أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - البراغماتية: فلسفة العمل والتجربة في مواجهة تحديات العصر















المزيد.....


البراغماتية: فلسفة العمل والتجربة في مواجهة تحديات العصر


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8237 - 2025 / 1 / 29 - 09:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود

الفلسفة البراغماتية ليست مجرد تيار فلسفي ظهر في لحظة تاريخية محددة، بل هي انعكاس لتغيرات جذرية في بنية التفكير الإنساني، حيث انتقلت الفلسفة من الاهتمام بالميتافيزيقيا المجردة والبحث عن حقائق مطلقة، إلى التركيز على الأثر العملي للأفكار ومدى فاعليتها في مواجهة التحديات اليومية. إنها الفلسفة التي نُسجت خيوطها من نبض الحياة الواقعية، لتصبح منهجًا يرتكز على التفاعل بين الفكر والتجربة، وبين النظرية والتطبيق، وبين الحاضر والمستقبل.

في أواخر القرن التاسع عشر، وفي خضم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي شهدها العالم الغربي، خرجت البراغماتية لتعيد صياغة الأسئلة الفلسفية الأساسية: ما هي الحقيقة؟ وما قيمة الفكر؟ وكيف يمكن أن تُقاس صحة الأفكار وجدواها؟ وقد أسس لهذه الرؤية مجموعة من الفلاسفة الأمريكيين البارزين مثل تشارلز ساندرز بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي، الذين حولوا وجهة الفلسفة من النظر إلى الأفكار كمُثُل مطلقة إلى اعتبارها أدوات لحل المشكلات الواقعية.

تتسم البراغماتية بعمق رؤيتها وجرأتها على تحدي القوالب الفكرية التقليدية. فقد رفضت الحتميات الفكرية الثابتة وارتأت أن الحقيقة ليست غاية مثالية بعيدة المنال، بل هي ما يثبت نفعه وجدواه في التجربة العملية. إن هذه الفلسفة تدعو الإنسان إلى أن يكون في قلب العالم، شريكًا فاعلًا في تغييره وتطويره، لا مجرد متأمل يقف على الهامش.

تنبع قوة البراغماتية من قدرتها على التكيف مع التغيرات المتسارعة في حياة البشر. فقد أثرت في العديد من المجالات، بدءًا من السياسة حيث دعت إلى سياسات واقعية ومرنة، وصولًا إلى التعليم الذي جعلته أكثر ارتباطًا بحاجات المجتمع وتطلعاته. كما امتدت إلى الأخلاق والعلم، حيث أكدت أن القيم والمعرفة يجب أن تكون خادمة لحياة الإنسان ورفاهيته.

ومع ذلك، لم تسلم البراغماتية من الانتقادات. فقد اتُّهمت بالنسبية المفرطة والتخلي عن الثوابت الأخلاقية والقيمية، ما يفتح المجال أمام تساؤلات عميقة حول حدودها وفاعليتها في مواجهة قضايا الإنسانية الكبرى. ورغم ذلك، يبقى تأثيرها حاضرًا وملهمًا في العالم الحديث، خاصة في سياق المجتمعات التي تبحث عن حلول عملية لمشاكلها.

في هذه الإطار نغوص في أعماق الفلسفة البراغماتية، لنستكشف نشأتها، وتطورها، ومبادئها الأساسية، وتأثيرها في الحقول المختلفة. كما نسبر أغوار الانتقادات التي وُجّهت إليها، ونناقش علاقتها بالواقع العربي، ومدى إمكانية استلهامها لمعالجة القضايا الفكرية والاجتماعية في عالمنا اليوم. إنها رحلة فكرية تعكس روح الإنسان الباحث عن الحقيقة التي تُترجم إلى عمل، وعن الفكر الذي يتحول إلى أداة للبناء والتغيير.

الفلسفة البراغماتية

الفلسفة البراغماتية (Pragmatism) هي تيار فلسفي نشأ في الولايات المتحدة خلال أواخر القرن التاسع عشر، ويُعتبر أحد التيارات الفلسفية المؤثرة التي ركزت على قيمة الفكر والعمل في الحياة العملية. تتميز هذه الفلسفة بأنها تضع النتائج والتطبيقات العملية في صلب النظرية، بعيدًا عن الميتافيزيقيا المجردة والبحث عن الحقيقة المطلقة.

الجذور التاريخية والتطور

النشأة والتأسيس:

ظهرت البراغماتية كرد فعل على الفلسفات الأوروبية التي كانت تميل إلى التجريد والتنظير.
يُعتبر الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس (1839-1914) المؤسس الأول للبراغماتية، وقد قدم أسسها النظرية من خلال مقالاته مثل "كيف نوضح أفكارنا" (1878).

التوسع والتأثير:

واصل ويليام جيمس (1842-1910) تطوير الأفكار البراغماتية، وركز على التجربة الفردية والتطبيق العملي في كتابه "البراجماتية: منهج جديد لربط الأفكار" (1907).
أضاف جون ديوي (1859-1952) بُعدًا اجتماعيًا وتربويًا، حيث أكد على أهمية التعليم كأداة لتغيير المجتمع.

