|
يحيى السماويّ وقصيدة (حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون)
عبد الستار نورعلي
شاعر وكاتب وناقد ومترجم
(Abdulsattar Noorali)
الحوار المتمدن-العدد: 8239 - 2025 / 1 / 31 - 00:11
المحور:
الادب والفن
في قصيدته (حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون) بقافيتيها، إذ كتبها على مقاطع من شعر التفعيلة، ومن قافيتين مختلفتين، القاف في أكثرها، والنون في المقطعين الأخيرين، وهما خاتمة القصة الشعرية (المفاجأة)، بعد الحبكة الفنية شعرية الأداء بعيداً عن حبكة القصة السردية الحكائية الروائية، يروي لنا شاعرنا الكبير يحيى السماوي حكايةَ العودة إلى نُزُل بانكستاون حيث كان نازلاً في مدينة سدني، بعد رحلةِ يوم طويل، ولقاء حميم مع أصدقائه. هذه الحكاية (القصة) هي مزيجٌ من الرواية منْ خلال (السرد، ومثلث البداية والوسط والنهاية القصصية المنهجية)، ووصفه لطريق عودته الى مقامه في الفندق، وما عاشه من لحظات من الأحاسيس والمشاعر التي انتابته، والاشتياق الى سومر (العراق) وأحبابه هناك، واصفاً ايضاً مشاهداته لمدينة سدني. لم تنسَ مشاعرُهُ، ولا وحيُه، ذكرَ الإلهة السومرية الأم (اينانا) التي توحّدَتْ مع الشاعر – لكثرة ما أوحت له من قصائد، وتناصات شعرية – توحّدت معه في كينونةٍ واحدةً، ليصبحا كياناً متوحِّداً، ملتحماً لا انفصام بينهما، وروحاً واحدةً، في جسد وقلب الشاعر، وكأنّه بالمرور عليها لاشعورياً، وإنّما بوحاً عفوياً طبيعياً سلساً، يرمز بذلك الى الأم والحبيبة و(الأرض/سومر) عموماً، لكون إينانا رمزاً للخصب، والحبِّ بمعناه الشمولي، ومنه حبُّ الوطن. كلُّ هذا وهو يتوجّه صوب النُزُل، بمعنى أنّ الوحيّ هبط من عمق وادي عبقر ليلقي رحالَه في أحاسيس السماويّ الكامنة، والتي كانت على حافة الانتظار لتتفجر في سيلٍ شعريٍّ، إذ هبطَ المُفجِّرُ (شيطان شعره عشقائيل)، فكانت القصيدة بقافيتين، توحدهما اللحظة الحسية المُلهِمَة، مقسمةً على ما بثته من شحنة حكائية مسرودة شعرياً. وكما أسلفتُ فإنَّ عنصر القصِّ السرديّ، هو أحد عناصر إرهاصات وخصائص الشاعرية في جوانب من قصائد شاعرنا الكبير، والذي يحتاج إلى التأمل والبحث الاستقرائي التحليلي. السرد في القصيدة ليس السردَ بمفهومه الفنيّ القصصيّ المنهجي، وإنما بفنيته وبنيته الشعرية والشاعرية. فهو عند السماويّ ليس حكايةَ أحداثٍ وشخصياتٍ وأماكن وزمن معيّن، وصراع وحبكة وتشابك، وإنّما رواية شعرية تكتبها الأحاسيس والمشاعر التي اضطربت، وتلاطمت وتصارعت في نفسه وقلبه ووجدانه، فتشابكتْ وتواشجتْ والتحمت في صراع داخليٍّ بعيدٍ عن التنافر والانفصام، بل تلاقت وتلاقحت لتولد هذه القصيدة الباهرة التي رافقت شاعرنا لحظةً بلحظة، وهو يتوجه صوب مكان إقامته؛ لأنّها منْ مسارات وشعابِ مشاعرهِ وعواطفه، ومعاناته ومعايشته التي اجتاحته في لحظةٍ ذاتِ شعرٍ جيّاش فيّاضٍ، يملأ كأسَ المتلقي بلذيذ المدام، ومثير الكلام، فاخذت بتلابيب الولادة الشعرية نحو لحظة غياب صوفية عشقية، تتسامى على المكان والزمان، لترتقي مدارجَ الهيام بسكرةِ الكلام، يحكي لنا إلهامُه من خلالها بما اعتراه من مشاعر، ووجد، وحرارة، وسيل شعريٍّ يتدفق دون عوائق، ولا مطبات حسية، ليسردَ، ويصفَ ببانوراما فنيّة بلاغيةٍ، ولغةٍ مُترَفة، رقيقة الحاشيةِ، جميلةِ الإيقاعِ، برّاقةِ التصوير، عُرفَ بها الشاعر. بانوراما على شاشةٍ عريضةِ، ولوحةٍ ملوّنة بالوجدان، والبلاغة المُصاغةِ بمقدرة راقية التصوير والخَلقِ الفنيّ، تعرضُ ما مرَّ به، وكيف أضاع طريق النُزُل وهو في غمرة القصيدة، التي أمسكت بتلابيب أحاسيسه، فعايش هواجسها وإرهاصاتها ومخاضها، ليأتينا على جواد قصيدة جامحة، لا تنتظر الميدان لتتسابقَ، لأنّها هي السباقُ والمضمارُ نحو هدفها ونهاية رحلتها الشعرية (المفاجأة)، إذ وجد عنوان النزل في جيبه مع المفاتيح، مثلما هي (القصيدة) العِقدُ الفريدُ في جيدِ مملكة الشعر الخالدة. لقد أثار فينا الشاعر الكبير الفضولَ القرائيَّ، وشدّنا الى هذه الرحلة صوب نهايتها، بحبلٍ من الجمالِ والسحرِ، وفوق عربةِ لذة الاهتزاز الحسيّ والرعشة الشعورية، ليوصلنا سالمين غانمين، فائزين بلوحةٍ تشكيلية مدهشة مرسومةٍ بالكلمات والمشاعر، ملوَّنةٍ بريشةِ الخَلْق الشعري. فالحكاية والأحداث والشخصيات والمكان فيها هي جَمْعُ الأحاسيس والهواجس والمخيال الثرِّ التى هزَّت الشاعر، بل هي الشاعرُ نفسُه في ذروة مخاضِ القصيدة، وبقضِّه وقضيضِه.
القصيدة: الـصـبـحُ فـي سـيـدنـي طـويـلٌ كـانـتـظـارِ قـصـيـدةٍ عـذراءَ تـأبـى أنْ تـطِـلَّ عـلى الـورَقْ * ومـسـاءُ سـيـدنـي روضـةٌ ضـوئـيـةٌ أزهـارُهـا غـسَـقٌ بـحـبـلِ الـضـوءِ شُــدَّ الـى الـشـفـقْ * وأنـا الـغـريـبُ الـسـومـريُّ مُـفـتِّـشًــا عـنـي أحَـدِّقُ فـي الـوجـوهِ لـعـلَّ وجـهـًا سـومـريَّـا يـسـتـضـيءُ الـسـنـدبـادُ بـهِ يـمـدُّ إلـيـهِ صـوتًـا مـن لِـسـانِ الـضـادِ يُـنـجـي الـسـنـدبـادَ الـضـائـعَ الـحـيـرانَ مـن شـبـحِ الـغـرَقْ * الـوقـتُ مـصـلـوبٌ وشـمـسُ الإنـتـظـارِ بـلا ألـقْ * سـأعـودُ ـ قـال الـسـومـريُّ الـمُـسـرِفُ / الـمُـتَـزَهِّـدُ الـطـفـلُ / الـفـتـى الـشـيـخُ الـمُـخَـضَّـبُ بـالـتـبـتُّـلُ والـمُـضَـرَّجُ بـالـنَـزَقْ * سـأعـودُ ـ قـالَ ـ الـى مـتـاهـةِ غـرفـتـي فـلـربَّـمـا سـتـطِـلُّ مـن تـحـتِ الـجـفـونِ الـمُـغـمـضـاتِ إلـهـةُ الأمـطـارِ " إيـنـانـا " لِـتُـطـفـئَ غـابـةَ الـنـيـرانِ فـي جـسـدي الـمُـفـخَّـخِ بـالـشـبَـقْ * وتـؤمُّ بـيْ فـوقَ الـسـريـرِ صـلاةَ " حـلاّجٍ " بـمـاءِ لـظـى تـهـيُّـمِـهِ احـتـرَقْ * وتـصـبُّ لـيْ كـأسًـا مـن الـقـبـلاتِ .. تُـطـعِـمـنـي رغـيـفًــا مـن طـحـيـنِ أُنـوثـةٍ فـهـيَ الـوديـعـةُ كـالـحـامـةِ والـرقـيـقـةُ كـالـفـراشـةِ أو أرقْ * مُـتـعـكِّـزًا ظـلّـي مـشـيـتُ .. عـبـرتُ جـسـرًا .. جـزتُ سـاحـاتٍ وأرصـفـةً أضَـعـتُ الـدربَ .. أيـنَ أنـا ؟ سـأرجـعُ قـلـتُ فـي نـفـسـي ولـكـنـي نـسـيـتُ اسْـمَ الـذي أودعـتُ فـيـهِ حـقـيـبـتـي ودواءَ وحـشِ الـسُّـكّرِيِّ وشـاحـنَ الـتـلـفـونِ .. أثـقَـلـنـي الـرَّهَـقْ * قـدمـايَ مُـتـعـبـتـانِ تـشـتـكـيـانِ وخـزَ تـنـمُّـلٍ والـدربُ نـحـوَ الـفـنـدقِ اسـتـعـصـى عـلـيَّ فـمـنْ يُـعـيـدُ الـى مـراعـي الـقـوسِ ظـبـيَ الـسـهـمِ غـافـلَ مُـقـلـةَ الـراعـي الـمُـكـبَّـلِ بـالـمـتـاهـةِ فـانـطـلـقْ * نـحـو الـبـعـيـدةِ بُـعـدَ قـلـبـي عـن يـديَّ وقـربَ شـمـسٍ والـنـجـومِ عـن الـحَـدَقْ * وَعَـدَتْ بـثـوبٍ مـن حـريـرِ الـعـشـبِ يـسـتـرُ عُـريَ صـحـرائـي وتـغـسـلُ مُـقـلـتيَّ مـن الأرقْ * وتـهـشُّ عـن غـزلانِ رأسـي فـي مــفـازةِ غـربـتـي ذئـبَ الـقـلـقْ * فـأنـا اصـطـبـاحـي فـي الـمـسـاءِ .. وفـي الـصـبـاحِ الـمُـغـتَـبَـقْ * لأعـودَ طـفـلاً ضـاحـكَ الأحـداقِ دُمـيـتُـهُ الـغـسَـقْ ............... مُـسـتـهـزئـًا مـن سـوءِ ذاكـرةٍ يُـقـهـقِـهُ فـي قـرارتِـهِ الـغـريـبُ الـسـومـريُّ فـقـد تـذكَّـرَ أنَّ فـي مـفـتـاحِ غـرفـتِـهِ الـذي فـي جـيـبِـهِ عـنـوانَ فـنـدقِـهِ وخـارطـةَ الـطـريـقِ الـى الـمـكـانْ * مُـتَـعَـثِّـرًا بِـظـلالِ خـطـوتِـهِ يـسـيـرُ الـسـومـريُّ الانَ نـحـو سـريـرِهِ فـي نُـزْلِ " بانـكـسـتـاونْ " *** يحيى السماوي 21/3/2023
#عبد_الستار_نورعلي (هاشتاغ)
Abdulsattar_Noorali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غريبان
-
الليالي الطويلة
-
آب/أغسطس 2024
-
الضمائر
-
الجسد المرمر...
-
ديوان (جداريات) نسخة مخطوطة
-
عدنان الصائغ بين (ومضاتـُ... كِ)، و(ومضاتُهُ...)
-
عدنان الصائغ وديوان (ومضاتُ... كِ)
-
عدنان الصائغ وهديتُه ديوان (ومضاتُ... كِ)
-
قصيدة وشاعر
-
ديوان (مسامير من طين) لحميد الحريزي بين الواقعية النقدية وال
...
-
الشكّ
-
التسعون
-
علاء سعود الدليمي وقصيدة (الى آخر الملكات)
-
رواية -نزيف المسافات- والتوثيق التاريخي
-
سعدي عبد الكريم وقصيدة (الخارطة)
-
ديوان (الرصاصة والوردة) مخطوطة
-
ديوان (الميناء) مخطوطة
-
ديوان (تجريب) مخطوطة
-
ديوان (لوركا، انهضْ) مخطوطة
المزيد.....
-
في قطر.. -متى تتزوجين-؟
-
المنظمات الممثلة للعمال الاتحاديين في أمريكا ترفع دعوى قضائي
...
-
مشاركة عربية في مسابقة ثقافة الشارع والرياضة الشعبية في روسي
...
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|