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص الحرب . المتاهة . القسم الخامس
-
قصص الحرب. المتاهة .القسم الرابع
-
الصوفي
-
المتاهة. قصص الحرب
-
الكاهن
-
تلاميذ الاسخريوطي
-
صديقي الذي فتك بالعصافير في طفولته
-
في ادب الطفل
-
المسرح والدهشة الاولى التي سترشد خيال الطفل الى الجمال
-
جلجامش وانكيدو سيناريو للفتيان
-
مسرحية لليافعين: ابنة الخياط
-
نووايس عقدك الثاني
-
نواويس عقدك الثاني المهجورة
-
قصة قصيرة : في الاسبوع التاسع والاربعين
-
حب ما
المزيد.....
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|