أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إدريس الخلوفي - من التحديث إلى التحضر: تحولات المدرسة المغربية وتأثيراتها في المجتمع















المزيد.....



من التحديث إلى التحضر: تحولات المدرسة المغربية وتأثيراتها في المجتمع


إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)


الحوار المتمدن-العدد: 8235 - 2025 / 1 / 27 - 21:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الملخص:

يتناول هذا المقال موضوعا مرتبطا بالمدرسة المغربية بين التحديث والتحضر، أو بتعبير آخر، بين الاستعمار والاستقلال. والمقال يحاول الإجابة عن السؤالين: هل كانت المدرسة التي احدثها المستعمر الفرنسي بريئة؟ وهل كانت غايتها الحقيقية تحديث المجتمع المغربي أم دمجه في ركب منظومة الاستهلاك الرأسمالي وضمان التبعية الثقافية لفرنسا؟ وهل تمكنت مدرسة الاستقلال من تحظير المجتمع المغربي وجعله مجتمعا متقدما بكل ما تحمل الكلمة من معنى ؟

هذا المقال يسعى إلى الإجابة عن هذين السؤالين من خلال محورين أساسيين، يتناول المحور الأول سؤال التحديث، وذلك من عبر رجوعه إلى مرحلة تأسيس المدرسة المغربية كما أرادتها فرنسا، بعد أن كان التعليم بالمغرب يقتصر على الكتاتيب ودور القرآن، أما المحور الثاني، فيركز على مدرسة المغرب المستقل عن الاستعمار الفرنسي والاسباني، أي بعد سنة 1956، وينتهي المقال إلى خلاصات تؤكد على الدور الفعال للمدرسة المغربية في تكوين الأطر التي ساهمت في بناء المغرب والرقي به، لكن بالمقابل لا زالت هناك رهانات كبيرة على هذه المدرسة، فإذا كانت قد نجحت نسبيا في ما هو تقني، لا زال أمامها الكثير في الجانب الإنساني والاخلاقي.

الكلمات المفاتيح: - التحديث ـ التحضر ـ التعليم ـ الإصلاح.









مقدمة:

تعتبر السوسيولوجيا الحضرية من أبرز فروع علم الاجتماع، وقد نشأت في أوائل القرن العشرين بالتزامن مع نمو المدن وتحضر المجتمعات، وقد كانت مدينة شيكاغو الأمريكية شاهدة على ميلادها مع كل من روبرت بارك وهربرت بلومر وجورج زيمل…. والمقال الذي نحن بصدد كتابته يحاول مقاربة موضوع التعليم في المغرب وعلاقته بالتحضر. لكن قبل الحديث عن هذه العلاقة، يجب أولا العودة إلى مرحلة حاسمة من تاريخ التعليم والمدرسة المغربيين، هذه المرحلة هي مرحلة الحماية، والتي تمتد من مطلع القرن العشرين حتى حصول المغرب على الاستقلال، سنتكلم في هذه عن علاقة التعليم بالتحديث، وهكذا سيشمل مقالنا محورين رئيسيين، أحدهما يخص التعليم والتحديث، والثاني يتعلق بالتعليم والتحضر.

فما هي خصائص المدرسة المغربية في عهد الحماية؟
ما علاقتها بنظرية التحديث كامتداد للفكر الاستعماري؟
كيف أصبحت المدرسة إبان الاستقلال، وهل استقلت هي الأخرى عن المخططات الفرنسية لمستقبل مستعمراتها؟
وما مدى مساهمة التعليم المدرسي في تحضر المجتمع المغربي؟

1.التعليم ونظرية التحديث

" إن نظرية التحديث/مفهوم التحديث، واحد من النظريات التي احتلت حيزا مهما من تفكير فلاسفة ومفكري القرن العشرين بأوربا، كما هو حال مفكري وعلماء عدد من الدول النامية أواخر القرن الماضي، وكان لمفكري المغرب نصيب في هذا المجال. وقد اعتبر عالم الاجتماع جاك بيرك أحد الرواد الذين أصلو للخطاب في مجال التحديث بالمغرب، مرورا بالسوسيولوجي المغربي ( الراحل ) عبد الجليل حليم، الذي أفرد لهذا الموضوع جملة من الكتابات العلمية والمقالات السوسيولوجية، هذا دون أن ننسى مساهمة ثلة من المفكرين الذين تناولوا الحداثة باعتبارها مفهوما مجاورا للتحديث، وعلى رأسهم الراحل محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، وطه عبد الرحمان…" (الخلوفي، 2017).



1.1 التحديث والامتداد الاستعماري.

إن مفهوم التحديث Modernisationهو من المفاهيم الأساسية التي انتشرت مع مطلع القرن العشرين، وقد كان التحديث أحد أبرز المظلات التي تخفي بها الدول الاستعمارية نواياها الحقيقية، فما المقصود بالتحديث؟ ورد في لسان العرب لابن منظور: حدث، الحديث، نقيض القديم... حدث الشيء يحدث حدوثا وحداثة، وأحدثه هو، فهو محدث وحديث، وكذلك التحدث... والحدوث كون شيء لم يكن... وحدث أمر أي وقع... (ابن منظور، صفحة 796).

وفي المعاجم الفرنسية يعرف لاروس Larousse التحديث بأنه: "عملية تهدف إلى تحسين وتطوير الهياكل والأنظمة الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والثقافية في المجتمع". (Dictionnaire Larousse contemporain)

أما في معجم روبرت Robert، "التحديث هو تحويل المجتمع التقليدي إلى مجتمع حديث من خلال التغيرات الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية". (Dictionnaire Robert de la langue Française)

وفي قاموس ليتري Littré: "التحديث هو تحديث الأفكار، الأساليب والهياكل لتحقيق التطور والتقدم" (dictionnaire littré de la langue française). من هنا يتضح أن مفهوم التحديث هو فعل مقصود الغاية منه هو التطور والتقدم، وبهذا تكون الحداثة هي نتيجة مثل التحديث.

وقد اقترن التحديث بالاستعمار، حيث عملت فرنسا على غرس ثقافتها وقيمها بالدول التي استعمرتها لتهيئ لفترة ما بعد خروجها، حتى تضمن التبعية الثقافية والاقتصادية على المدى البعيد. "وقد ميز عالم الاجتماع الفرنسي الآن تورين بين التحديث والحداثة، فالحداثة لها طابع داخلي endogène أما التحديث فله طابع خارجي exogène، لأن التحديث هو تلك العملية التي تقودها سلطة وطنية أو أجنبية بشكل ارادي volontaire أكثر مما هو معقلن، فنحن نتحدث عن مجتمعات في طريق النمو أو عن سياسات تنموية، لأننا نعتبر أن التحديث لا يمكن ان يحصل بشكل تلقائي كعملية داخلية، نابعة من المجتمع كما هو الشأن بالنسبة للحداثة في المجتمع الغربي." (الخلوفي، 2017).
وقد حرصت فرنسا إبان فترة الحماية على تغيير البنية الفكرية للمجتمع المغربي حتى تتلاءم مع التصورات والمطامح الاستعمارية التي تجعل من الدول المستعمرة سوقا اقتصادية وتابعا ثقافيا بعد خروجها، وتشير دراسات جاك بيرك إلى هذا الأمر خصوصا في كتاباته التي همت المجتمع المغربي. كما نجد سمير أمين في كتابه التطور اللامتكافئ يؤكد أن " الحالة التي وصلت إليها الدول النامية كنتيجة لاتباعها وصفة التحديث الغربية، تنطبق عليها عبارة تنمية التخلف، فالغرب شديد الحرص على استمرار تخلف المجتمعات النامية، وذلك حتى تستمر التبعية الاقتصادية والثقافية والعلمية." (أمين، 1974).

1.2 . التعليم كأداة للتحديث.

لقد واجهت فرنسا مقاومة ثقافية شديدة، فقد كان الإنسان المغربي يرفض كل ما له علاقة بالمستعمر، كان يصر على استمراره في استخدام المحراث الخشبي بدل الجرار، لأنه كان يعتقد أن استخدام الجرار يؤدي إلى رفع وزوال البركة، فالجرار من صنع الكفار، هنا ارتأت فرنسا أن تركز على تغيير البنية الثقافية، وقد عبر المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي عن هذا الأمر بقوله: " بعد ما أخضعنا الأجسام، يجب أن نخضع النفوس." فقد كان ليوطي يعتقد أن الاستعمار يجب أن يهدف إلى تكوين نخبة مغربية تتبنى القيم الفرنسية وتساهم في الحفاظ على السلطة الاستعمارية، و تدافع عنها بعد الاستقلال، ولهذا الغرض، قام بتأسيس نظام تعليمي فرنسي في المغرب، بهدف تكوين هذه النخبة، وقد اعتبر المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في كتابه "من أجل رؤيه تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية" أن هذه السياسة التعليمية الاستعمارية عملت على تدمير الهوية الثقافية، من خلال تعليم اللغة الفرنسية والقيم الغربية، كما عملت على خلق التفرقة بين أبناء المجتمع المغربي من خلال تعليم خاص بالنخبة، وآخر تقليدي لأبناء الطبقات الشعبية، وبهذا عملت فرنسا على استغلال التعليم لأهدافها الاستعمارية من خلال جعله اداة لتعزيز سلطتها، وتأخير تطور المجتمع ، فقد اعتبر التعليم عنصراً مكملا للتدخل العسكري، وفي من يقول الجابري : "لقد كان التعليم الفرنسي في بلادنا يحرص بشكل واضح على تأطير التلامين تأطيرا إيديولوجيا محكما... فمادة التاريخ مثلا كانت كلها إشادة بفرنسا وعظمتها... أضف إلى ذلك كله الإشادة باللغة الفرنسية وتحقير اللغة العربية ومحاربة الفكر الوطني التقدمي، والنتيجة المتوخاة من كل ذلك تركيز التفوق الفرنسي في عقول الأطفال المغاربة وجعلهم يشعرون بالنقص إزاء أنفسهم ولغتهم وثقافتهم ووجودهم الحضاري." (الجابري، 1983).

