|
قصة :-لظى في خاصرة الطفولة-
سعاد الراعي
الحوار المتمدن-العدد: 8239 - 2025 / 1 / 31 - 22:11
المحور:
الادب والفن
لظى في خاصرة الطفولة 1. طفولة بين بيئتين:
كان الابن البكر يعانق العاشرة من عمره حين قررت العائلة أن تهاجر، لتلتحق بفرصة العمل التي توفرت لها في اليمن. عاش الطفل سنواته الأولى في بلغاريا، حيث تناغمت أجواؤها الاجتماعية والثقافية المنفتحة مع طبيعتها الخلابة. كانت العائلة وأرجاء الطبيعة هناك ملعبه الأثير، ومسرح طفولته المشرقة. نشأ في بيت مثقف وعلمي، بعيد عن قبضة التزمت الديني وأغلال العادات الشرقية التقليدية، فكان لذلك أثر عميق في تشكيل وعيه المبكر. في بيئته الأولى، تشرب حرية الاختيار والرفض، وتعلم أن يفكر بصوت عالٍ، ويعبر عن آرائه بلا تردد أو خوف. لكن القدر، في منعطف حاد، ألقاه بين ليلة وضحاها في عالم آخر، أجواؤه مثقلة بالقسرية والتقاليد الموروثة، حيث يُفرض كل شيء، الدين، العادات، والتقاليد والاعراف، بقوة التلقين والاكراه. وجد نفسه فجأة محاطاً بجبال صخرية صماء كجبال عدن البركانية، تحاصرها وحشة لا تخففها إلا أمواج البحر العربي التي كانت بالكاد تكسر جمود المشهد. أول العقبات التي واجهته كانت اللغة. كان يجيد البلغارية والروسية بطلاقة، بينما اقتصرت معرفته بالعربية على نطاق التخاطب العائلي. غير أن الأسرة، وبدعم خاص من والده، بذلت جهداً استثنائياً في تمكينه من تجاوز هذا الحاجز. أظهر الطفل انضباطاً مذهلاً واستيعاباً ذكياً مكّنه في غضون شهر واحد فقط من إتقان العربية نطقاً وكتابة. حين خطت قدماه لأول مرة داخل مدرسة في عدن، كان شعوره بالغربة جلياً. الفصل الدراسي بدا له أشبه بمرآة لعالم مختلف تماماً. اللهجة اليمنية، التي تتداخل فيها الحروف كأنها أسرار مغلقة، أضافت إلى إحساسه بالعزلة احساسا مضاعفا بالغربة. العلاقة بين المدرسين والتلاميذ كانت تحمل صرامة غير مألوفة، وكأنها امتداد لتقاليد عالم غريب عليه. أما زملاؤه، فقد كانوا ينظرون إليه ككائن غريب، يثير فضولهم وتساؤلاتهم فحاصروه بأسئلة تحمل أحكاماً مبطنة: • "هل أنتم مسلمون؟" • "لماذا لا ترتدي أمك الحجاب؟" • "لماذا لا يذهب والدك إلى الجامع؟" كان يجيبهم ببراءة وصراحة، كما تعلم في بيئته الأولى، دون أن يدرك أن صراحته ستؤدي إلى عزله وتعرضه للهجوم. كانوا ينبذونه ويصفونه وعائلته بالكفر، ويلقون عليه تهديدات تتصاعد من الوعيد بالنار إلى تهديدات بحرق المنزل والقتل. لم تتوقف المعاناة عند التنمر اللفظي. خلال الاستراحات المدرسية، كان يتعرض للضرب على يد زملائه، خاصة بعدما رفض حضور حصة الدين، التي كانت إلزامية في هذه المدرسة، خلافاً لما اعتاد عليه في بلغاريا. لم يكن يفهم لماذا يُجبر على شيء كان اختيارياً في مدرسته الروسية. في إحدى الحصص الأولى، سأله المدرس بنبرة متعجرفة: من خلقك إذا كنت لا تؤمن بالله؟" أجاب "أنا نتاج تطور طبيعي، كما تقول نظرية داروين." كانت الإجابة كالصاعقة. أدهشت المعلم وأحرجته أمام التلاميذ، فقرر استدعاء والده. واجه الطفل الاعتداءات الجسدية بالمثل، مما أثار غضب بعض أولياء الأمور، فتم استدعاء والده إلى المدرسة. إلا أن موقف الوالد كان صارماً وواضحاً؛ فقد أعلن أمام المدير: "من حق ابني الدفاع عن نفسه وعن رأيه. إنني أفتخر به وأثق بسلوكه، وعليكم أن تتعاملوا معه باعتباركم تربويين، لا بأساليب استفزازية كهذه." ورغم ما واجهه من تحديات خلال سنته الأولى، لم يسمح لهذا الواقع القاسي أن يطفئ جذوة اعتداده بنفسه وطموحه الإبداعي. في السنة الثانية، انصرف خلال فترات الاستراحة إلى النشاطات الفنية والثقافية المدرسية. برع في تصميم المجلات المدرسية، وأبدع في الرسم واعمال الترميم حيثما تطلبت. قبل نهاية السنة الدراسية الثالثة له، رسم لوحة جدارية كبيرة على حائط المدرسة الداخلي تمثل العلم والتعليم. كان يسكب روحه في لوحته، يطعمها بألوان الحلم، متجاهلًا تعبه بعد يومه المدرسي، مستبدلًا راحته بمتعة الإبداع. وحارس المدرسة يثبت السلم له كمن يثبت جناحي طائر على وشك التحليق. وحين اكتملت أثارت إعجاب الجميع. امتدحه مدير المدرسة أمام التجمع الصباحي للمعلمين والطلاب، ووقف يقدم الفتى، الذي كان يوماً غريباً منبوذاً، كقدوة للطالب النموذجي. هكذا، استطاع الطفل أن يحول غربته إلى مساحة للتميّز، ورفض الآخرين له إلى حافز للإبداع، ليصبح في النهاية نموذجاً يُحتذى به، وإن كان ذلك في عالم لا يعترف بسهولة بمن يختلف عنه.
