|
صنع في بغداد رقم 2
رياض رمزي
الحوار المتمدن-العدد: 8232 - 2025 / 1 / 24 - 20:31
المحور:
الادب والفن
صنع في بغداد رقم 2 رياض رمزي بعد ما يزيد على خمسين عاما زرت منطقة سكن عشت فيها فترةً تقارب العشر سنين قبل أن أغادر البلاد نهائيا. ذهبت إلى حي المعلمين في منطقة بغداد الجديدة. هي لا تشبه تلك الزيارات التي كان يقوم بها السيد الأعظم لجنات عدن وهي تحفل بألوان نضرة: أخضرٌ مشع، أزرق مشتعل، أصفر بلون الذهب، وسهول تمتد على مرمى الأفق، ومن هناك تهب نسائم تمنع تقاعس خلائق الرب، من أخرجهم وفق تصميم إلهي فكانوا يجيئون إلى الدنيا دون شعور باعتلال المزاج بل مجيئا مترافقا مع نسيم مصمم لدفع ستائر تول تنفتح بمقدار يحدده الرب ليمنع المواليد الجدد من السقوط كأنه يتقصى قدرتهم على القفز، أي تلك الفترة قبل أن تظهر على وجوه المواليد الجدد وحمة تسمى " أخت بغداد" بحجم دينار سكّه النظام الجمهوري العتيد واعتبره أهم إنجاز له. حين انتشرت تلك الوحمة على الخدود أطلقت الفتيات الشعر مرسلا على الجانبين ليس كموضة ولكن لإخفاء تلك العلامة، وليس إكراما لعيني" ذباب بغداد" من جعل السكان يدفعون لها أتاوة مجيئهم إلى الدنيا. خطر للكثيرن السؤال عن زوال ذلك الذباب نهائيا كي تصفو وجوه ساكني العاصمة. لم تكن دائرة خيارات ورثة المبتلين بشرور الذباب كثيرة. جاء من هو أكثر شراسة منهم: زبانية العسكر، الحرس القومي، طلائع البعث، الجيش الشعبي، الحرس الجمهوري، وكل من خرجوا من الجوامع الكبيرة بعد أن ارتووا من مياه غدران بطل استخدامها منذ مئات السنين. وكل من جاء إلى العاصمة محتفلا بمجيئه بصخب يشبه وصول بحارة مهووسين، جوعى إلى الشاطئ. هاجمتني ذكريات منطقة سميت باسم معلمين يقعون في مراتب السلم الجماعي تحت منتسبي الحزب، العسكر، التجار، الشرطة. في التراتبية المهنية يقعون في نفس موقع أرباب العمل الصغار كأصحاب الحوانيت والباعة المتجولين. حياتهم تشبه عطاشى ظلوا طوال عمرهم يمنّون أنفسهم بشربة ماء عذب.الأغلب الأعم منهم جمعوا مدخرات قليلة تكفيهم، عند حصولهم على قطعة أرض، للبناء حتى الوصول إلى " الباتلو" أي البناء لمرتبة تؤهلهم الحصول على قرض من المصرف العقاري، وأحيانا يقتصدون طوال حياتهم مع وقفات قصيرة في اليوم لتناول الخبز مع البصل. كانوا بعد الكد ينامون كما الحجر بأحلام وحيدة أن يلتحق بجبل يضمن له سلامة زمجرة الرياح. كان أبي أحدهم. كان يشتري بالأقساط ثلاجة بالآجل من شاب اسمه ناصر طريجة. يسافر ناصر على متن دراجته الهوائية إلى أماكن الريف الهوائية يقايض المرطبات بالدجاج الحي. يعود راجعا عندما تشارف الشمس على الغروب يزلق ترباس دراجته التي تدفع صندوقا أماميا يحسب الوقت بالضبط كي يتمكن الدجاج الموقوف زمنا من الوصول حيا. تعلّم ناصر من حركة الدجاج تربية إحساس لديه بالحضور الحي للدجاج وهو يسير من مناطق الريف إلى المدينة، مثل فلاح لا يمارس المهنة في الصيف خوفا من رياح الخماسين التي تتلف المحصول. المناخ وحده من يثنيه