لقد فهمت فرنسا أن الوسيلة الفعالة للتحكم في المجتمع المغربي هي زعزعة هويته وارتباطه بالماضي وفي هذا يقول دوركايم : "عندما ندخل في معترك الحياة نجد حولنا مجموعة من الأفكار والمعتقدات والعادات كان غيرنا يسلم بها و يمارسها من قبلنا، هي تراث أجدادنا الذي سيظل كما هو، دون أن يعتريه أي تغير في حياتنا الفردية، وهذا هو ما يربطنا لا بمعاصرينا فحسب، بل بأسلافنا، هكذا نشعر بان هناك قوة لا شخصية أعلى منا، وجدت قبل ان نولد، وستظل قائمة من بعدنا، ونخضع لتأثيرها في كل ما نفعله، تلك هي قوة المجتمع، وبدون هذا الشعور بالرابطة التي تجمع، على هذا النحو، بين مختلف الأجيال، وتجعل منها مراحل متتابعة لتطور كائن واحد، ألا وهو الكائن الجماعي - بدون هذا الشعور يضطرب التضامن الاجتماعي إلى أبعد حد." (دوركايم، التربية الأخلاقية، 2015) هكذا إذا عملت فرنسا على كسر هذه الوحدة واللحمة الاجتماعية المغربية معتمدة التعليم كآلية، ومفرقة أبناء الشعب المغربي بين مدارس للخاصة وأخرى للعامة، مدارس للعرب وأخرى للأمازيغ، مروجة من خلال ذلك الظهير البربري، وهكذا بدأت في تحقيق حلم ليوطي في إخضاع النفوس بعد إخضاع الأبدان.

هكذا إذا كانت الحقبة الأولى من التعليم بالمغرب - ونقصد بالحقبة الأولى التعليم الكولونيالي- أي الحقبة التي عرفت تأسيس مدارس نظامية، هذا الأمر لا يعني أن المغرب قبل الحماية لم يكن به تعليم، فمنذ العصور الوسطى، كان المغرب يعتمد على التعليم الديني بالكتاتيب القرآنية، أي كان تعليما دينيا فقط، وبعد أن يتم التلميذ حفظ القرآن كان ينتقل إلى مستوى آخر يهم ضبط قواعد اللغة والتفسير والحديث، والمحظوظين أو الميسورين، كانوا يواصلون تعليمهم بجامعة القرويين بفاس أو بمدرسة بن يوسف بمراكش.
2. 2.التعليم والتحضر.

بعد الاستقلال 1956، شهد التعليم بالمغرب تطورا كبيرا حيث تمت إعادة هيكلة النظام التعليمي لتعزيز الهوية الوطنية والتنمية الاقتصادية والانتقال بالمجتمع المغربي من مجتمع تقليدي إلى مجتمع متحضر، مع الحفاظ على الثوابت المؤسسة للهوية المغربية، فما المقصود بالتحضر؟ وما علاقته بالتعليم؟ أو بتعبير آخر، كيف أسهم التعليم في تحضر المجتمع المغربي؟ وهل نجح في ذلك؟




في دلالة مفهومي التعليم والتحضر.

التعليم: كلمة تعليم مشتقة من الأصل علم يعلم علما وتعليما، والعلم لغة حسب بن منظور: "نقيض الجهل، علم علما وعلم هو نفسه، ورجل عالم وعليم... وعلمت الشيء أعلمه علما، عرفته، قال بن بري: وتقول علم وفقه، أي تعلم وتفقه... وأعلمه إياه فتعلم... وعلمته الشيء فتعلمه، أي تعلم وتفقه... وعلمه العلم وأعلمه إياه فتعلمه...وعلمته الشيء فتعلم... وعلم الرجل: خبره وأحب أن يعلمه أي يخبره". (ابن منظور، صفحة 3083).
وهكذا يكون التعليم لغة هو التلقين، ونقل الخبرات، والأخبار.
أما في المعاجم الفرنسية، فقد عرف لاروس التعليم Enseignement بأنه، "نقل المعرفة والمهارات من شخص لآخر، وتطوير القدرات الفكرية والجسدية للفرد." (Dictionnaire Larousse contemporain).

وفي معجم ليتري هو: "تعليم وتدريب الشخاص، ونقل المعرفة والخبرات" (dictionnaire littré de la langue française) ، وهو نفس التعريف الذي نجده في معجم روبير: "عملية تعليم وتدريب الأفراد، لتطوير مهاراتهم ومعارفهم." (Dictionnaire Robert de la langue Française).

وكلمة Enseignement الفرنسية مشتقة من الكلمة اللاتينية Insignare التي تفيد التعليم والتوجيه، وكلمة Signare التي تعني رمز.

أما إميل دوركايم فقد عرف التربية – باعتبارها وظيفة من وظائف التعليم – في كتابه التربية واليوسيولوجيا بقوله: " التريبة هي الفعل الممارس من طرف الأجيال الراشدة على من هم أقل خبرة ومراسا اجتماعيين، والغاية من ذلك، هي تنمية الجانب الفكري، والجسدي والأخلاقي لدى الطفل حسب ما يطلبه المجتمع السياسي والوسط الخاص الذي يعيش فيه المعني بالتربية." (Durkheim, 1968).

التحضر: " من حضر، والحضور: نقيض المغيب والغيبة، حضر يحضر حضور وحضور وحضارة، والحضر: خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، الحاضر: المقيم في المدن والقرى، والبادي: المقيم في البادية، والحضارة (بكسر الحاء) الإقامة في الحضر... والحضر والحضرة والحاضرة: خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار...والحاضرة والحاضر: الحي العظيم أو القوم." (ابن منظور).
أما سوسيولوجيا فيرى أنطوني غيدنز في كتابه "علم الاجتماع " أن التحضر هو أسلوب حياة إذ يقول: "دعا عدد من الباحثين في أوساط مدرسة شيكاغو إلى اعتبار النمو الحضري أسلوب حياة متميز بحد ذاته... فالتحضر يمثل شكلا من أشكال الوجود الاجتماعي لا يقتصر على توزيع الجماعات في أماكن إقامتها، أو عملها، أو مصالحها الاقتصادية. فالمدينة في جوهرها تمثل مركزا للسلطة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ومحورا تدور حوله جماعات وأنشطة متنوعة دون أن ترتبط فيما بينها بمجالات أو علاقات شخصية أو اجتماعية حميمة، وقد تتكون مثل هذه العلاقات في أوساط بعض الجماعات الإثنية أو المهاجرة، غير أنها سرعان ما تبدأ بالتفكك والانتشار مع تزايد الكثافة والتعقيد في حياة المدينة." (غيدنز).