2. حين تنسج الحرب ملامح الصبا:
كانت نيران حرب 1994 تلتهم الأرض بين شمال وجنوب اليمن. لم يكن الخوف استثناءً، بل كان رفيق كل بيت، يطرق الأبواب مع كل انفجار قريب. كغيرهم من الجنوبيين، عاشت الأسرة أيامًا يملؤها الذعر، وسط انقطاع الماء والكهرباء وكل سبل الحياة الأساسية. لكن وسط هذا الدمار، كان هو يقف، صبيًا لم يتجاوز الرابعة عشرة، لكنه يحمل في قلبه رجولة تفوق سنّه. كان يتجاوز المخاطر دون تردد، يرافق شباب الحي في سيارة حمل متواضعة، يخترقون أجواء الحرب، باحثين عن الماء قرب مناطق الاشتباك، مؤمّنًا للعائلة ما تحتاجه من ماء وقناني الغاز، مدركًا أن دوره لا يقتصر على كونه الابن الاكبر، بل كان رجل البيت الثاني، يواجه الحياة بمسؤولية يفرضها على كل من حوله، بصلابة لم تكن قابلة للانكسار. بعد الحرب، وجدت العائلة متنفسًا بانتقالها الى حيٍّ آخر في عدن، يُعرف بالحيّ الدبلوماسي، لوجود السفارات والأجانب فيه، وحيث كانت الحرية تتنفس هناك بجرعات أخف وطأة. قرب الشاطئ، وجد عالمه الخاص، ذلك الفضاء الواسع الذي يتسع لأحلامه وانطلاقته. كان يمضي ساعات ما بعد الظهيرة في تمارين الكاراتيه، التي كان يتعلمها في النادي الرياضي المجاور. قوّت الرياضة جسده، شدّت عضلاته، فجعلته يبدو كأنّه تجسيد للحيوية والجاذبية، صبيٌّ، بسمرته الدافئة وشعره الأسود اللامع الذي ينسدل على جبينه، يقف على الشاطئ عند الغروب، عاري الصدر، كأنه كائن من عالم آخر، محاطًا بنظرات الإعجاب وخاصة من الفتيات التي كانت تتابعه في صمت، تُغريه بالاستمرار، وتمنحه إحساسًا خفيًا بالتحرر من القيود التي أحاطت به طويلًا. لكن جسده القوي لم يكن سوى وجهٍ آخر لروحه المتعطشة للحرية والمعرفة. كان يلتهم الكتب بنهم، يتنقل بين رفوف مكتبة العائلة وكأنه يكتشف عوالم خفية. لم تقتصر قراءاته على القصص والروايات، بل امتدت إلى كتب الفلسفة والمحاضرات العميقة التي تخص والده، حتى جاء يومٌ فاجأ فيه والده بسؤال لم يكن يتوقعه: "كيف يمكن فهم قوانين مربع أرسطو في المنطق والاستدلال؟ وكيف تُقرأ؟" صمت الأب للحظة، متأملًا في دهشة، ثم سأله: "أين قرأت ذلك؟" فأجاب ببساطة: في كتاب، من المكتبة، يتحدث عن منطق ارسطو." لم تكن والدته بحاجة لأدلة لتدرك ما يعصف به من تغيرات، فقد قرأت مشاعره في نظراته، في حركاته، في التفاصيل الصغيرة التي لم يكن يصرّح بها. لاحظت كيف كان يراقب فتاة الجيران بإعجاب خجول، كيف كانت تمارينه في "البوكس" تمتد لساعات في فناء البيت، حيث يواجه جذع الشجرة الكبير، يضربه كما لو كان يحادثه، يبوح له بما يختلج في صدره، يشكو له ما لا يستطيع البوح به لأي أحد. كانت تلمح الفرحة التي تضيء عينيه حين تطلب منه إيصال شيء إلى منزل الجيران، أو حين تدعوهم لزيارتها مساءً. ينتظر بلهفة أن يحظى بفرصة، حتى لو عابرة، لرؤيتها. لكن للحرب طرقًا خفية في طمس الأحلام، فقد كان الشماليون، بعد سيطرتهم على الجنوب، يسعون لمحو كل ما يعتقدون أنه مخالفٌ لمعتقداتهم، فجّروا مستودعات المشروبات الروحية، بزعم أنها محرّمة. أحد تلك المستودعات كان قريبًا من منزلهم، وعندما دوّى الانفجار، ارتجّت جدران البيت كما لو أن الحرب اشتعلت من جديد. عاش الجميع لحظات من الهلع، وكانت صرخاته تملأ المكان، يغلبها يأس مختنق: " هذا يكفي، علينا أن نغادر اليمن... أن نعيش بسلام!" كان يردد بمرارة اليائس تلك المقولة اليمنية، الشعبية الشائعة: "اليمن من دخلها مفقود، ومن خرج منها مولود." في تلك اللحظة، لم يكن مجرّد صبيٍ يعبّر عن خوفه، بل كان روحًا تحلم بالخلاص، تنشد برَّ الأمان، تبحث عن موطئ قدمٍ حيث يمكنه بناء مستقبله بعيدًا عن أصوات الرصاص وأشلاء الأحلام المتناثرة.
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في حضرة الأم ووداعها.
-
بين غربتين
-
الخيانة الزوجية: أبعادها، دوافعها، وسبل التعامل معها
-
التبني كخيار انساني
المزيد.....
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|