عن تجارته. جاء احترامه لوالدي كشيوعي كانت لديه مئات القطع من الأراضي لم يستخدم منصبه للتربح منها، كي يرتفع من القاع إلى العلى مثل رجل دين يضع عمامة سوداء وسرديات قديمة ومرشة ماء الورد كي يخفي معايبه وآثامه في أمكنة محجوبة من الشمس. أذهبوا واسألوا عن عيس غيدان المعلم الشيوعي ستجدون هناك ذكريات انتهت صلاحية دوامها ولم تحظ بتحليل معمق لجيل اعتمر شوارب تشبه حذاء الفرس ثم الآن لحى تنزلق على الوجه مثل أبالسة الخبث التي خرجت نادمة على مجموعة من الشيوعيين سببوا للشياطين ضيقا بعداوات لن تنطفئ، كأن الأقدار لم تعاقبهم بما فيه الكفاية، حتى جاءت كوارث تقول" واصلت ترصدي، و لم أكن نائمة وراء الباب أنتظرُ دوري دون جدوى". حتى أصحاب الرتب العسكرية والشوارب واللحى باتوا يقولون" ليس صحيحا أن الرب لا يبالي بعذابكم. فهو من يعلمكم أن الحياة نصر وهزيمة، والآن حلّ وقت نصرنا". تحريتُ بذرة الكارثة فوجدتها مغروسة في تربة تعهدتْها استخبارات مختلفة وزرعتها في أصص سقتها مرجعيات أفتت بأن الشيوعية كفرٌ والحاد وهي فتاوى وسّعت هامش التمكين من معلمين ومثقفين قُتلوا حين صوبت المرجعية أصبعها كما نحو أشجار سننتظر طويلا حتى تُزهر وحتى يتسنى زرع أشجار ستغدو باسقة وعملاقة مثل حسين الرضي، متي الشيخ، محمد الخضري... نعم سننتظر طويلا وسيلزمنا ما يقارب المائة عام حتى تبلغ شدتها وتُزهر. ختم السيد الرب كلامه" النعمة التي أرسلتها عليكم بذرتموها كعبء لا يُحتمل". أضاف السيد الرب قائلا "قسوة ضرورية لبلد انتهك حرمات سادته". أحد هؤلاء السادة تربى على الاعتقاد أنه يساهم في زرع نبتات ستكتفي بذاتها . منهم أبو خليل وابنه خليل... وكل من حدث لهم ما لم يكن في الحسبان. ذهبت إلى حي المعلمين إلى نفس الشوارع التي تشبّع جوها برائحة ماء، كأنما ظل في مكانه منذ زمن مغادرتي عام 1974. جاءت مياه أخرى لم تزله بل أجبرته على الفيض على الجوانب مسبّبة كومات من وحل أوقف مرور الماء، معقّدا حتى دور شمس عادة ما تأخذها رحمة بمن جافاهم الحظ وهم يتخاطبون بسعال أو بصوت مزكوم ومنهم عيسى غيدان الذي كان يخرج صباحا ببنطلون به شيّال، يستنفذ قواه على وضع آجر وسط المياه ثم يضع أخشابا على الآجر كي يسهل السير على أولاده الذاهبين إلى الدرس صباحا، كأن خروجه رسائل سرية فيها نوع من تحد كي لا يلوح للطبيعة المجافية بمنديل أبيض. عدم الخضوع الشيء الوحيد الذي كان له في دنياه. كان جاره أبا خليل يحييه كل صباح وهو يقول ممازحا" علمتنا يا أبا عصام رياضة القفز على الحواجز". من نسل هذا الرجل جاءت أخواتي ابتسام وسهير وهديل. أثر فيهن الجو الماطر والقفز على العقبات، حتى استطعن استيعاب جوٍ كفل لمستقبلهن قدرا من التنعم. شمس واهنة حجبتها غيوم سوداء تحولت في فترة الضحى إلى أمطار تواصل هطولها حتى المساء من غير كلل وعندما توقفت قبل الغروب بقليل ظهرت سماء زرقتها شاحبة. تذكرت وجه أبي خليل العبوس يومها، اللعب بالأنف، الشرود الدائم، النظر نحو الجوانب كرباعية في ذلك