من خلال هذه التعاريف نلاحظ أن التحضر يقوم على بعدين أساسيين، أحدهما يهم الجانب المورفولوجي للمجال، حيث نتحول من البادية ببنياتها العمرانية وبناياتها التقليدية والهشة، إلى المدينة بهندستها ومعمارها، وطرقها، ومرافقها الصحية والتعليمية والترفيهية، ومؤسساتها، وإداراتها...بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي، حيث نتحول من المجتمع الزراعي التقليدي الذي يقوم على اقتصاد الكفاف، إلى المجتمع الصناعي الذي يقوم على الإنتاج التسويقي، وهذا الأمر يبدو واضحا بالمجتمع المغربي الذي تحول من مجتمع زراعي في النصف الأول من القرن العشرين، إلى مجتمع صناعي بداية من أواخر نفس القرن، حيث نلاحظ بزوغ مجموعة من القطاعات الصناعية، كالسيارات، الطائرات، الصناعات الكيماوية كالأسمدة، الصناعات الغذائية كإنتاج الأغذية والمشروبات بمختلف أنواعها، الصناعات الدوائية... هذا وظهرت في السنوات الأخيرة صناعات جديدة تهم الطاقات النظيفة كالطاقة الشمسية، الطاقة الرياحية، ويتم الان الاشتغال على مشروع ضخم وواعد يهم انتاج الهيدروجين الأخضر...

أما الجانب الثاني والذي يعتبر مؤشرا أساسيا – بالإضافة لما سبق – على التحضر، فهو الجانب الإنساني، أي المتعلق بالإنسان، إن الأمر يتعلق بالتحضر كسلوك، لهذا يمكننا الحديث – إلى جانب التحضر كتجلي مادي - عن التحضر كسلوك إنساني، فالتحضر يتجلى في روح المواطنة، والسلوك المدني، وآداب الحديث، بل وحتى في أسلوب السياقة، واحترام الأسبقية، واحترام الاختلاف، ونبذ العنف والتطرف...هذه كلها مؤشرات يمكن أن نقيس بها درة تحضر أي مجتمع، وهكذا يصبح التحضر هنا هو السلوك الحضري، وقد أفرد ابن خلدون في كتابه المقدمة حيزا مهما للحديث عن البدو والحضر والفرق بينهما، فالبدو في نظره، وإن كانوا يتصفون ببعض الصفات الإيجابية كالشجاعة والقوة، كما أنهم أوفياء للتقاليد والعادات، متماسكون ومتحدون فيما بينهم، إلا أنهم نالوا من الصفات السيئة الشيء الكثير، فهم يتميزون بالنهب والغزو، كما أن الجهل والخرافات يسيطران على بنيتهم الفكرية، وبالتالي تتجلى في سلوكهم مختلف مظاهر التخلف، وقد اعتبر ابن خلدون أن التحضر مرحلة لاحقة للبداوة، فكل مجتمع متحضر كان في السابق بدويا حتى توفرت شروط تحضره، فالأصل هو البداوة، وفي هذا يقول: " قد دكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم، ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه، ولأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه، فالبدو أصل المدن والحضر وسابق عليهما... ولهذا نجد التمدن غاية البدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها، ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة..." (بن خلدون، 2004) .

2.2. دور التعليم في التحضر.

إذا كان التعليم الاستعماري، أي قبل الاستقلال، قد راهن على مفهوم التحديث، أي جعل المجتمع المغربي مجتمعا مسايرا للطموحات الاستعمارية، وسوقا رائجة للمنتجات الغربية، فإن التعليم بعد الاستقلال وجد نفسه كالقشة التي تتقاذفها الرياح، أو السفينة التائهة في بحر متلاطم الأمواج، فبين ورثة المستعمل من أصحاب الثقافة الفرنكوفونية، والتقليدانيين، دعاة العربية والتعليم الديني، وفئة ثالثة تريد مواكبة التطورات الدولية وتنمية العلوم، وآخرين رافضين لكل ما سبق، وجد التعليم بالمغرب نفسه بين مد وجزر، بين إصلاح وإصلاح الإصلاح، ويمكن تلخيص كرونولوجيا الإصلاح التعليمي بالمغرب كالتالي:

بعد الاستقلال المغربي من فرنسا، وأصبح للمغرب السيادة الكاملة على أراضيه وقراراته، قام بإطلاق مسيرة إصلاحات عمت كل الجوانب السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، ولم يستثن من ذلك قطاع التعليم الذي يعتبر عمود ما سبق، وأساسه الذي بني عليه، باعتبار أن تقدم البلاد وازدهارها مرهون بتعليم جيد ومستقل، في هذا السياق تم وضع عدة مشاريع لإصلاح قطاع التربية والتعليم، منذ 1957 إلى اليوم، إلا أن هذه الإصلاحات كانت غير كاملة واتسمت بنوع من النقص والعيوب وكثرة الإصلاحات وتواليها عام بعد عام.

