أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد حسام - قراءة في كتيب لينين “الكارثة المحدقة وكيف نواجهها”















المزيد.....



قراءة في كتيب لينين “الكارثة المحدقة وكيف نواجهها”


محمد حسام

الحوار المتمدن-العدد: 8228 - 2025 / 1 / 20 - 22:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



إن هذا الكتيب هو تعبير واضح عن السياسة الماركسية، وهو كنز ثمين من كنوز التراث الماركسي يجب أن يبني الشيوعيين اليوم أنفسهم عليه وأن يستوعبوا دروسه. فقد كُتب في ظروف صعبة للغاية، فالمناشفة والاشتراكيين الثوريين كانوا في السلطة بالتحالف مع الليبراليين، والقيصرية سقطت لتوها، والسوفييتات تحت سيطرة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، وهؤلاء الإصلاحيين كانوا يدفعون الطبقة العاملة الروسية نحو التحالف مع البرجوازية، أو بمعنى أصح تذيل البرجوازية، وخطر انقلاب كورنيلوف الفاشي كان ما يزال يحدق بالبلاد والثورة بالرغم من تراجعه.


وفي نفس الوقت فإن الأزمة الاجتماعية كانت قد اشتدت للغاية، ولم يكن من الممكن أن يوجد لها مخرج على أساس رأسمالي، إلا على جثث آلاف العمال. فالثورة ضد القيصرية والحرب العالمية الأولى التي كانت ما تزال تدور رحاها قد عصفت بالاقتصاد الروسي، وأنتجوا كارثة محدقة بالجماهير، أي كارثة الانهيار الاقتصادي التام والمجاعة.

ولم يكن من الممكن مواجهة تلك الكارثة المحدقة إلا ببرنامج وتدابير اشتراكية حقيقية. هذا هو السياق الذي كتب فيه لينين هذا الكتيب في سبتمبر عام 1917، أي بعد الإطاحة بالقيصرية بـ6 أشهر، وقبل تولي الطبقة العاملة بقيادة البلاشفة السلطة بشهر تقريبًا.

ففي تبيان لينين للوضع حينها يقول:

“روسيا تهددها كارثة لا مفر منها. النقليات الحديدية مشوشة بشكل لا يصدق أكثر فأكثر. والسكك الحديدية ستتوقف. وسيتوقف إيصال الخامات والفحم إلى المصانع. وسيتوقف إيصال الحبوب. وقصدًا وعمدًا وباستمرار يخرب الرأسماليون (يفسدون ويوقفون ويقوضون ويعرقلون) الإنتاج، أملًا في أن تكون الكارثة التي لم يسمع بها من قبل إفلاسًا للجمهورية والديمقراطية والسوفييتات، والاتحادات البروليتارية والفلاحية على العموم، وتسهل العودة إلى الملكية وبعث سلطان البرجوازية والملاكين العقاريين الكلي.”

ومن أجل هذا بالضبط كُتب لينين هذا الكتيب.

ضد العصبوية والانتهازية في آن واحد
بدء لينين بتوجيه سهامه في هذا الكتيب نحو الحكومة المنخرط فيها المناشفة والاشتراكيين الثوريين مع الليبراليين. إن أسلوب لينين في مهاجمة التحالف الإصلاحي الحاكم حينها يتسم بسمتين أساسيتين: الحزم النظري وعدم العصبوية. أي إن نهج لينين كان دائمًا وأبدًا: لا تنازل سياسي وطبقي مطلقًا مع مراعاة مستوى وعي الجماهير والحالة المزاجية العامة لها. فالحكومة حينها كانت تحت سيطرة أحزاب عمالية إصلاحية تحظى بثقة شرائح واسعة من العمال والفلاحين في السوفييتات، ولهذا اتبع لينين نهج يهدف إلى فضح تلك القيادات الإصلاحية.

كان يقول لهم: أنتم تتحدثون عن ضرورة الرقابة وضبط السوق، كما يتحدث الليبراليون وغيرهم من مناصري النظام الرأسمالي، ولكنكم في نفس الوقت لا تختلفوا عن الرأسماليين الذين يتحدثون “بحرارة” عن الرقابة وضرورتها، فـ”الجميع يقولون هذا. الجميع يعترفون به. الجميع قرروه. ولكن لا شيئًا يتحقق.”

طبعًا لم يكن لدى لينين أي أوهام بخصوص خيانة قادة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، ولكنه كان يدرك في نفس الوقت أن الجماهير التي تثق فيهم اليوم تتعلم بالتجربة، ولا بد أن يسير البلاشفة يدًا بيد مع الجماهير وهم يتعلمون من الأحداث خيانة قادتهم، وأن يشرح البلاشفة دائمًا بصبر الطريق الصحيح نحو النصر وحل مشكلات المجتمع.

فنراه يعريهم:

“الرقابة، الإشراف، الحساب، – هذه هي الكلمة الأولى في الكفاح ضد الكارثة وضد المجاعة. وهذا أمر لا جدال فيه ويعترف به الجميع. وهذا بالضبط ما لا يفعلونه خوفًا من التطاول على سلطان الملاكين العقاريين والرأسماليين الكلي، على أرباحهم الفاضحة، التي لا قياس لها والتي لم يسمع بمثلها من قبل، الأرباح التي يبتزونها من الغلاء، من التسليمات الحربية (وللحرب ‘يشتغل’ الآن الجميع تقريبًا، مباشرة أو بصورة غير مباشرة)، الأرباح التي يعرفها الجميع، ويراها الجميع، ويطلق الجميع بصددها آهات العجب والاستغراب والحسرة والحسد.”

إن هذا النهج البلشفي والماركسي الأصيل تجاه الأحزاب الجماهيرية الإصلاحية، خصوصًا عندما تكون هذه الأحزاب تحظى بثقة الجماهير، هو نهج مركزي، ورغم بساطته إلا إن من الواضح أنه عصي على الفهم بالنسبة لكثير من العُصب اليسارية اليوم في العالم، وكثير منهم قد انتقدنا عندما اتبعنا نفس النهج مع الأحزاب الإصلاحية الجماهيرية والحكومات الإصلاحية من هوغو تشافيز وحتى كوربين، وما بينهما.

ولسخرية القدر فإن هذه العُصب اليسارية مدعية الماركسية تستخدم هذا النهج مع الأحزاب البرجوازية (المدنية والدينية والقومية) وليس فقط الأحزاب العمالية، مثلما حولوا تكتيك “الجبهة المتحدة” من تكتيك ماركسي سليم ولا مفر منه للمنظمات الماركسية إلى مهزلة من أجل تبرير التحالف مع كل أنواع الزبالة الرجعية في المنطقة بحجة معارضة الديكتاتور والنظام. ولكن على أي حال فإن هذه العُصب أتفه من أن نشغل أنفسنا كثيرًا بها، فهؤلاء سوف يظلون يتأرجحون باستمرار من العصبوية إلى الانتهازية، كما كانوا دائمًا.

لو كان البلاشفة تبنوا نهج عصبوي متشنج رافعين شعار: يسقط المناشفة والاشتراكيين الثوريين من اليوم الأول لكانوا سحقوا، إذ سيكون من اليسير على الإصلاحيين حينها تجييش العمال ضد تلك الشعارات الطفولية واليسارية المتطرفة، وعلى الجانب الآخر لو كانوا تبنوا نهج إصلاحي لكانوا تذيلوا المناشفة والإصلاحيين. وفي الحالتين لكانت انهزمت الثورة والكارثة المحدقة أصبحت حقيقة واقعة.

فضح عجز الإصلاحيين
يبدأ لينين هجومه على الحكومة الإصلاحية بالإجابة على حجتهم الرئيسة: أوليست أساليب وتدابير الرقابة شيء في غاية التعقيد والصعوبة؟ فيجيب عليهم بعنوان واضح: سهولة تدابير الرقابة ومعرفة الجميع بها.

وهنا يفند لينين كل مزاعم الإصلاحيين حول عدم إمكانية ضبط السوق، و”إننا نقوم بأقصى ما نستطيع”، وكل هذه الدعاية التي ما نزال نسمعها حتى اليوم من الحكومات البرجوازية في كل مكان في العالم. وهي دعاية غرضها واضح:

“‘ذر الرماد في عيون’ الرجال الجهلاء، الأميين المذعورين الأذلاء، وكذلك في عيون التافهين الضيقي الأفق الذين يصدقون كل شيء ولا يتعمقون في شيء.”

يشرح لينين إن أبسط مبادئ الرقابة تطبقها أحيانًا حتى الحكومات البرجوازية، ولكنها رقابة من أجل مصلحة الرأسماليين وليس العمال. ويضرب مثالًا بألمانيا والولايات المتحدة. وبهذه الطريقة فهو يبرز الطابع الضعيف للحكومة الإصلاحية التي هي أسيرة كليًا للبرجوازية والرجعية، لدرجة إنها لم تستطع حتى إن تطبق التدابير الرقابية البرجوازية.