الفلاسفة اللاحقون:

استمرت البراغماتية في التأثير من خلال شخصيات مثل ريتشارد رورتي الذي أعاد إحياء البراغماتية في القرن العشرين، وركز على ارتباطها بالليبرالية والديمقراطية.

المبادئ الأساسية للفلسفة البراغماتية

العملية والتجربة:

- الحقيقة ليست مطلقة بل متغيرة وفقًا للسياق والتجربة.
- لا تُعرَّف الحقيقة بمفهوم مجرد أو نظري، بل بما يثبت نجاحه عمليًا.

الفكر كأداة:

الفكر ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لحل المشكلات وتحقيق الأهداف.
"القيمة الحقيقية لأي فكرة تعتمد على تأثيرها العملي"، وفقًا لجيمس.

النفعية والنتائج:

الأفكار تُقيَّم بناءً على ما تُحدثه من نتائج مفيدة أو ضارة.
التركيز على "ما يعمل" بدلاً من "ما يجب أن يكون".

النقد للميتافيزيقيا:

البراغماتية ترفض الميتافيزيقيا التقليدية التي تبحث عن حقائق خفية وعميقة.
تدعو إلى تبني منهج علمي وعملي في التفكير.

البراغماتية والحقول المختلفة

في السياسة:

- البراغماتية تدعو إلى تبني سياسات مرنة تستجيب لاحتياجات المجتمع.
مثال: العديد من الأنظمة الديمقراطية الحديثة تتبنى منهجًا براغماتيًا يوازن بين المبادئ الثابتة والواقع المتغير.

في التعليم:

- أكد جون ديوي على أهمية التعليم العملي الذي يُعد الفرد للحياة الواقعية.
- يرى أن التعليم يجب أن يكون تجربة مستمرة ترتبط بمشكلات الحياة اليومية.

في الأخلاق:

- الأخلاق وفق البراغماتية ليست قائمة على قوانين مطلقة بل على القيم التي تخدم الأفراد والمجتمع.
- تُقيَّم الأفعال بمدى تحقيقها للخير العام.

في العلم:

- ترى البراغماتية أن النظريات العلمية ليست حقائق ثابتة بل أدوات تُستخدم لتفسير الظواهر.
- إذا أثبتت نظرية نجاحها في التطبيق العملي، تُعتبر "حقيقية" حتى تُستبدل بأخرى أكثر فاعلية.

نقد البراغماتية

الاتهام بالنسبية:

- يُنتقد البراغماتيون لأنهم يرون الحقيقة متغيرة ومتأثرة بالسياق، مما يجعلها عرضة للنسبية.
- يرى النقاد أن هذا يضعف الأساس الفلسفي للأخلاق والقيم.

غياب المعايير الثابتة:

- عدم وجود معايير ثابتة قد يؤدي إلى فوضى فكرية أو عملية.

التوجه المفرط نحو النفعية:

- التركيز على النتائج العملية قد يغفل القيم الإنسانية العميقة أو المبادئ الأخلاقية.

البراغماتية في السياق العربي

لم تحظَ البراغماتية بانتشار واسع في الفكر العربي، إلا أن بعض المفكرين العرب استلهموا مبادئها مثل التوجه العملي في السياسة أو الإصلاح.
يتجلى تأثير البراغماتية في بعض المشاريع الفكرية الحديثة التي تركز على تجاوز الصراعات النظرية إلى البحث عن حلول عملية.

وفي المجمل، تعدُّ الفلسفة البراغماتية تيارًا فكريًا مرنًا وواقعيًا، ساهم في صياغة أسس الحداثة في الولايات المتحدة، وأثر على مجالات متعددة. قوتها تكمن في قدرتها على التكيف مع تغيرات الواقع، لكنها تواجه تحديات في الحفاظ على الاتساق الفكري في ظل رفضها للحقيقة المطلقة.

تظل الفلسفة البراغماتية أحد أبرز التجارب الفكرية التي نمت في تربة الفكر الغربي، مُحدثة ثورة عميقة في فهمنا لدور الفكر في الحياة الإنسانية. إذ جعلت البراغماتية من "العمل" و"التجربة" و"النتائج" المعيار الأوّل للأفكار الصحيحة والنافعة، وأكدت على أن الحقيقة لا تُقاس بمعايير ثابتة أو نظرية بحتة، بل بقدرتها على تحسين حياة الإنسان وتحقيق رفاهيته في العالم الملموس. وبهذا المنظور، تحدت البراغماتية كافة الاتجاهات الفلسفية التي بحثت في معايير ثابتة وغير قابلة للتغيير، داعية إلى فكر عملي مرن يتفاعل مع المستجدات ويجيب على الأسئلة الحقيقية التي تطرحها الحياة.

