بين الوجد والغياب: مناجاة الروح في مرآة الأنا قراءة صوفية في قصيدة : مناجاة – للشاعرة : ناديه عوض- فلسطين . بقلم : كريم عبدالله – العراق .

كريم عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 8236 - 2025 / 1 / 28 - 23:47
المحور: الادب والفن
    

بين الوجد والغياب: مناجاة الروح في مرآة الأنا
قراءة صوفية في قصيدة : مناجاة – للشاعرة : ناديه عوض- فلسطين .
بقلم : كريم عبدالله – العراق .
قصيدة / مناجاة / للشاعرة ناديه عوض تُعبِّر عن حالة وجدانية صوفية عميقة تجمع بين الشوق، العزلة، والاتصال الروحي، وقد اتخذت الشاعرة من لغة الحب والألم وسيلة للحديث عن أبعاد روحية تتجاوز حدود الزمان والمكان. ومن خلال تحليل هذه القصيدة، يمكننا أن نتتبع الثيمات الصوفية الأساسية التي تسكنها، بدءًا من الفقد، وصولًا إلى الاتحاد الروحي الكلي.
1. الوجد والغياب: البوابة الأولى إلى التوحد
القصيدة تبدأ بتعبير قوي عن الوجد (الشوق الشديد) والغياب. الشاعرة تفتح باب التأمل والتفكير الروحي حينما تقول:
بيني وبين نصفي الذي لا يبارحني
حين احتدمت الأشواق
ونضجت على نار الغياب
في هذه الأبيات، نجد الشاعرة في حالة تفاعل مع شعور غريب بالانفصال عن النصف الآخر من روحها. في التصوف، تُعتبر فكرة /النصف/ مفهومة على أنها روح الإنسان التي تبحث عن التوحد مع ما هو أكبر منها. وغالبًا ما يكون هذا /النصف/ هو الله، أو في بعض الأحيان المحبوب الذي يمثل تجسدًا للقدرة الإلهية أو الجمال الإلهي. هنا، نجد أن الغياب لا يُعد فقدًا بل هو حالة من الترقب لعودة المفقود، وهي تأكيد على العلاقة العميقة بين الذات والمحبوب.
ونضجت على نار الغياب
تُظهر لنا الشاعرة كيف أن الشوق في غياب المحبوب يتحول إلى نار تشتعل في الروح، في إشارة إلى أن الألم الناتج عن غياب المحبوب هو في الحقيقة عملية تطهير روحي، حيث تتحول هذه النار إلى زاد معنوي يُمكّن الروح من التوجه نحو المحبوب.
2. تجاوز الزمان والمكان: التفاعل بين الذات والمطلق
يومان وأنا خارج التواقيت
لا يرق لي جفن على جفنٍ
هنا، تخرج الشاعرة عن القيود الزمنية المعتادة، فتصبح الأيام دقائق بل وحتى لحظات غير قابلة للقياس. في التصوف، يُعتبر الفناء في المحبوب إلغاء للزمن، حيث تصبح الروح في حالة اتحاد لا يعترف بالحدود الزمانية والمكانية. فالشاعرة تصف حالة الشوق وكأنها تخرج عن نطاق الزمان، بحيث تصبح اللحظات التي تقضيها في انتظار المحبوب غير مُدرجة في حسابات التوقيت المعتادة. هذا يظهر كمفهوم صوفي قريب من تجربة /الوقت غير المحسوس/ في حالات الذوبان الروحي.
القصيدة تنتقل من العالم الزمني إلى عالم الروح الخالص، حيث يُعبر الصوفي عن فراغ الوقت في أثناء انتظاره للحظة الاتحاد مع الحق، وتظهر هذه الحالة في فكرة /خروج الشاعرة من التواقيت/، وهو عنصر أساسي في الفلسفة الصوفية التي لا تُقاس فيها اللحظات إلا بمدى قربها من الحقيقة الروحية.
3. الصراع بين الذات والآخر: الهروب من الذات إلى المحبوب
