|
تأمّلات في فلسفة الوحدة
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 8233 - 2025 / 1 / 25 - 09:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مهما كنتَ محاطاً بهذا أو ذاك، ستشعر في معظم الأحايين بِوحدتك، وأمام واقع الأمر هذا، قد تتعلّم بالضرورة كيف عليكَ أنْ تحبَّ وحدتكَ بأناقةٍ واثقة، لأنّكَ تعرفُ من أنّكَ ستمضي دائماً، وكأنّ ما كانَ لم يكن. وكأنّكَ في وحدتكَ أصبحت ترى ذاتكَ على نحوٍ لم يسبق لكَ أنْ رأيتها من قبل، تختال سطوعاً في مدارج الفكر، وتنسجُ من ثقتها كيانها المستقلّ، وتسمو بوجودها حرَّةً في أعالي الفهم، وتختار بعنايةٍ فائقة كلّ ما من شأنهِ أنْ يدفعها تخلّقاً وألقاً وإبداعاً نحو فرادتها المتميّزة.
إنّكَ في كلّ تجلّيات وحدتكَ الخلاّقة، إنّما تختار أسلوبكَ وطريقتكَ في تبنّي بدائلك المعرفيّة، تلك البدائل التي ترى من خلالها إنّكَ قد أحببتَ كثيراً نظرتكَ المستقلّة حول الأفكار والمفاهيم، وأحببتَ في الوقت نفسه جهدكَ المعرفيّ في تعالقاتكَ الحرَّة مع ما يجعلكَ خالقاً لفكرتكَ ونظرتكَ وفهمك. لذلك تعرفُ أنّكَ تحبُّ وحدتك، لأنّها تحرّركَ من النظرة الشموليّة للحياة، وتدفعكَ تالياً إلى فهم ذاتكَ بناءً على كلّ تلك الأفكار التي صغتها تماهياً مع قدرتك على خلق واقعك الفكريّ المستقلّ، الواقع الذي يعزّز فيك التزامكَ الجميل بوحدتك التي وجدَّتَ فيها شغفك، وحريّتك، وعقلك ومتعتك، وتعيشها كما لو أنّكَ لم تعش سواها.
إنّك بالتأكيد تحيا في وحدتك سعيداً، لأنّكَ فيها ومن خلالها تكون صادقاً مع ذاتك، وصادقاً مع انشغالاتك الفكريّة، وصادقاً في اكتساب افهاماتكَ وفقاً لإرادتك الحرَّة. لا تتملّق القطيع ولا تتزلّف للسائد والشائع والمكرر، ولا تطربُ للتصفيق، ولستَ مِمّن يركضون خلف الأضواء الفاضحة الزائفة. إنّه فقط صدقكَ في وحدتكَ الملهمة، الذي يجعلكَ تبرع جيّداً في تفكيرك وتساؤلاتك، وتعرفُ في الوقتِ ذاته إنّه متى ما كنتَ سائراً في جموع الهاتفين بأفكار القطيع، ستفقد وحدتكَ الخلاّقة، وستفقد معها معرفتكَ بذاتك. ولذلك ترعى وحدتك وتحميها من شرور الانقياد، وليس ذلك إلاّ تأكيداً من ذاتك الحرَّة على أنّ الجمال يسطع لامعاً في تداعيات عقلك الحر.
وسواءً أكنتَ هنا أو هناك، ستعرفُ دائماً ما الذي يُبقيكَ حرَّاً ومعطاءً وجميلاً في وحدتك. إنّه عقلك الطَّليق المستقلّ الذي يضعكَ في سلامة الموقف، لأنّه يملكُ أنْ يُخبركَ عن ثباتهِ الواثق في اختراع وجوده، وعن أنّ الحياة قائمة بكلّ تنويعاتها وألوانها في تفكيرك وكيانك. ولأنّه العقل الذي يستطيع أنْ يفهم وحدتكَ بكلّ ما فيها مِن جمال الفكر والإبداع، ويرعاها بالتفاني والإخلاص والحبّ، وتبقى أنتَ كما أنت مدفوعاً برغبتكَ الشديدة في حماية وحدتكَ الخلاّقة، ليس ترفاً أو تصنّعاً، أو تراجعاً، أو نفوراً من الآخرين، بل لأنّك تريد أنْ تستشعر دائماً بذاتك، وهيَ تسعى إلى تحقيق كينونتها الجوهريّة من خلال انفتاحها الحرّ على تجربتها الملهمة في تجلّيات الوحدة.