اليوم كانت تقتصر عليه هو الذي عانى الخيانة في حياته بسبب الجو. في ذلك الصباح الممطر وشديد البرودة خرج أبا خليل حاملا خليل البالغ من العمر خمس سنوات الذي وصلت درجة حرارته إلى عتبة الموت، كما تخرج سفينة تغادر الميناء إلى وجهة غير معلومة والقبطان مصرٌ على المغادرة وهو يرى سفنا لا تغامر بالخروج من المرفأ. وحدها القطط والكلاب السائبة من كانت تسير بدوت خوف من بلل. المعلم أبو خليل كان يقفز في المخاضات دون خوف من بلل أو تحاشيه، لم يكن يبحث عن جزر مرتفعة فهو على دراية بمن يحمل وإلى أين هو ذاهب. وصل الأب البدين مع معطفه الثقيل المانع للحركة دون شعور بانحدار قواه فكان يسير مثل سفينة تمخر بحرا أمواجه شديدة، تقدم متفاديا نزوات المناخ كأنها مصنوعة على حجم قدراته. نظر لحظة خروجه نحو السماء بانتظار توقف الأمطار لكن قرقعة جديدة دفعته خارج البيت. هبت ريح قوية تعوّد المحليون عليها حين لا تجسر حتى العصافير على الطيران، وتلتزم اللقالق بأعشاشها. حين عاد من المستوصف. لم تتوقف الأمطار حينها مكافأة على إخلاصه لكن ما أشاع السرور في أرجائه وصفة الطبيب حين بعثه إلى صيدلية قريبة خرج منها حاملا علبة أسبيرين وتحاميل، مثل فائز في مسابقة جري يحمل الكأس كجزء وفاقا لأبوته. وصل العداء خط النهاية يغمره شعور بانحدار قواه. أتذكره حين وصل الباب مثل ديك أنتصر في موقعة عراك لكن آلام جراحه منعته من الاحتفال بنصره وهو يرى ظهره خلوا من الريش ومنقاره مجردا من القوة ويجد في هتافات الجمهور لغوا لا يعوض ما لحق بجناحيه من عبث. وكان كل الجيران: من ينظر إليه ومن يهنئه بسلامة الوصول وهو يغالب تعبه مطلقا ضحكات اضطرارية، ينظر إلى موقع القدم حيث يقود ابنه في جو لم يتوقف فيه المطر بدون لفتة من مكأفأة علوية تأمر، إكراما له، غيوم شباط بالانسحاب وتعترف بحق الصحو كدليل على وجود خيط قرابة وتقدير نحو منظر معلم حين ترى الملائكة ملحمة إعجازه تتعاطف معه وتقع تحت تأثير يثقل على وجدانها. ولكنها أقرت بعجزها. لم يكن توقف المطر أو غياب الصحو غير سوء تقدير كي لا تفسح الوقت لأبي خليل للخروج إلى الحديقة وربما التنزه عصرا. لم يكن الأب يعلم أنها لن تدّخر للابن المريض مستقبلا أوفر حظا. علامة لم تخطئها أم خليل التي قررت شراء خروف، لكن عسر الحال جعلها تكتفي بأحدى دجاجاتها الكبيرة التي سبق لها أن احتفظت بمكسبها منها كاملا من البيض. قرّ عزم أم خليل على التضحية بدجاجة قضى قانون الطبيعة أن تتوقف عن منح البيض، خاصة في مجتمع لا يتسم بحسن تقدير لانجازات كبار السن. لقتْل الكبار ضرورات تقتضي طوي فراش العشرة معهم. كانت أم خليل وهي ترى الدم المنبجس من رقبة الدجاجة تمد يدها إلى أعلى وقد تعاظم انشراحها وهي تفكر: إن كان دفع البلاء، عن "خلاوي" كما كانت تسميه، أمرا مقطوعا به "فلتهلك كل دجاجات العالم". حين بلغتُ منطقة المعلمين كانت أول فكرة تراودني السؤال عن "خلاوي". كان أبا خليل، كما أذكر، لم ينم ساعتها سوى قسطا ضئيلا من النوم ساهرا قرب فراش ابنه وهو يعاني من مكابدات أشد وطأة هي رؤية ابنه المصاب يعرق بموجات من الحمى. كان يفتح النافذة ليس كمن يستروح الهواء بل ليستمع إن كان صوت الأمطار أصبح شديد الخفوت. لم يكْفر المعلم المبجل الذي كان يدرس اللغة العربية والدين ليقول وهو يتطلع إلى السماء ويقول حتى مازحا " وماذا يهمه من أمري؟ لا بد أنه هيأ لي شمسا ستأتي وسنستدفئ بها بعد فوات الأوان". ذلك أقصى ما كان يحلم به. برغم أنه شاهد البعوض في الغروب يتجول تحت شمس ذاوية مستدفئا بها. عاد الرجل وهو ينظر نحو سماء زخرت بغيمات سوداء كثيفة.... وصلتُ الشارع الذي سكنتُ فيه وغادرته قبل خمسة عقود. وجدت بيت أحد المعلمين الذي كان ينتظر ولده البكر الذي كان كثير التشدد معه وقد شغلته فكرة أن ولده حديقة ستزهر ورودها وستطعمه ثمارها كي يروغ من قسمة شظف العيش. كان الأب مغمورا بسعادة ذهاب ابنه كل يوم جمعة للحسينية القريبة، وهو يرى سداد عقل منحته له العبادة. ثم بدأت الحملة الإيمانية التي كانت مثار ابتهاج المؤمن الأول. لتخليد إيمانه اتُهم الولد بممارسات دينية تحمل تبعات قانونية. اُعدم. قالت زوجته ليس هناك أسوأ من امرأة زوجها يقيم الصلاة والصيام. ذهبت الزوجة الشابة الحامل لرجل الدين الذي كان يئم المصلين الذي كان زوجها الشهيد يحضر الصلاة في جامعه كان ينظر إليها كناصب أفخاخ مرتديا لحية فاحمة سوداء مثل غطائ يخفي المعايب، لا يدور في رأسه غير اقتراف الآثام كأنه يخفي عشرة كيلوغرامان من رغبات شديدة الانفجار، متسائلة عن ذنبها قال لها" تلك هي أحكام الخالق. حين جاء الطوفان وهبت قبله عاصفة محمّلة بمئات الأطنان من التراب الأحمر كانت تذكيرا بخطايا ارتكبت ونسيها مرتكبوها. الخالق ذكّر الزانين وعاقبهم بسلبهم نعمة البصر لأنهم شاهدوا ولم يسعوا للتنصل مما شاهدوه. من شاهد الزنى فعقابه مسامير من نار سيشكها عمالقة جهنم في أسته". قالت له لم يكن زوجي واحدا منهم. قال الرجل المعمم بعمامة سوداء" وماأدراكِ؟". حين أرادت الرد قال" لاتطرحي عليّ اسئلة يقتضيني الجواب عليها أن أكون عليما كالرب". كان الإمام يسجع في كلامه بنبرة دينية كي يزداد تمكنا منها. بعد كل سجعة يتأنى في كلامه وهو يعتصم بصمت قليل. يقرأ اللهفة في عيون مستمعته الشابة. ثم يختار كلمات أشد وقعا وهو يمد رأسه إلى الأمام كمن يتخير موضعا أفضل في الدنيا. هذا السيد بنى دار عبادته، مسجدا بُنيي بأموال أغنياء سرقوها من فقراء منتظرا تعويضا مضاعفا من الأعالي. لأنه يدرك أن لا شيء يأتي بالمجان حتى وفق قوانين الرب. صرف السيد الزوجة بغمضة سريعة من عينه اليمنى وهي إيماءة تعلمها من أفلام رجال العصابات. ذهبت إلى بيتها وصار البرد ينفذ إلى ظهرها وبدأ يمارس اللسع. جاعلا من الظهر مجالا حصريا لنشاطه، مثل بائع متجول في الشارع يقف أمام بيت أحد الأرامل، زوجات الشهداء في وقت حاجات الجوع المقدس. سافرت إلى كل مراقد الأولياء تشد خرقا خضراء على شبابيكهم تطلب منهم عدم نسيان زوجها، تقولها بألم ممزوج بالمرارة دعوني أرتاح من آلام رغبات تجاوزت قدرتي على احتمالها. حلمت في تلك الليلة...