|
الهوية السياسية للمجتمع الإسرائيلي: من الأساطير الدينية إلى الحقائق الجيوسياسية
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8231 - 2025 / 1 / 23 - 09:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
د.حمدي سيد محمد محمود
إن دراسة الأسس السياسية لنشوء المجتمع الإسرائيلي تشكل مفتاحًا لفهم الديناميكيات المعقدة التي شكلت واحدة من أكثر الظواهر السياسية إثارة للجدل في القرن العشرين. تأسست دولة إسرائيل في قلب منطقة الشرق الأوسط، التي لطالما كانت مسرحًا للتوترات والصراعات الإقليمية، وذلك في سياق تاريخي طويل امتد لآلاف السنين، حيث ارتبطت فكرة إقامة دولة يهودية في أرض فلسطين ارتباطًا وثيقًا بالهوية الدينية والتاريخية للشعب اليهودي. هذه الفكرة لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت نتيجة لتراكمات ثقافية ودينية وسياسية، حيث تجسدت في حركة سياسية دولية، هي الصهيونية، التي كانت حافزًا رئيسيًا في مسار تأسيس دولة إسرائيل.
أسس قيام المجتمع الإسرائيلي لم تكن محض عملية سياسية أو دبلوماسية فحسب، بل كانت تفاعلًا معقدًا من عدة عوامل، من أبرزها عودة اليهود إلى أرض فلسطين، والضغط الدولي، والصراع مع الجيران العرب، وكذلك التحديات الداخلية التي تمثلت في البناء المؤسسي للمجتمع الإسرائيلي نفسه. هذه الأسس تداخلت بشكل غير مسبوق في التاريخ، حيث شكلت مزيجًا من القيم الدينية والعلمانية، ومن الجهود الاستيطانية والحروب العسكرية، ومن الأيديولوجيات السياسية المختلفة التي حولت المجتمع الإسرائيلي إلى كيان سياسي موحد، لكن في ذات الوقت حمل بين طياته التناقضات الداخلية والصراعات التي لا تزال تؤثر عليه حتى يومنا هذا.
إن الحديث عن الأسس السياسية لنشوء المجتمع الإسرائيلي يتطلب الغوص في تاريخ معقد من الهجرات اليهودية إلى فلسطين، في سياق استعمار أوروبي وأيديولوجيات قومية متباينة، ثم في تفاعل مع قوى دولية أدت إلى ولادة الدولة في سياق من التشكيك والصراع على الحقوق والتاريخ. وبما أن إسرائيل نشأت في سياق محوري بالنسبة للقضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي، فإن فهم هذه الأسس ليس فقط جزءًا من دراسة تاريخية، بل هو ركيزة لفهم التوترات المعاصرة التي لا تزال تلقي بظلالها على السياسة الدولية.
في إطار هذا الطرح، نفتح أمام أنفسنا نافذة لفهم كيفية تأثير مزيج من الدين والهوية القومية والسياسات الدولية على نشوء كيان سياسي متعدد الأبعاد، وكيف يمكن لهذا الكيان أن يظل في حالة صراع مستمر مع محيطه، وفي نفس الوقت يحاول بناء هويته الداخلية بين الأيديولوجيات المختلفة.
الأسس السياسية لنشوء المجتمع الاسرائيلي
تتعدد الأسس السياسية التي أسهمت في نشوء المجتمع الإسرائيلي، وهي تشمل عوامل تاريخية، دينية، ثقافية، واجتماعية، فضلاً عن تلك المتعلقة بالصراع السياسي والأيديولوجي الذي تبلور في سياق الحركات الصهيونية وقيام الدولة الإسرائيلية. وفيما يلي تسليط الضوء على أبرز هذه الأسس بشكل مفصل:
1. النشأة التاريخية والدينية
الديانة اليهودية والمفهوم الديني للمملكة اليهودية: يعتبر الدين اليهودي عاملاً مركزياً في تشكيل الهوية اليهودية، فاليهودية كانت على مر العصور جزءاً من الهوية الثقافية والدينية لشعب إسرائيل، بما يتضمن ذلك تصور العودة إلى "أرض الميعاد" التي تتوافق مع المنطقة الجغرافية لفلسطين. الشتات اليهودي: استمرت الجالية اليهودية لعدة قرون في الشتات، حيث كان لهم ارتباط عاطفي وديني بفلسطين. هذا الارتباط ظهر في الأدب الديني والفكر اليهودي، ما جعل فكرة العودة إلى فلسطين حاضرة في الوعي الجمعي منذ العصور الوسطى.