وفيما يلي كرونولوجيا لأهم المشاريع والمراحل التي مر منها التعليم:
1. سنة 1956: تخصيص وزارة تهم قطاع التربية والتعليم، سميت بوزارة التربية الوطنية والشبيبة والرياضة والفنون الجميلة.
2. سنة 1957: ففي هذه السنة تم إنشاء اللجنة العليا لإصلاح التعليم، بعد تجاذب الآراء حول صلاحية التدريس باللغة العربية الفصحى، والتشكيك في قدرتها على احتواء العلوم والمعارف، لفسح المجال أمام اللغات الأجنبية في المدارس، وضمت هذه اللجنة جميع أنماط التعليم آنذاك، وقد عملت على إرساء مجموعة من المبادئ يمكن إجمالها في الآتي:
التعريب: التدريس باللغة العربية.
التوحيد: إخضاع المؤسسات التعليمية لسلطة واحدة، وهي وزارة التربية الوطنية، وأيضا توحيد البرامج والمناهج.
التعميم: تعميم ونشر تربية جيدة على ناشئة المغرب تحديد سلك ابتدائي من 4 سنوات وثانوي من ست سنوات.
المغربة: تكوين أساتذة وأطر تربوية مغربية.
3. سنة 1958: نظرا لعدم نجاعة أعمال اللجنة الأولى، تم إحداث لجنة ثانية سميت اللجنة الملكية لإصلاح التعليم، وقد اتخذت مجموعة من القرارات، أهمها:
التراجع عن قرارات اللجنة السابقة.
الرجوع إلى نظام السنوات الست في الابتدائي.
تدريس الحساب والعلوم بالفرنسية.
الاهتمام بالأطر بدل تعميم التمدرس.
4. سنة 1959: نظرا لعدم نجاع أعمال اللجنة الثانية، تم إحداث لجنة ثالثة سميت لجنة التربية والثقافة، واشتغلت على المحاور التالية:
تعميم التدريس.
تكوين الأطر.
إعادة هيكلة وزارة التعليم.
تأسيس المجلس الأعلى للتعليم.
العمل باللجن الثنائية.
5. من سنة 1960 إلى سنة 1964: الاشتغال على المخطط الخماسي، وقد انطلقت اللجنة من ضرورة الاشتغال على حاجيات البلاد من الأطر واليد العاملة بمختلف المستويات، وبناء مدرسة وطنية منسجمة تقوم على تحقيق مبادئ: التوحيد والتعريب والتعميم، بالإضافة إلى انعقاد المناظرة الوطنية سنة 1964 حول التعليم بغابة المعمورة بحضور 400 شخصية على هامش البرلمان وقررت اعتماد اللغة العربية في جميع مراحل التعليم، ولا يشرع في تعليم اللغات الأجنبية كلغات إلا ابتداء من التعليم الثانوي.
6. من سنة 1965 إلى سنة 1967: الاشتغال على المخطط الثلاثي الذي تراجع عن التعميم والتوحيد والمغربة بعد تقليص ميزانية التعليم، وقرر وزير التعليم بنهيمة آنذاك مجموعة من الأمور، أهمها:
تقليص شديد للتمدرس.
تمديد مدة الدراسة.
إلغاء التعليم التقني والمهني.
العودة إلى الازدواجية في الابتدائي.
7. من سنة 1968 إلى سنة 1972: انعقاد مناظرة إفران الأولى، لكنها لم تخرج بأية نتيجة، وبعدها صدور بيان علماء ومثقفي المغرب ودعوا فيه إلى:
التحذير من ازدواجية اللغة.
الدعوة إلى التعريب العام.
التحذير من التحقير الذي تواجهه اللغة العربية.
التأكيد على مبادئ التعريب والمغربة والتعميم.
8. من سنة 1973 إلى سنة 1977: يرى المخطط الخماسي أن إصلاح التعليم ضرورة ملحة من خلال العمل على ما يلي:
تنمية التمدرس.
مغربة الأطر.
الاشتغال على الحاجيات في التكوين.
الحد من ولوج التعليم العالي.
9. من سنة 1978 إلى سنة 1980: المخطط الثلاثي الذي أكد على تنمية التمدرس بالعالم القروي وحده، وتعزيز المواد التطبيقية ومغربة الأطر.
10. من سنة 1981 إلى سنة 1985: المخطط الخماسي قرر مجموعة من الامور، أهمها:
تعريب تدريس المواد العلمية في الابتدائي والإعدادي والثانوي، ومغربة الأطر، وإحداث نظام الأكاديميات وامتحانات الدورات التسع مقسمة على ثلاث سنوات في التعليم الثانوي.
بداية تدخل البنك الدولي في السياسة التعليمية.
صدور إصلاح يهدف إلى تعليم إجباري لجميع الأطفال في سن التمدرس، وانتقاء شديد على مستوى التعليم العالي، وتشجيع التعليم الخاص، وتشجيع التكوين المهني، وإلغاء نفقات تجهيز التعليم العالي.
11. من سنة 2000 إلى سنة 2010: الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ويعتبر هذا الميثاق مشروع تربوي متكامل متوافق عليه لإصلاح التعليم، يهم جميع مكونات النظام التعليمي، ويسعى إلى إرساء مدرسة مغربية.
نظرة عامة على الميثاق الوطني للتربية والتكوين:
القسم الأول: يتطرق إلى المرتكزات الثابتة، والغايات الكبرى، وحقوق الأفراد والجماعات ووجباتهم، والتعبئة الوطنية لتجديد المدرسة.
القسم الثاني: يشمل ستة مجالات، وهي: نشر التكوين وربطه بالمحيط الاقتصادي، والتنظيم البيداغوجي، والرفع من جودة التربية والتكوين، والموارد البشرية، والتسيير والتدبير، والشراكة والتمويل.
12. من سنة 2009 إلى 2012: المخطط الاستعجالي وهو بمثابة خارطة طريق تحدد الخطوات العملية التي يجب الالتزام بها من أجل إصلاح المنظومة التعليمية المغربية، ويعتمد المخطط الاستعجالي في قراراته على تقارير المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008.
ويستند المخطط الاستعجالي في جوهره على مبدأين أساسيين هما:
المبدأ الأول: التخطيط المبرمج الذي يتسم بالتدقيق.
المبدأ الثاني: التنفيذ الفوري للبرنامج، والتسريع في تطبيقه وترجمته ميدانياً وواقعيا.
أسباب وضع المخطط الاستعجالي تنقسم إلى: أسباب عامة وأسباب خاصة.
الأسباب العامة: ترتيب المغرب في التقارير الدولية ضمن الدول المتخلفة.
الأسباب الخاصة:
فشل الإصلاحات السابقة.
تعثر المدرسة المغربية بسبب ظاهرة الهدر المدرسي والتكرار والاكتظاظ.
تحول المدرسة الخاصة إلى مؤسسة تجارية.
ضعف كفاءة وتكوين المدرسين.
تفسخ منظومة القيم والأخلاق.
أهداف وضع المخطط الاستعجالي: ينبني المخطط الاستعجالي على مجموعةٍ من الأهداف ويمكن حصرها في الغايات التالية:
تحديد برنامج طموح ومضبوط.
اعتماد رؤية تشاركية تتيح إشراك كل الفاعلين داخل المنظومة التعليمية.
وضع عدة للتتبع عن قريب تسمح بالتحكم الكامل في عملية تطبيق المخطط الاستعجالي.
وضع أرضية لتدبير التغيير والتواصل.
مجالات المخطط الاستعجالي:
التحقيق الفعلي لإلزامية التعليم إلى غاية 15 سنة.
تحفيز المبادرة والامتياز في الثانوي التأهيلي والجامعة والتكوين المهني.
المعالجة الملحة لإشكالية الأفقية الحاسمة للمنظومة التربوية.
توفير الموارد اللازمة للنجاح.
13. من سنة 2015 إلى 2030: الرؤية الاستراتيجية وهي رؤية إصلاحية تربوية بلورها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي سنة 2014، بعد صدور تقرير له حول: تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013، والذي كشف عن جملة من الاختلالات والصعوبات التي واجهت تحقيق الغايات والأهداف المسطرة في الميثاق الوطني، ومن المرجعيات المعتمدة التي تأسست عليها هذه الرؤية: الدستور، والخطب الملكية (خاصة خطاب 2014م)، والميثاق الوطني، والاتفاقيات الدولية والمواثيق المصادق عليها ذات الصلة بالتربية والبحث العلمي.
وتتكون الرؤية الاستراتيجية من أربعة فصول، وثلاث وعشرين رافعة، وهذه الفصول هي:
الفصل الأول: من أجل مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص.
الفصل الثاني: من أجل مدرسة الجودة للجميع.
الفصل الثالث: من أجل مدرسة الارتقاء بالفرد والمجتمع.
الفصل الرابع: من أجل ريادة ناجعة وتدبير جديد للتغيير.
وتقوم الرؤية الاستراتيجية على جملة من المبادئ، منها:
الثوابت الوطنية.
الهوية المغربية الموحدة، والمتعددة الروافد.
قيم حقوق الإنسان.
منظومة التربية والتكوين رافعة للتنمية المستدامة.
الانخراط في مجتمع المعرفة والعلم.
مجالات تنزيل الرؤية الاستراتيجية: اعتمدت وزارة التربية الوطنية في تنزيل الرؤية الاستراتيجية على ثلاثة مجالات:
مجال الإنصاف وتكافؤ الفرص.
مجال الارتقاء بجودة التربية والتكوين.
مجال الحكامة والتعبئة. (كرونولوجيا إصلاح التعليم بالمغرب، 2020).