حلما مفاده أن الله يسمح ولمرة واحدة في السنة بحالة يطلق عليه "يوم الوئام" حيث يسمح لساكني الجنة والنار بالاختلاط، حيث تغادر الملائكة زواياها في جنبات الفردوس. ينزع المؤمن صفة التقى عنه والمجرم صفة الأجرام خالعين عن أنفسهم ما يسمى ليل تنفيذ أحكام الرغبات. ينسى المذنب كل ما شكل مصدرا لاتهامه، والمؤمن يرفس بقدميه كبرى تعاليم كتبه. يطفون طليقين لا يعروهم حرجٌ من الآخر. يناقشون مدى الضلالة في سلوكهم وقت كانوا على الأرض وإن كانت فيهم عيوبا يقررون تصحيحها. جرى النقاش في ذلك اليوم تحت شرفة جلس عليها الأنبياء يراقبون نقاشهم... تعلم الجالسون على شرفهم ألا يأخذوا بجدية ما قالوه على الأرض من تعاليم، كي لا تتحرك فيهم رغبة العودة إلى الأرض ونشر التعاليم الجديدة فتفشل صنعتهم كأنبياء وتنتهي صلاحيتها للبقاء. منعوا النقاش كي لا يتحول إلى لغط مثل ساعة تمنع تكتكتها النائمين السماويين عن الرقاد وكي تكون اللامبالاة سهلة المنال بما بثوه من فتاوى. حين كانت الزوجة تسمع عبارة يُقال فيها لها أنت زوجة شهيد، لا تكترث فهي تعرف أن لحم الضأن والغزال يتساويان في العفونة إن تركا بدون هواء، كما الصقر والعصفور يتساويان إن أصاب العطب جناحيهما. كرهتْ الأرملة الشابة زوجها الشهيد الذي أورثها مجدا غير نافعٍ لها، لأن موته البطولي ألزمها بتخل أكثر جسامة من تنازله عن حياته حين تركها لاتساعات الرغبة، كثرة التفكير فيها جعل كبتها لها حيا على الدوام. كانت مثل الوطواط يحلق في غرفة مظلمة يمارس فيها طيرانا موحشا. صارت الشهادة لها جريمة من درجة سوئها أن الخالق أنزل العقاب بمرتكبيها من عوائل المنتسبين لمجمع الشهداء. قال السيد المعمّم " يا رب زيّد عدد شهداء الطائفة". ولم يفصح عن السبب. ولم يقل ألم نخلق لكم زواج المتعة وهي حسنة ليست غير جريمة من درجة سوئها أن الخالق لن ينزل العقاب بمرتكبيها. حلمت زوجة الشهيد بليلة الوئام كما أسماها السيد. تذكرت قول السيد بلهجة شعرية كأنه استعد بما فيه الكفاية للتخلص من شبهة مؤداها ارتكاب حرام"أعلن البرق في تلك الليلة قرب مجيئ المطر بعد جفاف، ثم جاء الرعد ليؤكد زعم البرق ثم جاء دور الطيور التي حلقت وكأنها أجمل تقليعة لها في الدنيا كلها علامات استحثت الغيوم ليقر قرارها بإنزال حمولاتها من الماء. راحت الرغبات تضاعف همتها بالاشتعال وهي تجد ريحا وحطبا جاهزا وكبريتا. كذلك سيكون الحال في اليوم الافتتاحي لاحتفالات الوئام. كانت الدنيا مغمورة بألق أول الصباح حين كانت الخلائق الأولى عرايا ولم يكن لدى الخالق فكرة لزرع أشجار التوت ولم تكن لديه نية ولم تتداع لخاطره منع الحفلات الريفية بتجهيز أوراق تقوم باللازم لمنع خطايا قاتلة. حين أصدر الخالق أمره ليكن نور وجد حالة لم تترك له خيارا غير تسمية ذلك اليوم بيوم الوئام. فخرجت الأعشاب ونهضت الأشجار وأزهرت الورود. للتخلص من شبهة الحرام وكي يبدو الأمر ليس تهاونا إلهيا