ففي كل صفحة من الصفحات القيمة لهذا الكتيب الهام نجد لينين يتبع نفس النهج: عرض المشكلة، ومقاربتها من منظور ماركسي طبقي، ثم بيان الحل وفضح عجز الإصلاحيين عن إنجازه. لأن بالنسبة إلى لينين:

“بقدر ما يتكامل إفلاس تحالف البرجوازية مع الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، يتعلم الشعب بمزيد من السرعة، ويجد بمزيد من السهولة المخرج الصحيح: تحالف الفلاحين الفقراء أي أغلبية الفلاحين، مع البروليتاريا.”

الرقابة الديمقراطية العمالية والرقابة البيروقراطية البرجوازية
طبعًا لم يكن لينين يدعو إلى الرقابة البرجوازية على النموذج الألماني، بل أوضح في هذا الكتيب الفرق بشكل واضح بين ما أسماه “الرقابة البيروقراطية” والرقابة الديمقراطية.


أي الفرق بين التدابير التي تلجأ إليها أحيانًا الحكومات البرجوازية من أجل ضبط الأسواق، مثل التدخل في السوق وإنشاء شركات حكومية، ويمكن أن تذهب إلى حد التأميم في بعض الظروف القاهرة، ولكن يكون هدفها دائمًا هو إعادة ترتيب السوق من أجل مصلحة البرجوازية. والرقابة العمالية الديمقراطية التي تتم بطريقة ثورية، أي تحت إشراف ورقابة لجان “العاملين والمستخدمين”، أي اللجان العمالية والشعبية.

إن هذا الفرق الذي كان يبدو بسيطًا بالنسبة إلى المناشفة والاشتراكيين الثوريين هو الفرق بين السياسة الثورية التي تدعو إلى إسقاط النظام الحالي وبناء نظام ومجتمع جديد والسياسة الإصلاحية التي تكتفي بالرتوش الإصلاحية، وتضلل الجماهير بالحديث عن “الرقابة” المتوهمة، أو باستخدام التعبيرات الأكاديمية المعاصرة “الحوكمة” و”الاستدامة”، أي هذه السياسية التي تُبقي النظام وعلاقات الإنتاج كما هي ولا تبدل سوى “عناوين الأوراق الصادرة والداخلة في الدواوين ‘الجمهورية ”.

هذه هي المقاربة الماركسية للمسائل، أي المقاربة الطبقية الثورية. فعندما يتحدث الليبراليون والإصلاحيون عن “الرقابة” لا يفوت الماركسي الفرصة لكي يسأل: الرقابة لمصلحة من وبيد من؟ أي “معرفة أي طبقة تبسط الرقابة، وأي طبقة تخضع إلى الرقابة”.

وهذه المسألة يجب حلها بمنتهى الحزم والثورية في زمن الثورة وإلا سوف تنقلب الثورة المضادة على الجماهير، ولهذا فإن خيانة الإصلاحيين في زمن الثورة هي أخطر على العمال من هجوم الأعداء. وهذا ما شدد عليه لينين حينما قال:

“فيجب الانتقال بحزم، وبلا عودة، ودون خوف من القطيعة مع القديم، دون خوف من بناء الجديد بجرأة، إلى الرقابة على الملاكين العقاريين والرأسماليين من جانب العمال والفلاحين. والحال، يخاف أصحابنا الاشتراكيون الثوريون والمناشفة هذا الأمر أشد مما يخافون من النار.”

برنامج انتقالي
انتقل لينين إلى وضع برنامج انتقالي ثوري، ليس الهدف منه إرضاء الرأسمالية، بل الهدف منه الانتقال من وعي الجماهير الحالي ومن مطالبها الأكثر إلحاحًا إلى التصادم مع طبيعة النظام الرأسمالي واستنتاج ضرورة إسقاطه.

وقد حدد لينين هنا أربع نقاط أساسية لأي حكومة ديمقراطية ثورية: 1) تأميم وتوحيد كل البنوك في بنك حكومي واحد، 2) تأميم الاتحادات الاحتكارية، 3) إلغاء السر التجاري، أي الإفصاح عن الصفقات والمعاملات التجارية والمالية للشركات الكبرى، 4) إلزام السكان بالاتحاد في جمعيات استهلاكية وبسط الرقابة عليها.