2. الصهيونية: الحافز السياسي والجغرافي
الصهيونية السياسية: برزت الصهيونية على يد تيودور هرتزل في أواخر القرن التاسع عشر، بهدف إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. كانت الصهيونية مرتبطة بشكل مباشر بالمطالب السياسية لليهود واستجابة للمسألة اليهودية في أوروبا. الحركة الصهيونية المهاجرة: جلبت الصهيونية المهاجرة آلاف اليهود إلى فلسطين مع مطلع القرن العشرين، خاصة بعد وعد بلفور عام 1917، الذي تعهد فيه البريطانيون بتسهيل إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين. الاستيطان اليهودي: تأسس العديد من المستوطنات اليهودية في فلسطين، وكان يرافق ذلك جهود لتأسيس بنية تحتية سياسية واجتماعية تشمل جمعيات ومؤسسات حكومية مثل "الوكالة اليهودية" و"الهستدروت" (الاتحاد العام للعمل).
3. التحولات السياسية الإقليمية والدولية
الانتداب البريطاني على فلسطين (1917-1948): ساهم الانتداب البريطاني في تقديم الدعم للصهيونية، خاصة من خلال وعد بلفور وتطبيق سياسات تمهد لإقامة دولة يهودية. هذا الدعم البريطاني لعب دوراً مهماً في بناء المؤسسات اليهودية وفرض الهيمنة السياسية. القرارات الدولية: أدت القرارات الدولية، مثل قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 (القرار 181)، إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية. هذا القرار أسهم في تعزيز فكرة إقامة دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية.
4. الصراع العربي-الإسرائيلي وتشكيل الهوية السياسية
الحروب والصراعات العسكرية: بعد إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 مايو 1948، اندلعت حرب 1948 مع الدول العربية المجاورة، وكانت النتيجة هي تثبيت حدود إسرائيل الحالية وتأسيس الهوية الوطنية الإسرائيلية. التوسع في الأراضي الفلسطينية: من خلال الحروب التالية مثل حرب 1967 (حرب الأيام الستة)، قامت إسرائيل بالسيطرة على الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، مما أثر في تشكل المجتمع الإسرائيلي والعلاقات مع العرب. المجتمع الإسرائيلي والهوية اليهودية: أسهمت هذه الحروب في تعزيز الهوية السياسية الإسرائيلية، التي أصبحت تدور حول البقاء والدفاع عن الوجود اليهودي في المنطقة.
5. الأسس السياسية داخل المجتمع الإسرائيلي
التعددية السياسية والحزبية: منذ تأسيس دولة إسرائيل، برزت تعددية حزبية، حيث توزع الساحة السياسية بين أحزاب علمانية، دينية، وعسكرية. الأحزاب اليسارية مثل "العمل" لعبت دوراً مهماً في النشأة المبكرة، بينما أصبحت الأحزاب اليمينية مثل "الليكود" هي المسيطرة في فترات لاحقة. العلاقات بين الدين والدولة: تعتبر العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل محورية في تشكيل المجتمع الإسرائيلي. بينما يسعى المجتمع العلماني الإسرائيلي إلى إرساء دولة حديثة ومتنورة، يلعب الدين اليهودي دوراً بارزاً في تأطير التشريعات والقوانين، خاصة في مجالات الزواج والطلاق. التمثيل العرقي والاجتماعي: نشأ المجتمع الإسرائيلي على أسس من التنوع العرقي، فإلى جانب اليهود الأوروبيين (الأشكناز)، كان هناك تدفق مستمر لليهود الشرقيين (السفارديم) والعرب الذين تم دمجهم في المجتمع الإسرائيلي بطرق مختلفة، مما خلق بعض التوترات الاجتماعية والسياسية بين هذه المجموعات.
6. الجانب الاقتصادي والتكنولوجي
الاقتصاد والتمويل: شكلت السياسة الاقتصادية في إسرائيل، منذ البداية، أداة هامة لبناء الدولة. كان التمويل الأجنبي (من أمريكا والدول الأوروبية) والمساعدات من الوكالة اليهودية أساسًا لبناء بنية تحتية قوية ودعم الاقتصاد الوطني. التقدم التكنولوجي والعسكري: قامت إسرائيل بتطوير تقنيات متقدمة في المجالات العسكرية، الأمنية، والتكنولوجية، مما ساعد في تأسيس مكانتها الدولية كدولة قوية في الشرق الأوسط.
7. الهوية القومية الإسرائيلية
الهوية متعددة الوجوه: قامت الهوية الإسرائيلية على مزيج من القومية اليهودية والتقاليد العلمانية. الهوية الإسرائيلية تعبير عن ضرورة التوحد في مواجهة التحديات السياسية والوجودية، لكنها تتعرض للتحديات بسبب الاختلافات بين المجموعات اليهودية المختلفة.
8. التحديات المستقبلية والتطورات السياسية
العلاقة مع الفلسطينيين: ظل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي قضية مركزية في السياسة الإسرائيلية، حيث يشهد المجتمع الإسرائيلي توترات متزايدة حول كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بالاحتلال والاستيطان. الاختلافات الداخلية: شهد المجتمع الإسرائيلي صراعاً داخلياً بين التيارات العلمانية والدينية، بالإضافة إلى التحديات المتعلقة بمواطني إسرائيل من العرب الفلسطينيين الذين يعيشون في داخل الحدود الإسرائيلية.
بناء على ما تقدم، تعتبر الأسس السياسية لنشوء المجتمع الإسرائيلي معقدة ومتعددة الأبعاد. إنها نتاج تفاعل طويل بين التاريخ الديني اليهودي، الحركة الصهيونية، التحولات السياسية الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى التحديات الداخلية المتنوعة التي شكلت الهويات الاجتماعية والسياسية في إسرائيل.
في الختام، يمكن القول إن الأسس السياسية لنشوء المجتمع الإسرائيلي هي نتاج تفاعل معقد بين التاريخ والدين والسياسة والاقتصاد، حيث تراكمت العوامل التي أسهمت في تأسيس دولة إسرائيل عبر سلسلة من التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة والعالم. من فكرة العودة إلى "أرض الميعاد" إلى الحركة الصهيونية التي نشأت في سياق الاستجابة للاضطهاد اليهودي في أوروبا، ومن الدعم الدولي من القوى الكبرى إلى الحروب والمعارك المستمرة مع جيرانها، تداخلت هذه العوامل لتشكل أسسًا سياسية قوية لدولة حديثة في قلب الشرق الأوسط.
لكن هذا النشوء لم يكن خاليًا من التوترات والتناقضات الداخلية، حيث تأسست إسرائيل على هوية قومية يهودية تحمل طابعًا دينيًا وقوميًا في آن واحد، ما أسهم في تعقيد العلاقة بين العلمانية والدين داخل المجتمع الإسرائيلي، وبين مختلف الطوائف اليهودية، ناهيك عن العلاقة الحساسة والمعقدة مع الفلسطينيين والعالم العربي. هذه التناقضات لم تتوقف عند مرحلة التأسيس، بل استمرت لتشكل التحديات الرئيسية التي يواجهها المجتمع الإسرائيلي في مسيرته السياسية والاجتماعية.
