أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - أطفال للبيع















المزيد.....


أطفال للبيع


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 8241 - 2025 / 2 / 2 - 02:52
المحور: الادب والفن
    


عاد "نجيب" إلى المدينة التي ولد فيها بعد غياب دام ستين عامًا، بدا له أن الزمن غطى المدينة بغبار ثقيل. خرج من محطة الحافلات، يتكئ على عصاه الخشبية التي حملته طيلة عقود من الغربة، متجهاً نحو السوق الذي كان يعرفه صغيرًا.
"كيف تغيّرت مدينتي؟ وكيف تغيّر أهلها؟" تمتم لنفسه، يحاول أن يربط بين صور الماضي والحاضر.

كان الهواء مالحاً برائحة البحر، لكنه هذه المرة اختلط برائحة أخرى لم يستطع تحديدها، مزيج من اليأس والاحتراق. سار بخطوات بطيئة نحو سوق المدينة، المكان الذي كان ينبض بالحياة في ذاكرته، حيث الأصوات، الألوان، الضحكات والوجوه المألوفة.
لكنه هذه المرة رأى شيئًا لم يكن مستعدًا له.

على جانبي السوق الشعبي المزدحم، حيث أصوات الباعة تختلط بأنين المدينة المتهالكة، كانت هناك بسطات متراصة تحمل أشياء بدت له غريبة: علب بسكويت مغبرة، ألعاب بلاستيكية مكسورة، وأطفال يجلسون بصمت.

خلف بسطة صغيرة متهالكة جلس رجل عجوز ذو وجه متجعد وعينين فارغتين. كانت البسطة تحمل بضع علب من البسكويت وأشياء أخرى لا تتجاوز قيمتها حفنة من النقود. لكن وسط هذه الأشياء المتواضعة، كان هناك شيء مختلف، لوحة كرتونية صغيرة مكتوبة بخط يد مرتجف:
"أطفال للبيع - السعر حسب العمر."
وقف مكانه مشدوهاً، كأن الزمن تجمد حوله. لم يصدق ما يراه. اقترب من صاحب البسطة وسأله بصوت مرتجف:
"ماذا تبيع هنا؟ هل هذه مزحة؟"
نظر إليه العجوز دون تعبير وقال ببرود:
"إنهم أولادي وأولاد جيراني. لم يبق لدينا خيار آخر."

وعلى بسطة مجاورة ليس عليها خضار ولا فواكه ولا حتى ملابس مستعملة كان طفل رضيع ملفوف ببطانية قديمة، إلى جانبه بطاقة مكتوب عليها: "للبيع... بسبب العجز".
شهق نجيب وتراجع للخلف، مصطدمًا بامرأة كانت تنظر إلى الطفل بدموع صامتة. قالت المرأة بحسرة:
"أبوه تركه هنا... ما عاد معه يطعمه."
بدأ نجيب يلاحظ بسطات أخرى مشابهة، كل واحدة عليها طفل أو طفلة بأعمار مختلفة. وعلى كل بسطة بطاقة تحمل عبارة توضح السبب:
"للبيع... لأن أمها ماتت."
"للبيع... لأنه يحتاج عملية ونحن عاجزون."

في تلك اللحظات، بدأ العالم الذي يعرفه نجيب بالتشقق والانهيار. لم يكن يعلم أن الفقر يمكن أن يجعل الناس يبيعون فلذات أكبادهم في السوق الذي كان يظنه مكاناً للحياة.
ارتجفت يد نجيب على عصاه وهو ينظر إلى أطفال السوق. أعمارهم تتراوح بين الشهر وعشر سنوات، عيونهم متعبة وكأنهم يحملون سنوات من الحزن على أكتافهم الصغيرة. مر أحدهم بجواره، طفل نحيل يرتدي ملابس رثة، يحاول بيع علبة بسكويت مكسورة.
"اشتري مني يا عمو، ثمن العلبة يكفي لنشتري خبزاً لنا اليوم."

تراجع نجيب بخطوات بطيئة، وكأن ذكريات ماضيه تنهال عليه بلا رحمة. تذكر السوق كما كان: مكاناً للفرح والاحتفالات، حيث اعتاد أن يأتي مع والده ليشتري له حلوى وشوكولا. تذكر صوت الباعة وهم ينادون على بضائعهم بحماس، وتذكر أصدقاءه وهم يركضون بين الأزقة.
لكن هذا المشهد لم يكن يشبه شيئًا من ذاكرته. كأن المدينة التي أحبها خضعت لتجربة قاسية، وماتت روحها في طريقها إلى البقاء.

وقف نجيب وسط السوق، يراقب المشهد بصدمة وألم وكأنه يختنق. رأى سيدة تجادل بائعاً بشأن "سعر" طفلة صغيرة، وسمع أصواتاً أخرى تعلو من بسطات مجاورة تعرض بضائع بائسة.
اقترب منه شاب صغير يعمل في السوق وقال:
"عمو، أنت غريب هنا، مو هيك؟"
"كنت ابن هذه المدينة... لكنها غدت غريبة عني."
ابتسم الشاب بحزن وقال:
"هذا سوقنا الآن. ما عاد فينا نعيش إلا هيك... نبيع ما تبقى منا."