أهرب من نفسي إليك وأنت في قلبي وعقلي
هذه الجملة تحمل بين طياتها صراعًا داخليًا بين الذات (الأنا) والمحبوب. في هذه اللحظة، يبدأ الشخص الصوفي في الابتعاد عن الأنا التي تشعر بالحدود والانعزال، متجهًا نحو الآخر الذي يمثل الكمال والانفتاح الروحي. الهروب من الذات هنا ليس فرارًا بمعنى الهروب من المسؤولية، بل هو هروب من محدودية الأنا التي تعيش في ضيق الزمان والمكان إلى الاتساع الروحي الذي يُقدمه الاتحاد مع المحبوب، وهو أمر متكرر في تجربة الصوفي الذي يرى أن الانسحاب من حدود الأنا يساعده على الاقتراب من الحق.
المحبوب في هذه الحالة قد يكون رمزًا لله أو يمثل تجسيدًا مثاليًا لروحانية الإنسان، فالحب الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا طريقًا للتوحد مع الحقيقة الإلهية، مثلما عبر عنه العديد من الصوفيين مثل ابن عربي الذي أكد على أن الفناء في الله هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة.
4. التوحد والاتحاد: العودة إلى اللامحدود
معك اعتلي الغيوم فرحًا وبهجةً
الغيوم هنا هي رمز للطهارة والسمو الروحي. في الصوفية، يُعتبر الطيران في الغيوم استعارة للارتفاع الروحي فوق المادية والزمنية. الشاعرة تصوّر حالة من الارتقاء الروحي الذي يرافق التوحد مع المحبوب، حيث أن السماء أو الغيوم تمثل عوالم غير مادية، عوالم لا تحدها الحدود الفيزيائية للأرض، بل هي فضاءات تحلق فيها الأرواح في لقاءاتها مع المطلق.
5. ذوبان الأنا: الاتحاد الكلي مع المحبوب
بوصالك روحي تتماهى بروحك وأنت
أنا وكل الأنا
هذه الجملة تمثل أعلى درجات التوحد الروحي. في التصوف، يُعبر عن هذا الاتحاد بأنه /الفناء في الله/، حيث تختفي الحدود بين الذات والمحبوب وتصبح الأنا جزءًا من الوجود المطلق. الشاعرة هنا تؤكد أن الروح تتماهى بروح المحبوب، مما يعني أن الروح تصبح واحدًا مع المطلق، لا تفريق بين الذات والإله. هذا التماهي الكامل يُعبِّر عن الذوبان في الكمال، في حالة من الفرح الروحي الكامل.
خلاصة
قصيدة /مناجاة/ للشاعرة ناديه عوض تقدم تجربة صوفية كاملة تُعبِّر عن مراحل الصراع الداخلي، الشوق، الفقد، ثم التوحد الكامل. تتداخل فيها معاني الحب الإلهي مع حب الذات التي تسعى إلى الاتحاد بالمحبوب، ما يعكس رؤى صوفية عميقة عن فناء الأنا في الوجود المطلق. الرحلة في هذه القصيدة هي رحلة صوفية بامتياز، حيث يبدأ الشاعر/الشاعرة في عذاب الغياب وينتهي إلى الرفعة الروحية التي يتم تحقيقها من خلال التوحد مع المحبوب.
القصيدة :
مناجاة
بيني وبين نصفي الذي لا يبارحني
حين احتدمت الاشواق
ونضجت على نار الغياب
ولسان حالي يقول:
يومان وأنا
خارج التواقيت
لا يرق لي جفن على
جفنٍ
وأنتَ الذي نسيت أن
تكتب مجيئك
على نافذتي
روحي تناديك توأمها أنت،
أهرب من نفسي إليك وأنت في قلبي وعقلي، معك اعتلي الغيوم فرحاً وبهجةً
بوصالك روحي تتماهى بروحك وانت
أنا وكل الأنا
ناديه عوض

#كريم_عبدالله (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات