حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8231 - 2025 / 1 / 23 - 09:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
د.حمدي سيد محمد محمود
لطالما شكّلت العلاقة بين اليهودية والصهيونية معضلة فكرية وسياسية وثقافية متشابكة، تتجاوز حدود النقاش الديني التقليدي لتلامس أبعادًا أعمق تتعلق بالهوية، والانتماء، وطبيعة السلطة الدينية والسياسية. فاليهودية، التي تمتد جذورها آلاف السنين كدين توحيدي يحمل رسالة أخلاقية وروحية، قامت على أسس تعاليم التوراة وقوانين التلمود، واستمدت وجودها واستمراريتها من الحياة في الشتات والتطلع إلى الخلاص الإلهي بعيدًا عن التداخل مع السياسة الدنيوية. وعلى الجانب الآخر، جاءت الصهيونية كحركة سياسية حديثة في القرن التاسع عشر، تسعى إلى إعادة تعريف الوجود اليهودي في سياق قومي سياسي، بعيدًا عن الأسس الدينية التقليدية التي ظلت تحكم حياة اليهود على مر العصور.
هذا التداخل المتوتر بين اليهودية كدين والصهيونية كأيديولوجيا قومية طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة العلاقة بين الإيمان والممارسة السياسية. هل يمكن لدين قديم مثل اليهودية، يقدّس الانتظار الإلهي وينبذ التدخل البشري في مصير الأمة، أن يتوافق مع مشروع صهيوني علماني يحاول اختزال الدين في خدمة مشروع قومي؟ وهل استطاعت الصهيونية أن تمثل تطلعات اليهود في الشتات، أم أنها انحرفت عن جوهر الرسالة اليهودية لتحوّل الدين إلى أداة في خدمة الطموحات السياسية؟
إن العلاقة بين اليهودية والصهيونية ليست مجرد جدل ديني أو فكري، بل صراع وجودي يعكس تحولات العصر الحديث وتحدياته. فالتيارات الأرثوذكسية اليهودية التقليدية رفضت الصهيونية منذ بداياتها، معتبرةً إياها انقلابًا على العقيدة ومخالفةً للمشيئة الإلهية، بينما تبنّت بعض التيارات الأخرى رؤية أكثر توافقًا مع الواقع السياسي، خاصة بعد مأساة الهولوكوست وقيام دولة إسرائيل عام 1948. ومن هنا، نشأت فجوة عميقة بين أتباع الديانة اليهودية أنفسهم حول شرعية الصهيونية ودورها، وهي فجوة تتجاوز الداخل اليهودي لتلقي بظلالها على المشهد العالمي، حيث ترتبط الصهيونية ارتباطًا وثيقًا بالصراعات السياسية، خاصة في العالم العربي والإسلامي.
تُعدّ الأزمة بين اليهودية والصهيونية أحد أكثر الموضوعات تعقيدًا وحساسية في التاريخ الحديث. فهي ليست مجرد خلاف داخلي بين تيارات دينية وسياسية، بل هي مرآة تعكس صراعًا أوسع بين القديم والحديث، بين الروحاني والمادي، وبين ما هو ديني وما هو سياسي. وفي خضم هذا الصراع، تبرز تساؤلات محورية حول مصير الهوية اليهودية، وطبيعة المشروع الصهيوني، وعلاقته بالقيم الروحية لليهودية، وتأثير هذه العلاقة على العالم بأسره.
هذه المقدمة ليست فقط مدخلًا إلى دراسة جذور الأزمة بين اليهودية والصهيونية، بل دعوة لفهم أعمق للكيفية التي تتشابك فيها العقيدة مع السياسة، وللصراعات التي تنشأ عندما تتحول الأفكار الدينية إلى أدوات لتحقيق أهداف قومية.
جذور الأزمة بين اليهودية والصهيونية
لفهم جذور الأزمة بين اليهودية والصهيونية، يتطلب الأمر تناول الجوانب الدينية، الفكرية، التاريخية، والسياسية التي شكلت هذه العلاقة الجدلية المعقدة. فيما يلي تحليل مستفيض للموضوع:
1. اليهودية: الدين والتقاليد
تعريف اليهودية:
اليهودية هي دين توحيدي قديم يقوم على الإيمان بإله واحد، ويستمد مبادئه من التوراة والتقاليد الشفوية المكتوبة في "التلمود".