إن دراسة الأسس السياسية لنشوء المجتمع الإسرائيلي تتيح لنا فهمًا أعمق للظروف التي ساهمت في بناء هذا الكيان السياسي، وفي الوقت نفسه تكشف لنا عن التعقيدات التي تظل حاضرة في السياسة الإسرائيلية المعاصرة. الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، التحديات الداخلية بين التيارات المختلفة، والتفاعلات الإقليمية والدولية، جميعها تبقى محاور حاسمة تشكل مستقبل إسرائيل في ظل عالم مضطرب ومتغير.
لقد كشفت هذه الأسس أن نشوء إسرائيل كان نتيجة لمزيج من الأحلام والطموحات، لكنه في الوقت نفسه كان ردة فعل على معاناة تاريخية وصراعات معقدة لا يزال المجتمع الإسرائيلي يدفع ثمنها اليوم. وبالتالي، تظل الأسس السياسية لنشوء المجتمع الإسرائيلي، بما تحمله من أبعاد تاريخية وثقافية وإيديولوجية، عنصرًا أساسيًا لفهم مستقبل هذا الكيان وموقعه في معادلات السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليهودية والصهيونية: أبعاد الصراع في سياق التحولات العالمية
-
البيولوجيا الاجتماعية في عصر التقنية: القضايا الأخلاقية والت
...
-
الفلسفة التحليلية: قراءة عميقة لتأثيراتها على الفلسفة الأورو
...
-
تفكيك التاريخ المزيف: قراءة في أعمال المؤرخ الإسرائيلي إسرائ
...
-
كارل ماي: أسطورة الأدب الألماني ورحلة في عوالم الخيال والإنس
...
-
مفهوم الأخلاق بين الفرد والمجتمع: قراءة في إرث الفلاسفة العظ
...
-
العقل الجمعي: كيف تشكل الجماهير مستقبل الأمم؟
-
بين الاستبداد والسياسة الواقعية قراءة نقدية في فلسفة ميكافيل
...
-
من الماركسية إلى النيوليبرالية: تحليل اجتماعي للرأسمالية الم
...
-
يورغن هابرماس: بناء الفلسفة النقدية على أساس التواصل والحرية
-
الذات والوجود: قراءة معمقة في فلسفة العقل
-
التجاهل الواعي: حماية النفس من الاستنزاف العاطفي
-
يحيى ولد حامد: مبدع الرياضيات الذي أسس جسرا بين العلم والهوي
...
-
التطرف العلماني في العالم الإسلامي: جدلية التنوير والهيمنة ا
...
-
الخط الفاصل بين العقلانية والسلطة: تحليل نقدي لعلاقة هابرماس
...
-
الدين في مرآة الفلسفة: قراءة تحليلية لكتاب -لماذا لست مسيحيا
...
-
صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي: هل نحن أمام عالم
...
-
المجتمع السائل وتحديات الأخلاق: قراءة في أطروحات سيغمونت باو
...
-
الأنظمة العربية والتيار الإسلامي: جدلية الصراع على السلطة وا
...
-
إشكاليات العقل العربي: جدلية التراث والحداثة في فكر طرابيشي
المزيد.....
-
روسيا تعتزم افتتاح بعثات دبلوماسية في النيجر وسيراليون وجنوب
...
-
سيارة حاملة للطائرات العمودية.. كيف تعمل؟
-
-نفوذ قطر المتنامي في المنطقة فرصة أم تهديد إقليمي لإسرائيل؟
...
-
في اتصال مع ترامب.. بن سلمان يعلن عن خطة لاستثمار 600 مليار
...
-
-لا مكان صالح للسكن-.. الفلسطينيون يعودون إلى غزة بعد وقف إط
...
-
الأمين العام لحلف شمال الأطلسي: انتصار روسيا سيقوض مصداقية ا
...
-
عاصفة غير مسبوقة تضرب الولايات المتحدة: تساقط كثيف للثلوج ود
...
-
وصول طاقم سفينة -غالاكسي ليدر- إلى عُمان بعد إطلاق سراحهم من
...
-
حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي على غزة مع استمرار عمليا
...
-
مراسلنا: إصابة 9 أشخاص في جرابلس شمال سوريا بهجوم صاروخي
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|