سعد الله مزرعاني
الحوار المتمدن-العدد: 8233 - 2025 / 1 / 25 - 11:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مسألة تشكيل حكومة جديدة بعد انتخاب الرئيس جوزف عون وتكليف الرئيس نواف سلام، تتداخل، موضوعياً، عناوين عدّة قديمة وجديدة. نورد، على سبيل المثال لا الحصر، مسألة عدم تطبيق كامل بنود «تسوية الطائف»، واعتماد تطبيق مبتور ومشوّه لجوهرها وهو الإصلاحات. الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أفلست البلاد والعباد بسبب النهب الهائل الذي ولدته عملية التحاصص ومنظومة المحاصصة؛ الانقسام الداخلي المستمر حول السياسات والخيارات الداخلية والخارجية؛ نتائج العدوان الإسرائيلي الذي رعت واشنطن مراحله كافة، داعماً ووسيطاً وحكماً، ما أفضى، في المرحلة الراهنة، إلى تمكين العدو، جهاراً نهاراً، من أن يحقق بعد وقف إطلاق النار في 27 ت2 الماضي، ما عجز عن تحقيقه أثناء القتال والمعارك.
ما هو حاضرٌ من عناوين الأزمات، وجميعه كبير وخطير، لم يغب عن المشهد الراهن عبر محاولتين: الأولى احتواء الوضع اللبناني بفرض وصاية أميركية مباشرة ومثابرة عليه يبشّر ويستقوي بها فريق واشنطن في لبنان وفي المنطقة. الثانية، تقديم تشكيلة حكومية، تكون، في المرحلة الانتقالية الحالية، أداة أساسية لسلطة تخدم المحاولة الأولى على حساب توازنات الداخل وبما يؤجج الصراع الذي سيحتدم في هذا الصدد، لترجيح كفة على أخرى وخيار على نقيضه.
بالمقابل، لا شك أن هذه العناوين تحتاج، من حيث المبدأ، إلى مقاربة شاملة في نطاق مشروع سياسي اقتصادي متكامل. هذا المشروع هو، بالضرورة، مشروع وطني يحتاجه لبنان بعد أكثر من مئة سنة على تأسيسه «كبيراً»، وثمانين عاماً على استقلاله. ذلك أن لبنان قد عانى من أزمات متلاحقة ومتناسلة بسبب سوء الصيغة المعتمدة لحكمه ولحكّامه. وهو عانى كذلك بسبب تلاحق الأزمات الناجمة عن المشروع الصهيوني في فلسطين الذي صادف تكريسه في الأمم المتحدة، بعد ثلاث سنوات فقط من جلاء قوات الانتداب الفرنسي عن تراب لبنان الوطني عام 1945.
لقد كان هذا المشروع الوطني المنشود عنوان محاولات وبرامج فئة من القوى السياسية اللبنانية، هي، تحديداً، تلك التي رفعت شعارات التغيير من موقع اليسار والاشتراكية مستلهمة، دون إبداع كافٍ، التجربة الاشتراكية الشيوعية السوفياتية. إلا أنها، للإنصاف، قدمت مساهمات نضالية كبيرة على امتداد تاريخ طويل، انطلق، هو أيضاً، قبل حوالى مئة سنة متزامناً تقريباً مع إنشاء «لبنان الكبير»! كان من نواقص تجربة اليسار الشيوعي تلك، الركون إلى النمطية، السائدة آنذاك، على حساب متطلبات الظروف «الملموسة» التي تملي البرامج والصيغ المرحلية والأولويات والتحالفات المناسبة وفقاً، أيضاً، لنضوج الشروط الموضوعية والذاتية وتفاعلها... هذا المشروع أيضاً، كانت إحدى محطاته تجربة «الحركة الوطنية اللبنانية» التي يمكن انتقاد الكثير فيها، إلا أنه تجدر الإشادة بـ«برنامجها المرحلي» ومحوره تحرير بنيان السلطة من العامل/ القيد الطائفي.
أشرنا إلى هذا الأمر للقول أيضاً إن في تاريخ العمل التغييري الوطني في لبنان، ما يتجاوز بكثير التجربة السريعة وغير المتبلورة لانتفاضة 17 تشرين الشعبية لعام 2019. لم يتح لتلك الانتفاضة، لأسباب خاصة وعامة، ذاتية وموضوعية (أبرزها التدخل الأميركي) أن تتحول إلى حركة تغيير فاعلة ومولِّدة لانعطافات جوهرية إثر أزمة هائلة وساحقة لم يحدث مثلها أبداً في التاريخ اللبناني. إذا أضفنا إلى ذلك صعوبات قوى التغيير التقليدية السابقة وضعفها، يتضح أننا أمام محصلة شديدة التواضع من التراكم في السنوات الست السابقة، ما يجعل قوى السلطة، بكل أطرافها وألوانها وسياساتها وعلاقاتها، في الداخل والخارج، هي التي ما تزال تتحكم في المشهد العام (رغم تبدل نسبي للتوازنات في ما بينها)، حتى في المرحلة الراهنة التي يحاول فيها القاضي نواف سلام تشكيل حكومة جديدة.