هذه إذن نظرة مقتضبة عن تاريخ إصلاحات التعليم بالمغرب بعد الاستقلال، لكن السؤال الأساسي الذي يتعين الإجابة عنه هو: هل ساهم التعليم في الانتقال بالمجتمع المغربي إلى خنة المجتمعات المتحضرة؟ الجواب هو نعم ولا، يبدو الجواب حاملا لتناقض داخلي، وهذا أمر واضح، لهذا نحتاج إلى بعض التحليل لإزالة هذا اللبس، وفي هذا السياق أستحضر كلام الفيلسوف الفرنسي ج.ج. روسو وهو يصف الخروج من الطبيعة إلى الثقافة محاولا إبراز أهمية المدنية، لكن في الوقت نفسه متأسفا على ما انحرفت إليه من ظلم وجور... إذ يقول: "إن الانتقال من حال الطبيعة إلى الحال المدنية أوجد في الإنسان تبدلا ملحوظا، إذ أحل في سلوكه، العدل محل الوهم الفطري، واكسب أفعاله أدبا كان يعوزه من قبل، عند ذاك فقط، إذ حل صوت الواجب محل الباعث المحرك الجسماني، والحق محل الشهوة، اضطر الإنسان، الذي لم يكن يراعي من قبل إلا ذاته، اضطر أن يسير على مبادئ أخرى، وأن يستشير عقله قبل أن يصغي إلى ميوله. إنه وإن يكن قد حرم في هذه الحال، مزايا كثيرة استمدها من الطبيعة، فلقد اكتسب بدلا منها مزايا أخرى كبيرة: لقد انجلت قواه العقلية ونمت، واتسعت أفكاره، ونبلت عواطفه، وسمت نفسه كلها حتى إنه كان يجب عليه - لولا أنه تجاوز الحد وأسرف في هذه الحياة الجديدة، مما جعله أحط منزلة منه في الحياة التي خرج منها- كان عليه أن يبارك، بلا انقطاع، الساعة السعيدة التي انتزعته من تلك الحياة إلى الأبد، والتي جعلت منه كائنا ذكيا ورجلا، بعد أن كان حيوانا بليداً محدود الفهم." (روسو، 1972).