وإنّك إذ تخلق وحدتكَ، تخلق معها واقعكَ الفكريّ المستقلّ، لأنّك تبرع هنا في اقتناص المعنى من جدوى فرادتكَ الفلسفيّة، وفي الوقت نفسه تعرفُ أنّ الأصل في الوحدة إنّما هو الخَلق، خلق الفهم في ادراكات العقل، وهوَ الفهم الذي يمنحكَ رؤيةً أجمل لواقعك، ترى فيها ذاتك على نحو متجددٍ ومستقلٍ وخلاّق. وفي كلّ ذلك تعتقد واثقاً إنّكَ تحمي وحدتكَ من التشويش والتمييع والانكسار، لأنّكَ تملك قدرتك على فهمها وفقاً لإرادتك العقليّة في تعزيز اختيارك الحرّ سبيلاً إلى ذاتكَ في اختبار التفرَّد، وكم في هذا التعالق البديع مع وحدتك، تمضي متخفّفاً من اكراهات الثقافات التي تريدكَ خاضعاً لِهيْمنتها التلقينيّة واليقينيّة.
الوحدة في فلسفة الإنسان الحرّ، لا تعني أبداً الانغلاق والتقوقع والهروب، بل تعني تحديداً قدرته على خلق كيانهِ المستقلّ، وتقصّي فضائلها بمتابعة ما يحبُّ أنْ يراه جميلاً وخلاّقاً في فكره وتفكيره وجهده. إنّه هنا يستدعي انفتاحه الحرّ على تجربته الفكريّة، حيث يستطيع أنْ يرى فيها جمال التعالق مع أفكاره من دون أنْ يقع في سذاجة التفسيرات الجاهزة، ويراها في الوقت ذاته باعثة على صقل مهاراتهِ الذاتيّة في التلقائيّة الخلاّقة، والتعبيرات الحرَّة، والارتجال الملهم والإبداع المتميّز.
إنّكَ تفهم وحدتك وتحبّها، لأنّكَ تتعلّمها وتتدرَّب عليها، وترى فيها واحدةً من أفضل اختياراتك على مستوى الذات. وأنتَ إذ تتعلّمها وتتدرَّبُ عليها، فذلك لأنّكَ تريد منها أنْ تتدرَّج معك في مستوياتٍ تتوافق مع فهمكَ وتفكيرك، وفي تلك المستويات من التفكّر والفهم، ينشأ بينكما ذلك التصوّر الملهم، لأجمل الجوانب الخلاّقة الباعثة على تركيز جهدكَ الفكريّ في تكوين طريقتكَ المناسبة، لِخلق تفرَّدكَ الذاتي في مستويات التفسير، والاستنطاق، والإبداع، وحتّى إنّكَ تختبر من خلالها قدرتكَ على الشعور بوحدتك متفلسفاً، ومتحرراً، ومنطلقاً ورحباً.
ودائماً ما تحاول أنْ تتركَ في وحدتكَ أشياءً من جمال بصيرتك في حريّة القلب والعقل، لأنّك في هذه الحريّة تملك أنْ تعاين وحدتكَ على نحوٍ يزيدكَ إلهاماً وتطلّعاً وتفرّداً. وكم ترى فيها قلبكَ يتهادى حرَّاً على ناصية الشغف، وكم ترى فيها أيضاً شعوركَ يتنامى حبّاً بقيمتكَ الحقيقيّة في معاني التفلسف، والخَلق، والحريّة والتفرَّد، وكلّ ذلك يُفضي بكَ إلى تشكيل ذاكرةٍ تراكميّة ملهمة، ترعى من خلالها وحدتكَ بالحميميّة والود والشغف، والإخلاص والتفاني.
بالتأكيد أنتَ تمارس من خلال وحدتكَ حقّكَ الإنسانيّ كاملاً في أنْ تعايشها فكراً وحريّةً، واستنطاقاً، وجمالاً وإبداعاً، وكلّما ذهبتَ بعيداً في وحدتك، كلّما كنتَ قريباً من ذاتك. فالمسافات في حريّة الوحدة، تقاس بمدى قدرتكَ على تفعيل احساسكَ العميق بجمالية عقلكَ في رصد تحوّلاتك وانشغالاتكَ وتطلّعاتك، وما بين كلّ مسافةٍ وأخرى ثمّة متّسعٍ لرؤيةٍ أجمل، ترى من خلالها كيف أصبحتَ تشعر بِوحدتك حرَّاً ومنفتحاً ومبادراً، لأنّك تملكُ أنْ تراها بعقلك وبكلّ كيانك، وتملكُ في الوقتِ ذاته أنْ تستخلص من جمالها، جمال إبداعك، وفرادتك وحريّتك.