وبدء يشرح أهمية كل خطوة من هذه الخطوات. فمثلًا نراه يشرح أهمية تأميم البنوك واتحادها في بنك حكومي واحد:

“إن المصارف تمثل هي، كما هو معروف، مراكز الحياة الاقتصادية العصرية، والعقد العصبية الرئيسية في كامل النظام الرأسمالي للاقتصاد الوطني. وإن التحدث عن ‘ضبط الحياة الاقتصادية’ وإغفال مسألة تأميم المصارف يعنيان إما تبيان جهل مطبق، وإما خداع ‘العامة’ بأقوال منمقة ووعود مفخمة، مع العزم سلفًا على عدم الإيفاء بهذه الوعود.”

ولهذا فإن المطلب الأول للشيوعيين في العالم اليوم لا يزال تأميم البنوك، لأن عدم تأميم البنوك معناه أن نترك عصب الاقتصاد في يد الرأسماليين ومن أجل خدمة الرأسماليين وليس في يد العمال ومن أجل خدمة العمال. فتطور النظام الرأسمالي أدى إلى تلاحم بين مختلف القطاعات الإنتاجية بالقطاع المالي وتعاظم دوره.

فكما أوضح لينين:

“فإن المصارف العصرية قد التحمت مع التجارة والصناعة بدرجة من الوثوق والشدة بحيث يستحيل القيام إطلاقًا بأي شيء جدي، بأي شيء ‘ديمقراطي ثوري’ دون ‘وضع اليد’ على المصارف.”

وطبعًا، الآن كما في أيام لينين، فإن تأميم البنوك واتحادها في بنك حكومي واحد عملية سهلة تقنيًا واجتماعيًا، إذ أنه فعلًا يمكن إنجاز هذه الخطوة بضربة واحدة بمجرد إصدار المرسوم الحكومي، وبهذا يتم إنجاز الخطوة الأولى الأساسية من أجل تنظيم السوق وحركة الأموال والبضائع. ويفضح لينين زيف الادعاءات الديمقراطية والثورية لحكومة المناشفة بسبب عدم إنجازهم هذه الخطوة التي لا مناص منها.

وبتأميم البنوك يصبح من اليسير جدًا تأميم كل المؤسسات التابعة لها مثل شركات التأمين ومعها النظام الصحي، وغيرهما من المؤسسات وضمهم في مؤسسة واحدة، وبسط الرقابة عليهم. كما يمكن شطب ديون العمال وصغار الفلاحين وصغار المودعين والموظفين، وهي مسألة شديدة الأهمية لملايين الأشخاص في العالم اليوم.

ثم انتقل إلى مسألة أهمية الإفصاح عن كل المعاملات التجارية والمالية لكل المؤسسات، وهو ما سوف يمكن الجماهير من معرفة أين تذهب الثروات الحقيقية والأرباح حقًا في الوقت الذي يعانون فيه من الجوع والفقر.

فبالفعل كما قال لينين:

“دون إلغاء السر التجاري إما أن تبقى الرقابة على الإنتاج والتوزيع وعدًا فارغًا لا يصلح إلا لغرض واحد، هو خداع الكاديت للمناشفة والاشتراكيين الثوريين، وخداع المناشفة والاشتراكيين الثوريين للطبقات العاملة، وإما أن تتحقق الرقابة بالأساليب والتدابير البيروقراطية الرجعية فقط.”

ففكرة السر التجاري وخصوصية الحسابات البنكية للمؤسسات الاقتصادية هي فكرة منافية للديمقراطية، إذ إن هذه المؤسسات الاقتصادية الكبيرة بالفعل يعمل بها آلاف الأشخاص وتؤثر على حياة ملايين الأشخاص ويعمل فيها ملايين الأشخاص، ومع ذلك يستفيد بها ويطلع على معلوماتها المساهمين والمستثمرين وأصحاب الأسهم الكبار فقط. فكما شرح لينين:

“إن الرأسمالية الاحتكارية هي التي تقضي على كل ظل لحكمة السر التجاري، وتجعل منه نفاقًا وأداة غايتها الوحيدة بوجه الحصر إخفاء الاحتيالات المالية وأرباح الرأسمال الكبير التي لا تصدق. إن مشروع الرأسمالي الكبير بحكم طبيعته التكنيكية بالذات، إنما هو مشروع اتسم بالسمة الاجتماعية، أي مشروع يعمل من أجل ملايين الناس، ويضم بعملياته مباشرة وبصورة غير مباشرة المئات والآلاف وعشرات الآلاف من العائلات.”