ما وجه الشبه بين ما قاله روسو وموضوعنا هنا؟ إن وجه الشبه يكمن في التماثل الحاصل بين الانتقال من التوحش إلى المدنية، أو من الطبيعة إلى الثقافة، الذي وصفه روسو بالساعة السعيدة التي لا يمكن إلا لأحمق أن ينكر مزاياها، لكن، وخلف لكن يختبئ الشيطان، تم تحريف الغاية الحقيقية من العقد الاجتماعي التي هي الانتقال من الحق الطبيعي إلى الحق الثقافي والاستفادة منه بالتساوي وحسب القانون، فالقوي هو من وضع القانون، ليصبح ما كان مغتصبا بحق القوة في الطبيعة، يغتصب بقوة الحق في الحياة المدنية. لكن ما علاقة هذا بالتعليم والتحضر؟ إن مزايا التعليم بالمغرب لا تعد ولا تحصى، فهو ساهم في خلق أطر وطنية مغربية ذات كفاءة عالية في مختلف المجالات، سواء في الطب أو الهندسة، أو التعليم، أو التقنيات الجديدة كالبرمجيات وغيرها...ونحن نعلم أهمية المعارف والعلوم للنهوض بالأمم وتقدمها، ونتائج هذا تبدو جلية في تغير وتطور البنيات التحتية، فالمدن المغربية كالرباط وطنجة ومراكش...تضاهي إن لم نقل تتفوق على معظم المدن العالمية في مجال العمران، والطابع العصري للمنشآت... كل هذا بفضل مساهمة التعليم في تكوين الرأسمال البشري، الذي هو مادة البناء الرئيسة قبل الاسمنت والحديد، لكن هل بناء مهندسين وتقنيين وأطباء وأساتذة... قادرين على بناء وتشييد القناطر والطرقات وناطحات السحاب، كاف للقول أننا تحضرنا؟ هنا نعود للجواب السابق: نعم ولا. فمن الناحية المادية نعم، لكن من الناحية الأخلاقية والثقافية والإنسانية، لا. وهنا أستحضر طرفة تنسب للمفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة، تقول هذه الطرفة: " يذكر المرحوم المفكر المغربي المهدى المنجرة هذه الطرفة المغموسة في عسل الحكمة: عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم لاعتقادهم بأن لا أحد سيستطيع تسلُّق علوه الشاهق.

لكن خلال المائة سنة الأولى التي أعقبت بناء السور تعرضَّت الصين للغزو ثلاث مرات، دون حاجة لتسلُّق أو اختراق السور، إذ كان الغزاة يكتفون بدفع الرشوة للحّراس الذين كانوا يفتحون لهم الأبواب فيدخلون.

حكمة الطُّرفة أن الصينيين انشغلوا ببناء السور العظيم ونسوا بناء الحارس" (فخرو، 2014).

إن المنظومة التعليمية بالمغرب تسير بسرعتين مختلفتين، إحدى هذه السرعتين سريعة إلى حد ما، وهي التي تهم الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا، فكل الأسر المغربية ترغب في توجيه أبنائها توجيها علميا / تقنيا، ترغب في أن يكون ابنها / بنتها، طبيبا أو مهندسا، أو متخصص في البرمجيات والهندسة المعلوماتية، وهذه تخصصات والحق يقال، يمكن أن تمكن صاحبها من مدخول محترم، وتضمن له عيشا رغدا، لكن الواقع يثبت أن بعض المهندسين يمكن أن يكونوا مرتشين، وبعض الأطباء يمكن أن يتاجروا في حياة الناس، والأمثلة كثيرة دون ذكرها لتجنب التشهير، لأشخاص ذوي مستوى تعليمي عال، ومناصب مغرية، لكن سقطوا في هفوات أخلاقية قاتلة، وربما هذا هو السبب الذي جعل الجامعات والمعاهد العليا تدخل تدريجيا بعض العلوم الإنسانية ضمن برامجها التعليمية، كعلم الاجتماع، وعلم النفس، إن الأزمة الحقيقية أمام تحضر المجتمع المغربي هي أزمة أخلاق، فالمنظومة الأخلاقية هي التي تسير بسرعة بطيئة جدا لا تساير السرعة التي يسير بها التطور العمراني والتطور التكنولوجي، فالتقدم / التحضر لا يعني حيازة تكنولوجيا متطورة، أو مدن عملاقة، ببنيات تحتية متطورة، التحضر هو الذي يخص من يقطن هذه المدن، ومن يمتلك هذه التكنولوجيا، فقد يمتلك الإنسان آخر موديل سيارة فارهة، متطورة، مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، لكن يعلق على مقدمتها حذوة الحصان خوفا من العين.