ومن خلال مساهماتها العميقة في مجالات متنوعة مثل السياسة والتعليم والأخلاق والعلم، فإن البراغماتية قد قدمت لنا أداة فكرية قادرة على تجاوز الفوارق بين النظرية والتطبيق، لتفتح أمامنا آفاقًا جديدة من الفهم والتطوير. فهي تدعونا إلى تبني منهج يركز على حلول عملية تواجه التحديات اليومية، بدلاً من الانغماس في التفوق الفكري النظري الذي قد يظل بعيدًا عن واقعنا الحي.

رغم الانتقادات التي تعرضت لها البراغماتية بشأن نسبية الحقيقة واختزالها للقيم إلى ما هو عملي ومباشر، فإن فلسفتها تبقى بمثابة دعوة للإنسان ليكون جزءًا من حركة الحياة المتجددة، لا مجرد مراقب لها. ففي عالم اليوم، الذي يعج بالتحديات والتغيرات السريعة، لا تزال البراغماتية تقدم لنا نموذجًا مرنًا يُمكّننا من مواكبة هذه التغيرات، ويحثنا على اتخاذ قرارات مدروسة بعين فاحصة ويد فاعلة.

وفي السياق العربي، رغم قلة تأثير البراغماتية التقليدية، فإن الحاجة إلى فلسفة عملية وواقعية تزداد بشكل ملحوظ، خصوصًا في مواجهة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها المنطقة. قد تكون البراغماتية إحدى المفاتيح لفهم ديناميكيات هذه التحديات وتحقيق حلول مبتكرة ومستدامة.

ختامًا، تظل البراغماتية أكثر من مجرد نظرية فلسفية؛ هي دعوة للإنسان كي يعيد النظر في كيفية تعاطيه مع أفكاره ومشاعره وعلاقاته مع محيطه. إنها دعوة لاستثمار الفكر في بناء واقع أفضل، بعيدًا عن النظرية المجردة والتمسك بالآمال التي لا تمت إلى التطبيق بصلة. فالفكر البراغماتي في جوهره ليس إلا تجسيدًا لإيمان عميق بأننا نعيش لتغيير العالم، لا فقط لفهمه



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرأي العام الحراري: القوة الخفية التي تعيد تشكيل سياسات الح ...
- العصر النووي الثالث: بين سباق التسلح والدمار المحتمل
- العلمانية والإلحاد في العالم العربي: تحليل للمسارات الفكرية ...
- أزمة المعرفة في الفكر الأوروبي: الجذور الفلسفية والانعكاسات ...
- جدلية السلطة والحرية: قراءة فلسفية في حدود الديكتاتورية بين ...
- فلسفة فيتغنشتاين: تفكيك المعنى وإعادة بناء الفكر
- الإسلام في الغرب: قراءة استشرافية في فكر جيفري لانج
- إعادة تشكيل العلاقة بين الدين والسياسة: قراءة في أفكار مارسي ...
- الحرية والمعاناة: قراءة في جوهر الفلسفة الوجودية
- الهرمينوطيقا في الفلسفة الأوروبية: من تأويل النصوص إلى فهم ا ...
- الهوية السياسية للمجتمع الإسرائيلي: من الأساطير الدينية إلى ...
- اليهودية والصهيونية: أبعاد الصراع في سياق التحولات العالمية
- البيولوجيا الاجتماعية في عصر التقنية: القضايا الأخلاقية والت ...
- الفلسفة التحليلية: قراءة عميقة لتأثيراتها على الفلسفة الأورو ...
- السياسة الأمريكية في حرب غزة: كيف ساعد بلينكن في تغطية مجازر ...
- تفكيك التاريخ المزيف: قراءة في أعمال المؤرخ الإسرائيلي إسرائ ...
- كارل ماي: أسطورة الأدب الألماني ورحلة في عوالم الخيال والإنس ...
- مفهوم الأخلاق بين الفرد والمجتمع: قراءة في إرث الفلاسفة العظ ...
- العقل الجمعي: كيف تشكل الجماهير مستقبل الأمم؟
- بين الاستبداد والسياسة الواقعية قراءة نقدية في فلسفة ميكافيل ...


المزيد.....




- الرئيس الأوكراني لمذيعة CNN: أخبرت ترامب أن بوتين يخاف منه
- وصول 333 سجينا فلسطينيا إلى غزة بعد إطلاق سراحهم وإبعاد 24 م ...
- رئيس الوزراء الفلسطيني من مؤتمر ميونيخ: سيطرة حماس على غزة ك ...
- شولتس يرفض -تدخل الغرباء- في الديموقراطية الألمانية بعد خطاب ...
- الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف في كورسك
- غزة.. حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي على القطاع
- مرتضى منصور يوجه رسالة إلى محمود الخطيب ويعلن انتهاء الخلافا ...
- إشهار -رابطة معتقلي الثورة السورية- من أمام سجن صيدنايا
- شاهد.. أسرى محررون بغزة يحرقون ملابس أجبرهم الاحتلال على ارت ...
- -ساعة رملية-.. هدية من حماس إلى نتنياهو


المزيد.....

- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - البراغماتية: فلسفة العمل والتجربة في مواجهة تحديات العصر