جلس نجيب على مقعد حجري في أطراف السوق، يراقب المدينة وهي تحتضر أمام عينيه. المدينة التي كانت تحتضن طفولته أصبحت الآن مثل جثة ممددة على أرصفة اليأس. لكنه لم يستسلم لموجة الألم، بل نهض فجأة كأن شيئًا ما اشتعل في داخله. اقترب من إحدى البسطات، حيث جلس طفل خلف مجموعة من علب البسكويت المغبرة. كان الطفل ينظر إليه بحذر، ولكن عينيه كانتا تحملان بريقًا خافتًا، وكأنهما تتوسلان الرحمة.
انحنى نجيب أمام الطفل وسأله بصوت مبحوح:
"ماذا تفعل هنا؟ لماذا تجلس في هذا المكان؟"
رفع الطفل عينيه إليه وأجاب بخفوت:
"أنتظر... أنتظر أحدًا يشتريني."

شعر نجيب برعشة تجتاح جسده، ولكنه تمالك نفسه. كان يحمل في جيبه حفنة من النقود التي جمعها طوال حياته في الغربة، لكنه لم يكن يعرف كيف ينفقها هنا، في مكان لم تعد النقود تشتري فيه سوى أشلاء من الحلم. قرر أن يشتري علب البسكويت الموجودة على البسطات كلها، لكن ما نفع ذلك أمام مأساة شعب باع طفولته ليبقى على قيد الحياة.
أخرج محفظته ووضع كل ما فيها من نقود أمام الطفل وقال بحزم:
"لا أحد يستطيع شراءك. أنت لست للبيع .. أنتم لستم للبيع! أنتم المستقبل، وسأفعل كل ما بوسعي لأحميكم."

حدق الطفل في النقود ثم في وجه نجيب، وكأنه لم يفهم الكلمات. لكنه قبل أن يتمكن من الرد، أمسك نجيب بيده وقال:
"تعال معي. لن أتركك هنا."

على الرصيف المقابل، جلس فتى نحيل لا يتجاوز عمره سبع سنوات، اقترب منه وسأله بصوت مرتجف:
"لماذا أنت هنا؟"
أجابه الطفل بصوت خافت:
"لأننا لا ننتمي لأي مكان. لا أحد يريدنا، لا أحد يرانا."

شعر نجيب وكأن صدره ينشق. مد يده، أمسك بيد الطفل وقال بصوت خافت لكن قاطع:
"تعال معي."

سار نجيب مع الطفلين خارج السوق، لكنه سرعان ما لاحظ أن أطفالًا آخرين قد بدأوا يتبعونه بصمت، يقتربون منه أكثر، يلتفون حوله وكأنهم قطيع صغير يبحث عن ملاذ. في البداية، شعر بالعجز، لكنه لم يتوقف. سار بهم إلى خارج السوق، نحو البحر، سار بهم حتى وصل إلى حافة الميناء، حيث كان الأفق مفتوحًا على مصراعيه. التفت إليهم ونظر في عيونهم الصغيرة التي تحاول أن تفهم. ثم نظر إلى السماء التي بدت كأنها تتجاهل كل ما يحدث على الأرض. في داخله كان هناك صراع يمزقه: بين شعوره بالمسؤولية تجاه هؤلاء الصغار وبين اليأس العميق الذي تلبسه.
قال بصوت هادئ لكنه مشحون بالغضب:
"لا أحد يستحق أن يشتريكم. العالم هذا لا يستحقكم."

ثم، بلا سابق إنذار، حمل أول طفل ورماه في الماء. صرخ الطفل قليلاً قبل أن يبتلعه البحر، لكن نجيب لم يتوقف. أمسك الطفل الذي يليه ورماه أيضاً، واحدًا تلو الآخر، بينما البحر يبتلعهم بصمت. الأطفال لم يقاوموا، وكأنهم فهموا أن هذا المصير أفضل من البقاء على بسطات السوق.
عندما انتهى، وقف نجيب وحده أمام البحر، يحدق في الموج الهادئ الذي أكل الصغار وكأنه يرحمهم. مد يده إلى جيبه، أخرج حفنة من النقود، ورماها في الماء. ثم تمتم:
"هذا العالم لا يستحقهم. هذا العالم لا يستحق أي شيء."

تقدم خطوة أخيرة نحو البحر، وأسلم نفسه للموج، ليلحق بهم في عالم آخر ربما يكون أكثر رحمة من هذا العالم الوقح.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المبادرة التصويبية الثورية لمحاربة الجوع السوري
- حكاية الولد الذي بال على قبر العائلة
- الزمن العكسي
- المجداف والجولاني
- أعشاب جولانية لمعالجة البطالة المقنعة
- الرئيس الذي لم ير المسرح
- حكومة الذقون
- أدب بلا أسوار
- صرخة في البرية
- الحرية تمر عبر المعدة
- مع اقتراب رأس السنة
- أهمية التمويل الذاتي للجامعات
- إلى تلك التي لم ألتقِها بعد
- الأستاذ الجامعي في زمن الذكاء الاصطناعي
- الكاتب والذائقة الأدبية في زمن الذكاء الاصطناعي
- مستقبل القصة القصيرة في زمن الذكاء الاصطناعي
- هل الأديب سياسي؟
- فريق الجيل الجديد
- ذيل السنونو
- العمل -أربعة- في ألمانيا


المزيد.....




- مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv ...
- الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ ...
- دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
- مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي ...
- ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك ...
- مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
- مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب ...
- انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني- ...
- الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج ...
- -شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة


المزيد.....

- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - أطفال للبيع