إن منظومتنا التعليمية مطالبة بإعادة النظر في مقاربتها لمفهوم التحضر والتطور والتقدم، إن الاهتمام بالعلوم الحقة على حساب العلوم الإنسانية، سيخلق مواطنا شبيها بالروبوتات، مواطن ذكي علميا وتكنولوجيا، لكن غبي أخلاقيا ومتبلد المشاعر. إن التحضر الحقيقي هو أن يكون لدينا مواطن يحترم حقوق الانسان، والديموقراطية، وقيم المواطنة، أن يحترم الاختلاف ويؤمن بمبادئ التعايش وحسن الجوار، أن يكون قادرا على التمييز بين الخير والشر، بل وحاملا لمبدأ أخلاقي يجعله يتبع الخير ويبتعد عن الشر، وأن يحب الخير لكل الإنسانية ويحترم القوانين. عندما يكون المواطن بهذه الصفات، آنذاك يمكننا التحدث عن تحضر متكامل.


خاتمة:

إن علاقة التعليم بالتحضر هي علاقة وثيقة، فلا يمكن أن يتحضر المجتمع بدون تعليم، إن التعليم هو وسيلة خروج الإنسان من ظلمات الجهل، إلى نور العلم والمعرفة، لكن أي تعليم لأي تحضر؟ إن التعليم الذي يمكن أن يحقق هذا الهدف هو التعليم الذي يراهن على صناعة الإنسان، وعندما نتكلم عن الإنسان، لا نقصد بذلك البشر، أو الكائن الحي، بل نقصد الإنسان الحامل لقيم الإنسانية، أو بلغة كانط، الحامل لمبدأ أخلاقي، والذي يفهم جيدا قيم التعايش والتعاون والمشاركة بلغة راولز، والذي يعتبر الغيرية والإيثار مبدأ أساسيا في معاملته للغير بلغة دوركايم. إن برامجنا التعليمية تكاد تكون خالية من المواد التي تحمل القيم الأخلاقية، فما أحوجنا إلى تعليم يعلم أطفاله كيف يحترمون بعضهم البعض قبل أن يعلمهم كيف يمسكون القلم.



#إدريس_الخلوفي (هاشتاغ)       Lakhloufi__Driss#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكفايات في المنظومة التربوية بالمغرب أسسها وحدود نجاحها
- إصلاح التعليم بالمغرب: التايلورية الجديدة
- إصلاح الإدارة كمدخل لتحقيق الجودة بالمنظومة التعليمية
- رفاق السوء
- حكايات عادية جدا، الحكاية الثالثة عشر: رب ضارة نافعة.
- حكايات عادية جدا، الحكاية الثانية عشر، المصائب لا تأتي فرادى
- بعض معيقات الجودة بالمنظومة التربوية بالمغرب، دراسة حالة عبر ...
- تحليل الوثائق والمستندات كأداة للبحث السوسيولوجي، نموذج لدرا ...
- حكايات عادية جدا، الحكاية الحادية عشر: جريمة ميتافيزيقية
- حكايات عادية جدا، الحكاية العاشرة - القربان
- حكايات عادية جدا، الحكاية التاسعة - سيدي العربي
- حكايات عادية جدا، الحكاية الثامنة - عقول صغيرة جدا
- حكايات عادية جدا، الحكاية السابعة - الثقافة والطبيعة
- حكايات عادية جدا، الحكاية السادسة- همسات من الماضي
- حكايات عادية جدا، الحكاية الخامسة- تعبير الرؤيا
- حكايات عادية جدا الحكاية الرابعة- جنازة العربي
- حكايات عادية جدا، الحكاية الثالثة: الأسطورة
- حكايات عادية جدا - السفر-
- حكايات عادية جدا
- موضوعية علم الاجتماع وموضوعية عالم الاجتماع


المزيد.....




- ترامب يوجه هجوما لاذعا للزميل جيم أكوستا والأخير يرد
- تحرك ضد جنرال أمريكي منتقد لترامب.. إليكم ما أمر به وزير الد ...
- بوتين: سيادة أوكرانيا تقترب من الصفر ولولا دعم الغرب لها لان ...
- أين وصلت التحقيقات بعد عام من مقتل الطفلة هند رجب؟
- الهند.. مصرع 15 شخصا على الأقل نتيجة التدافع في أكبر مهرجان ...
- تحطم مقاتلة -إف-35- أمريكية في ألاسكا ونجاة طيارها (فيديو)
- الاستيقاظ المتكرر أثناء الحلم قد يكون علامة مبكرة لمرض خطير ...
- عشرات القتلى والجرحى في تدافع خلال مهرجان ديني شمال الهند
- فيديو محمد بن سلمان يعزي أبناء الأمير محمد بن فهد يثير تفاعل ...
- -عندما يريد شيئًا.. فإنه يحدث-.. تحليل خطة ترامب في غزة وخيا ...


المزيد.....

- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إدريس الخلوفي - من التحديث إلى التحضر: تحولات المدرسة المغربية وتأثيراتها في المجتمع