إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري
(Eslam Hafez)
الحوار المتمدن-العدد: 8237 - 2025 / 1 / 29 - 21:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكن الفقدان لحظة عابرة، بل زمنا ممتدا يلتهم الذاكرة كنار تزحف على حقل قمح يابس. أتذكر أقدامنا ونحن نركض في شوارع المدينة الضيقة، هاتفين بكلمات كانت تزعج سكان المكاتب المزيفة بالرخام. كنا نحمل الوطن على أكتافنا كشمس لا تغيبها سحب الرصاص، نحلم بأن الأرض التي نحب ستعرف وجوهنا يوما، لكن الوطن المتخيل كان أجمل من وطن السجان.
الغربة ليست حقيبة ملابس وحيدة على حدود دولة غريبة، بل هي جرح ينزف وعيا. كلما أغلقت عيني أسمع صفارات إنذار سيارات الأمن تعبث بأحلام الجيران، أشم رائحة الغاز المسيل للدموع يختلط بدخان الخبز المحترق في أفران الفقراء. هكذا تصبح الذاكرة خيانة، تسترجع تفاصيل الوحش الجميلة وتنسى أن الوحش قاتل.
كنت أعتقد أن الثورة حكاية تنتصر دائما، لكنهم علّموني أن التاريخ يكتب بأسلحة من يملك حراس التاريخ. هربت لأنني لم أرد أن أكون جثة في تقرير سري، أو رقما في زنزانة لا يقرأها أحد. لكن الهروب لم يخلصني من أسئلة الأمهات اللواتي ودعن أبناءهن خلف القضبان: أأنت ناج أم خائن؟
في الغربة، يتحول الزمن إلى شظايا. أنام على صوت لغة لا أعرفها، وأصحو على نبض قلبي الذي ما زال ينادي باسم بلدة صغيرة لم تعد موجودة إلا في قصائد المنفيين. أحاول أن أبتكر وطنا من أوراق الجرائد القديمة، ألصق صور أصدقائي المفقودين على جدار غرفتي الباردة، أتحدث معهم عن اشتياقي لرائحة المطر على تراب مقبرة الأجداد، لكن صوتي يضيع في ضجيج المترو الذي يجرجر الغرباء إلى أعمال لا تشبه أحلامهم.
الوطن الذي حملناه شعارا يصير في المنفى سؤالا مرا: هل كنا حمقى لأننا صدقنا أن العدالة تُبنى بالشعارات؟ أم أن الحماقة الحقيقية هي أن تحب أرضا تلفظ أبناءها كالسموم؟
في الليل، عندما تخفت أصوات المدينة الجديدة، أسمع همسات رفاقي القابعين خلف القضبان: لا تنسَ... لا تستسلم. فأمسك قلما لأكتب عنهم، لكن الكلمات تتحول إلى شظايا زجاج تجرح الصفحات. كيف أروي حكاية وطن يسجن أحلام أطفاله، بينما العالم يغسل يديه ببرودة ويفرق اللاجئين على منصات المزاد السياسي؟
الفقدان الأقسى ليس فقدان المكان، بل أن تكتشف أن حلمك وطن لم يكن موجودا إلا في عينيك. أن تصير غريبا عن ذاكرتك نفسها، كشجرة تُقتلع من جذورها فتسقط أوراقها واحدا تلو الآخر، حتى لا يبقى منها إلا ظل بلا جسد.
لكننا، يا لغرابة الإنسان، نحمل الأوطان المهزومة في دمائنا. قد نغير أسماءنا ولغاتنا، لكن طنين الرصاص يبقى هتافا خلف جفوننا. قد لا نعود، لكن عودتنا تستمر في كل خطوة نمشيها ضد الظلم، في كل قيد نكسره، في كل قصة نخبرها عن أرض كانت وما زالت تستحق أن تُحب.
#إسلام_حافظ (هاشتاغ)
Eslam_Hafez#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