أعوزته النباهة صدر كما قال السيد" صدور أمرين: لن يكن هناك لا موت ولا استشهاد لسبعة أيام بسبب عطلة أعطاها الخالق لرهط المؤمنين كي يشاهدوا جلال صنيعه. تعويضا عن غياب النباهة لديه ولإظهار فطنته المعهودة قال بعد يوم الوئام لن تكون هناك بعد الاحتفال خطايا قاتلة. حالة نادرة لن تتكرر في الجنان لكن رهط السادة جريا على مسؤولية منتحلة بدأوا سريان احتفال عدّوه يوم عطلة للتحرر من النواهي، وهو سلوك قالوا أننا نعمل على نحو ما كان معمولا شهرا واحدا في أيام السنة الفردوسية، ونحن وحدنا المؤتمنون على تحديد عددها، وهو أمر خضع لمساجلات حامية، منهم من قال كما في متع أيام النعيم نشرب حتى نرتوي، آخرون قالوا في نطاق الممكن... حتى المرجعيات أخفقت في وضع الأمر كمقرر تعليمي لأنهم لم يقرروا بوضوح فترات كبح الرغبة، برغم أن فرقا من عتاة مفكريهم وضعوا الحل غائما قائلين" متعذرٌ تحديد فترة دوام الرغبة. إن كانت تناصبكم العداء ولا سبيل لقمعها عليكم أن تأخذوا الحكمة من طيور الجنة وهي تخفي مخالبها تحت حجال من ريش، وهي حالة اتخذت على الأرض شكل زمن دوامه ثابت". اتفق السادة على جعل زمن يوم المتعة طوال العام. هكذا يصف السادة يوم الوئام حين تترمل زوجة الشهيد وتنقطع علاقتها بالعفة فتصبح تحت حكم سلالتهم. انتقلتُ إلى الجهة الأخرى نحو بيت أهل خلاوي.لم تكن البيوت تشبه تلك التي كنت في غربتي أذكر أماكنها بترتيب على الوجه الصحيح. طرق ذاكرتي بيت شعر للفارعة الشيباني وهي ترثي أخاها طريفا" أيا شجر الخابور ما لك مورقا/ كأنك لم تحزن على ابن طريف. فقدناه فقدان الربيع فليتنا/ فديناه من ساداتنا بألوف". لم يكن منظر البيت يشبه الذي كنت أعرفه، منظر تنحى عن عقلي في آخر لحظة، حسبت أنني لم أحسب المان على الوجه الصحيح. خلصني لون الستائر غير القديمة من شبهة مؤداها أنه بيتُ أبي خليل. لم اقدر الحالة بشكل منصف، حسبت أن سكانه نجوا من الكوارث ولم يبتلوا بمعاناة. لون الستائر ذات اللون البارق المضيء أضافت وزنا على شكوكي، وغياب بحر من سواد هو ما لم يؤجج سعير ظني. طرقت الباب وسألت المرأة التي فتحت الباب. قالت ببساطة مات خليل. كيف؟. حوصر عند الانسحاب في منطقة المطلاع . قالت بسرعة من يحفظ حكاية الموت جيدا"لم تكن أمامه غير إمكانية واحدة. وجد كل المناطق حوله صالحة للموت. لم يتفلسف كثير بشأن موته. أسند رأسه على مكان فيه رؤوس أشواك علّ واحدا يعلق بجذعه له وقع كتعريف بشكل حياته.لم يكن أمامه من مهرب من موت نحو جانب يجد فيه ضوء نجاة، فكل أفراد كتيبته انصرفوا إلى بيوتهم تحت الأرض، حين أرسلهم جنود كانوا يتسلون بالرمي على أهداف أسميت turkey shoot مذبحة الديكة الرومية التي كانت من نظم وتأليف القائد نفسه بالتواطؤ مع جنود التحالف. وأين أبوخليل؟. أجابت وإيماءة فزع على وجهها. قضى أيامه الأخيرة بعد موت أبنه فاقدا عقله حين أصابه خبلٌ جعله ينظر إلى السماء هو مدرس اللغة العربية مستحضرا بيت شعر للجواهري" أناشد عنك بريق النجوم/ لعلك من بينها تنجم". سألتها وأنت؟ قالت" كنت أنتظر صبيا باسم جاسم وهو اسم النهرٍ أين استشهد والده. عندما جائتني بنت قررت تسميتها حاسمة حيث أزلت النقطة من بداية الأسم وأصبح اسمها حاسمة عندما لم يتبق أمامي غير الخضوع لأحكام النحو. عندما قلت لها من أنا تذكرت والدي ودعتني إلى الدخول. ما أن جلبتْ أبريق شاي حتى صرخة صرخة من راكم نصيبه من الأذى ويزيد. قالت" هل تعرف أن المثل الذي يقول لكل ظالم يوم بات هنا قولا منسيا وبطل استخدامه". أرتني صورة زواجها وقد فتح ذراعيه مثل قارب ينشر شراعه بوجه الريح، وهي في العشرين من عمرها العمر الذي ينبغي للنساء أن يبلغنه مثل زهرات نار تشع سعادة ولا تستطيع أن تتوقف. قالت" أراد والدي أن أتزوج رجلا له منصب لكن خاطر زواجي عن حب تملكني مثل فكرة ثابتة. كنت أكرر على والدي أي حياة تترك لي إن منعت عني الحب؟". شاهدت صورة الزوج قبل رحيله وقد ارتدى بنطلون تريكو بني فضفاض مرتديا قميصا رياضيا مثل أمير يرغب بالتنزه في عربة أو يخت وهو يبتسم ابتسامة رجل محبوب وسعيد. وهي بجانبه على وجهها غلالة ابتسامة وردية لعذراء لم تمسسها يد رجل. في الصورة الثانية زالت بدانته الرشيقة حين حلّ فيه هزال أمراض من لم تبقِ له الكثير ليحيا. هزت شعرها المحلول كأنها احتفظت به لذلك الوقت كالنسوة اللواتي خلقن ليكن أرامل. قالت" ما الذي أحسن فعله، نحن الأرامل مثل معشر الكلاب كل ما نستطيع فعله هو بكاء كالنباح".
#رياض_رمزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صنع في بغداد
-
عن الخوف
-
تقترب الأشياء رغم ابتعادها
-
دمشق جبهة المجد
-
الاشراقي الأعظم السيد حفيد السادة
-
رسائل شهيرة لقادة مسلمين
-
مغضلة تسطيح العلاقة بين العرب وإيرا
-
مع المحمدين
-
مع المحمدين
-
دعنا نغني وراء شعبان عبد الرحيم
-
إلى وائل الدحدوح
-
لم يهتم بأمرهم أحد الجزء السابع
-
لم يهتم بأمرهم أحد الجزء السادس
-
لم يهتم بأمرهم أحد الجزء الخامس
-
لم يهتم بأمرهما أحد الجزء الرابع
-
لم يهتم بأمرهما أحد الدزء الثالث
-
لم يهتم بأمرها أحد الجزء الثاني
-
لم يهتم بأمرهما أحد
-
يوم أُصبت بالحمى
-
حول الحرب بين روسيا وأوكانيا
المزيد.....
-
نجيب محفوظ وفن الكوميكس.. هل يفتح الفن التاسع آفاقا جديدة لل
...
-
فيلم -إيميليا بيريز-.. فوضى إبداعية بين الموسيقى والكوميديا
...
-
محمد سمير ندا.. على الكاتب أن يمتلك الجرأة على إلقاء الحجارة
...
-
بعد سقوط الأسد.. فنان سوري شهير يتعرض للتهديد بالقتل
-
الفنان السوري سامر المصري يصل دمشق بعد غياب 14 عاما ومحبوه ي
...
-
سرقة تحف أثرية من متحف هولندي بعد اقتحامه باستخدام عبوة ناسف
...
-
بطريقة سينمائية.. سرقة 3 أساور ملكية وخوذة ذهبية أثرية
-
فنان مصري يعلن فتح مزاد على -بالطو- حفل -Joy Awards- لصالح م
...
-
أزمة قانونية تهدد عرض فيلم السيرة الذاتية لمايكل جاكسون
-
بشعار -وما بينهما-.. بينالي الفنون الإسلامية بجدة يستكشف الإ
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|