أهميتها الروحية والتاريخية:
اليهودية ليست فقط دينًا بل أيضًا ثقافة وهوية تجمع بين الجوانب الروحية والقومية. تعاليمها تؤكد على العيش وفق الوصايا الإلهية في أي مكان من العالم، وليس بالضرورة في أرض محددة.
2. الصهيونية: الفكرة والحركة
تعريف الصهيونية:
الصهيونية هي حركة سياسية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، تسعى إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. أسسها ثيودور هرتزل عام 1897، معتمدًا على دوافع سياسية وليس دينية بحتة.
علاقتها باليهودية:
الصهيونية انطلقت من رؤية دنيوية علمانية، متجاهلة في بداياتها الأسس الدينية لليهودية، ما أدى إلى توترات مع رجال الدين اليهود.
3. التناقضات بين اليهودية والصهيونية
أ. دينية: رفض صهيوني للأبعاد الروحية
الإيمان بالمشيئة الإلهية:
اليهود التقليديون (خاصة الأرثوذكس) يؤمنون بأن عودة اليهود إلى "أرض الميعاد" لا يمكن أن تتحقق إلا بمشيئة الله من خلال مجيء المسيح المنتظر، وليس عبر حركات سياسية.
الرفض الأولي للصهيونية:
مع بدايات الصهيونية، رفضت أغلبية الحاخامات الانضمام إلى الحركة، معتبرين أنها تخالف تعاليم اليهودية التي تدعو إلى الصبر والانتظار الإلهي.
ب. فكرية: التحديث والتغريب
الصهيونية والعلمانية:
الصهيونية وُلدت كحركة علمانية، مبتعدة عن التدين، ما جعلها تصطدم بالقيم التقليدية لليهودية التي تعتبر الدين جوهر الهوية اليهودية.
التوجه القومي:
الصهيونية ركزت على بناء دولة قومية حديثة، بينما ترى اليهودية أن الإيمان والشتات جزء من الإرادة الإلهية.
4. التاريخ والتطور السياسي للصراع
أ. علاقة اليهودية بالصهيونية قبل الهولوكوست
الرفض الشعبي:
قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الصهيونية حركة هامشية بين اليهود أنفسهم، ولم تحظَ بدعم واسع داخل المجتمعات اليهودية.
ظهور الانقسام:
بدأ الانقسام واضحًا بين التيار الأرثوذكسي الرافض والتيارات الليبرالية المؤيدة جزئيًا.
ب. تغير المواقف بعد الهولوكوست
الهولوكوست نقطة تحول:
مأساة الهولوكوست دفعت بعض اليهود الأرثوذكس إلى تغيير مواقفهم تجاه الصهيونية باعتبارها ضرورة لضمان بقاء اليهود.
تأسيس إسرائيل:
إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 زاد من الانقسامات، حيث رأى بعض اليهود أن هذا يخالف المشيئة الإلهية، بينما دعمه آخرون كخطوة عملية لضمان أمن اليهود.
5. مواقف اليهود المتدينين من الصهيونية اليوم
أ. التيار الأرثوذكسي المتشدد (الحريديم)
الرفض المستمر:
يعتبر الحريديم أن الصهيونية تهديد للإيمان اليهودي. جماعات مثل "ناطوري كارتا" تعارض وجود إسرائيل وترى أنها كيان غير شرعي دينيًا.
العيش في إسرائيل مع التحفظ:
بعض الأرثوذكس يقبلون العيش في إسرائيل ولكنهم لا يعترفون بالدولة كتمثيل ديني لليهودية.
ب. التيارات المعتدلة والمؤيدة
الصهيونية الدينية:
ظهرت تيارات تجمع بين اليهودية والصهيونية، حيث ترى أن الصهيونية هي جزء من الخطة الإلهية لإعادة اليهود إلى أرض الميعاد.
التعامل البراغماتي:
بعض التيارات الأرثوذكسية تقبل الصهيونية كواقع معاصر لكنها تتجنب شرعنتها دينيًا.
6. انعكاسات الأزمة على العالم العربي والإسلامي
التلاعب بالصهيونية كغطاء ديني:
الصهيونية استخدمت الدين لتبرير احتلال فلسطين، مما عزز معارضة العالمين العربي والإسلامي لها.
الاستفادة من الانقسام الداخلي:
الانقسام بين اليهودية والصهيونية يمكن أن يكون مدخلًا لفهم سياسات الاحتلال وتأثيراتها الثقافية والدينية.