من البديهي الاستنتاج بأن على القوى الوطنية أن تعيد موحدةً بناء مشروعها الوطني: برنامجاً وأولويات وصيغة. وهو، بالضرورة، في المرحلة الراهنة، ذو عنوانين: الأول، مواجهة المشروع العدواني الصهيوني الأميركي في لبنان والمنطقة. الثاني، تحرير النظام السياسي من الطائفية، كأولوية، في سياق التحول نحو نظام مواطنة متساوية ومؤسسات فاعلة ودستور نافذ وبنية ديموقراطية في صلب القانون والدستور والآليات...
من هذه المقدمة، يتضح أن ما يحاوله الرئيس المكلف، بشأن تشكيل الحكومة، لا يشكل امتداداً أو انطلاقةً للمشروع المنشود رغم ما قد يمتلكه من رغبات إصلاحية. هذا الأمر الأخير يحتاج إلى التحرر من الوصاية الأميركية أولاً، وثانياً، إلى ميزان قوى سياسي شعبي ليس متوافراً حالياً كما أشرنا.
لكن سلام يصر على القول إنه يستلهم، في التأليف، الدستور، وتحديداً تسوية «الطائف» أو إصلاحات «الطائف». من حيث المبدأ هذا الأمر سليم. شرطه، طبعاً، اندراجه ضمن تصور متكامل وصحيح ومثابر وفاعل بشأن المحتوى والآليات. ذلك أن «الطائف» أصبح كـ«قميص عثمان» مسألة خاضعة للاستنسابية والغرضية. أمّا الواقع، فإن الطبقة الحاكمة، وهي الممثلة للبرجوازية الكبرى التجارية والمصرفية والتابعة والطفيلية، قد قاومت، بالإجماع، وبضراوة، إصلاحات «الطائف»، وهي حوَّلت المؤقت إلى دائم. أدى ذلك إلى خلق صيغة حكم هجينة عاطلة ومعطِّلة على النحو الذي يعانيه اللبنانيون منذ عام 1992 إلى اليوم.
كان الرئيس فؤاد شهاب يتساءل بعد كل التباس أو تباين: «ماذا يقول الكتاب؟» (ويقصد الدستور). الآن يعلن الرئيس المكلف أن «الكتاب» لا يفارقه في لقاءاته واستشاراته ومشروع حكومته العتيدة. حسناً، فليحدد القاضي سلام ما هي صيغته المتكاملة لتطبيق الدستور بعد تعليق تطبيق إصلاحاته لمدة 33 سنة! بديهي، في خدمة ذلك، أن يعلن الرئيس المكلف أن البيان الوزاري سيتضمن تعهداً بتشكيل «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية»، وفقاً للآلية المنصوص عليها في الدستور نفسه. من شأن ذلك أن يؤدي إلى انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي في ربيع السنة القادمة، ما سيشكل إنجازاً تاريخياً يضع حداً للتحاصص، وبالتالي للاستباحة والنهب وانعدام المحاسبة والرقابة... في الحقول كافة!
في ظل غياب ميزان قوى، في البلاد، مقترناً بقوة تنفيذية شعبية وسياسية راجحة، ليس من المتوقع أن تتعدى محاولة سلام بعض التحسينات الجزئية في نطاق «المرحلة الانتقالية» في الدستور. وهي مرحلة طائفية كان ينبغي أن تنتهي «بعد أول مجلس نيابي منتخب على أساس المناصفة» (أي عام 1996) وفقاً للإلزام الماثل في المواد 22 و24 و95.
يبقى الأهم، وهو موضع تساؤلات في ضوء ظروف وملابسات وشروط انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف القاضي نواف سلام: ماذا عن العدوان الإسرائيلي المستمر والمتفاقم بالانتهاكات الجسيمة: بدور ووساطة ورقابة ووصاية أميركية! هنا الأولوية وهنا تكثر التساؤلات والمخاوف، بما يجعل إطلاق «المشروع الوطني» الجبهوي، آنفاً، مسألة مصيرية!
#سعد_الله_مزرعاني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