لا أحد يستطيع أنْ يهزمكَ في وحدتك، لأنّ فيها ملاذك الملهم، وحريّتكَ الكاملة، وتفكيرك المستقلّ، ورحابتكَ الخلاّقة، ولذلك مَن لا يستطيع أنْ يبني وحدته، يبقى مهزوماً وهشّاً، ومتاحاً لكلّ افتراسات العقل الجمعيّ. وحده الذي يسعى إلى فرادة المعنى في اشتهاءات المعرفة، وإلى خلق الرؤية في أفق التفكير، يبقى حرَّاً وقويّاً في وحدتهِ، لأنّه يملك في كلّ ذلك حكايةً ملهمة عن ذاته، وأفكاره، وتأمّلاتهِ وحضوره، ويملكُ ذاكرته المعرفيّة المستقلّة في انشغالات الإبداع والتميّز.
في فلسفة الوحدة، الذات تصير كياناً مستقلاً، يقوم على أساس الموضوع الذي تعمل عليه بناءً وتفلسفاً، وفكراً، فالذات هنا ليست وهماً أو زيفاً أو فراغاً، إنّما هيَ في أصلها حركةٌ تتماثل وجوداً مع وجودها الإبداعيّ والفكريّ. وإنّها في الجانب الآخر من ذلك، تملكُ حقيقتها في كونها اكتشافاً لحقيقتها في أفق الخَلق والتغيير والتطوّر، من حيث إنّها تملك في وحدتها كلّ تبصُّراتها الثاقبة، في أنْ تكون حياةً كاملة، تحملُ في جوانبها كلّ إمكانات التجديد والحركة، والمبادرة والحريّة.
وأجمل الأشياء قد تتخلّق إبداعاً وتميّزاً وجمالاً في ذاكرة الوحدة، لأنّها الذاكرة التي لا تخون، ولا تشيخ، ولا تضعف، تستمد استمراريّتها من حركتها الدائمة في أفق التفكير والنقد والاكتشاف، وتتجدَّد في رحابة التغيير والفهم والتفكّر، وتبقى مخلصة للعقل الذي يؤدي دوره التنويريّ، في أنْ يكون متنوّراً ومتبصراً في اكتشاف المعاني التي تجعله بارعاً، في تجاوز الثقافات الاستلابيّة والتلقينيّة واليقينيّة. إنّها الذاكرة التي تكشف عن براعة الفكر في تجلّيات الوحدة الخلاّقة، وهي ذاتها التي تأخذ بالإنسان بعيداً إلى أجمل ما في وحدتهِ من معاني الحريّة والتفرَّد والإبداع.
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحريّة في فلسفة التغيير
-
المُحبّون يعيشونَ كثيراً
-
الإنسان وفلسفة الاختيار
-
رسائل عابرة
-
الحالمونَ لا يفشلونَ أبداً
-
فلسفة العقل ما بين الذاتِ والحقيقة
-
وداعاً يا صديقي الجميل
-
أنْ تحيا سعيداً في فلسفتك
-
أنتِ يا سيّدة الحرف الطَّليق
-
الإنسان في فلسفة التعبير
-
الإنسان.. متفلسِفاً
-
في أنْ يحضر الإنسان جميلاً
-
الإدراك في العقل الفلسفي
-
الحبُّ والمعرفة ... فلسفيّاً
-
الحياة في فلسفة الذّاكرة
-
المقدَّس وثقافة التّقديس
-
في التّفلسفِ جوهر الخَلق
-
الإنسانُ في فلسفة التّكامل
-
المباركية .. جماليّات في ذاكرة التراث
-
ذاتَ حلم
المزيد.....
-
نوع حليب يؤخر سن اليأس عند المرأة
-
أمريكا تفتقر إلى أدوات الضغط على روسيا
-
لماذا تحايل ترامب على القانون لإنقاذ تيك توك؟
-
ملك البحرين يبحث مع ترامب هاتفيا أهمية العمل لضمان الأمن بال
...
-
الولايات المتحدة تعلن تمديد وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائ
...
-
البرهان يزور مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم بعد استعادت
...
-
اليمن: مطار الريان يطلق أول رحلة مباشرة إلى القاهرة بعد توقف
...
-
وزير الدفاع الأميركي: ملتزمون بحصول إسرائيل على القدرات العس
...
-
حماس تسلم الوسطاء قائمة -رهائن المرحلة الأولى-
-
من داخل التحقيقات.. معلومات وتفاصيل جديدة عن هجوم 7 أكتوبر
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|