7. قراءة تحليلية للعلاقة بين اليهودية والصهيونية
الصهيونية كتشويه لليهودية:
يرى كثير من المفكرين اليهود أن الصهيونية شوهت المفهوم الروحي لليهودية وحولتها إلى أداة سياسية قومية.
اليهودية كعائق للصهيونية:
بعض الصهاينة يعتبرون اليهودية التقليدية عقبة أمام تحقيق أهدافهم القومية.
خلاصة القول أن العلاقة بين اليهودية والصهيونية مليئة بالتناقضات، حيث تعبر اليهودية عن دين قديم ذي جذور روحية وثقافية، بينما تمثل الصهيونية مشروعًا سياسيًا حديثًا. هذه التناقضات جعلت الأزمة بينهما جزءًا لا يتجزأ من تعقيدات القضية اليهودية والإسرائيلية عالميًا. فهم هذا الصراع يتطلب الإلمام بتاريخه، أبعاده الفكرية، ودوره في تشكيل المشهد السياسي المعاصر.
إن العلاقة المتأزمة بين اليهودية والصهيونية ليست مجرد حالة تاريخية عابرة، بل تمثل صراعًا أزليًا بين روحانية الدين ومتطلبات السياسة، وبين قدسية العقيدة ومادية الأيديولوجيا القومية. هذه العلاقة، التي اتسمت بالتوتر منذ ولادة المشروع الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، كشفت عن فجوة عميقة بين هوية دينية تمتد جذورها إلى آلاف السنين، وحركة قومية حديثة تسعى لتطويع الدين لخدمة مشروعها السياسي.
لقد أظهرت دراسة جذور هذه الأزمة أن الصهيونية لم تنشأ من رحم اليهودية، بل جاءت كحركة سياسية علمانية سعت لإعادة تعريف اليهودية خارج سياقها الروحي، وربطتها بمفهوم القومية. هذا التحول الجذري قوبل برفض واسع من التيارات الدينية الأرثوذكسية، التي رأت في الصهيونية خيانة لمبدأ الانتظار الإلهي وتعديًا على الدور المقدس للعناية الإلهية في مصير اليهود. وفي المقابل، اعتبر الصهاينة أن رؤيتهم تمثل إنقاذًا عمليًا لليهود من اضطهاد طال أمده، مما زاد من تعقيد العلاقة بين الطرفين.
ما يزيد من أهمية هذه الأزمة هو تأثيرها العابر للحدود؛ فالصهيونية لم تقتصر على المشهد اليهودي الداخلي، بل امتدت إلى السياسة العالمية، وأثرت بشكل مباشر على القضية الفلسطينية والصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط. كما أن استخدام الصهيونية للدين كغطاء لإضفاء شرعية على مشروعها الاستيطاني، أثار حفيظة العالمين العربي والإسلامي، وألقى بظلال كثيفة من الشكوك حول العلاقة بين اليهودية والصهيونية ودورها في النزاعات القائمة.
إن التناقض الجوهري بين اليهودية كدين والصهيونية كأيديولوجيا قومية يفتح الباب لتساؤلات عميقة حول المستقبل: هل يمكن لهذه العلاقة المتوترة أن تجد طريقًا للتعايش؟ أم أن التباين بينهما سيظل يشكل عقبة دائمة أمام تحقيق سلام داخلي بين اليهود أنفسهم، وسلام عالمي يضع حدًا للصراعات التي أنتجتها هذه الأزمة؟
وفي النهاية، يبقى فهم هذا الصراع ضرورة حتمية لكل من يسعى إلى استيعاب تعقيدات القضية اليهودية والصهيونية، وأبعادها السياسية والدينية والثقافية. فلا يمكن حلّ أي معضلة سياسية أو دينية دون تفكيك جذورها وفهم سياقاتها التاريخية والفكرية. وبينما تستمر الصهيونية في تقديم نفسها كممثل شرعي لليهودية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن يجتمع الدين والقومية تحت مظلة واحدة دون أن يفقد أي منهما جوهره؟ أم أن هذه العلاقة ستظل مثالًا حيًا على الصراع الأزلي بين القيم الروحية والمصالح المادية؟
بهذه التساؤلات، نختتم بحثنا حول جذور الأزمة بين اليهودية والصهيونية، آملين أن تسهم هذه الدراسة في إضاءة مساحات مظلمة من هذا الصراع المعقد، وأن تكون دعوة لإعادة التفكير في أسس العلاقة بين الدين والسياسة في عالم متغير.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