ويضيف:

“إن القانون الذي يصون السر التجاري لا يخدم هنا حاجات الإنتاج والتبادل، بل يخدم المضاربات وابتزاز الأرباح بأشد الأشكال فظاظة، والاحتيال السافر الذي يلقى في المؤسسات المساهمة كما هو معروف انتشارًا خاصًا، وتستره بمهارة فائقة الحسابات والميزانيات المرتبة بشكل يخدع الجمهور.”

وفي المقابل طرح لينين الحل المضاد للسر التجاري الذي يعمل على صيانة أرباح الأقلية ضد الشعب. ودائمًا الحل اللينيني هو تعزيز الرقابة والتنظيم العمالي والجماهيري:

“من أجل العمل بطريقة ديمقراطية ثورية يتعين هنا إصدار قانون آخر بلا إبطاء يلغي السر التجاري، ويتطلب من المشاريع الكبيرة والأغنياء كشف حساباتهم. ويمنح أي فريق من المواطنين يبلغ عددًا ديمقراطيًا كبيرًا (مثلًا 1,000 أو 10,000 ناخب) الحق في فحص جميع وثائق كل مؤسسة كبيرة. فإن تدبيرًا كهذا يمكن تحقيقه تمامًا بسهولة بوساطة مرسوم بسيط.

وهو وحده من شأنه أن يطور مبادرة الشعب للمراقبة بواسطة المجالس الشعبية والعمالية والأحزاب السياسية، وهو وحده من شأنه أن يجعل الرقابة جدية وديمقراطية.”

ويضاف إلى هذا تأميم الاتحادات الاحتكارات، التي نسميها اليوم المفاتيح الرئيسية للاقتصاد، على سبيل المثال: صناعات الغذاء والشراب والطاقة والمواصلات والنقل والصحة والتعليم والبناء وغيرهم. وهو شرط أساسي من أجل تنظيم السوق طبقًا لأولويات المجتمع الجديد، أي طبقًا لاحتياجات الجميع وليس من أجل مصلحة قلة من الأثرياء وتعاظم ثرواتهم الفاحشة.

وهذه أيضًا مسألة ستكون سهلة بعد تأميم البنوك، إذ إن تطور النظام الرأسمالي أنتج تلاحمًا بين البنوك والنشاط الاقتصادي للمجتمع، فقد أصبح النشاط الاقتصادي للمجتمع اليوم معتمدًا كليًا على البنوك، بل في أحيان كثيرة تكون البنوك مالكة أو شريكة للعديد من المؤسسات الاقتصادية. ونظرة خاطفة على تأثير إفلاس بنك واحد على الاقتصاد العالمي كله كفيل ببيان هذه الحقيقة الجلية.

وكالعادة ينطلق لينين من تحليل مادي للنظام بصفته ماركسيًا ملتزمًا وليس عصبويًا مثاليًا، أي ينطلق من واقع تطور النظام الرأسمالي نفسه الذي تجاوزت قوى إنتاجه الجماعية والمتقدمة علاقات إنتاجه الرجعية القائمة على الملكية الخاصة الفردية:

“والحال إن تطور الرأسمالية الذي أنشأ المصارف والسنديكات والسكك الحديدية وخلافها وما أشبه، خلال خمس أرباع القرن قد جعل تدابير الرقابة الفعلية من جانب العمال والفلاحين على المستثمرين، الملاكين العقاريين والرأسماليين، أسهل وأبسط بمائة مرة.”

وبالطبع فاليوم مع تطور وسائل الإنتاج والتكنولوجيا والمستوى التعليمي المرتفع وتحول فئات واسعة إلى طبقة عاملة فإن تطبيق تدابير الرقابة الفعلية من جانب العمال والفلاحين على المستثمرين أسهل ألف مرة من أيام لينين والإتحاد السوفيتي.

وبعدها هاجم لينين الحكومة الإصلاحية في روسيا الجمهورية بسبب عجزها عن المساس بالاحتكارات، ولعل أهمها قطاع البترول في روسيا الغنية بالبترول والتي كانت تعاني حينها أزمة حقيقية في الطاقة:

“‘ملوك البترول’ سوف يتغلبون سواء بسواء على أمثال تيريشينكو وكرينسكي وافكسنتييف وسكوبيليف بنفس القدر من السهولة الذي تغلبوا به على الوزراء القيصريين، سوف يتغلبون بواسطة التأجيلات والتهربات والوعود، ثم برشوة الصحافة البرجوازية مباشرة وبصورة غير مباشرة (وهذا ما يسمى ‘الرأي العام’، وهذا ما ‘يحترمه’ أمثال كرينسكي وافكسنتييف) ورشوة الموظفين (الذي يبقيهم كرينسكي وافكسنتييف في مناصبهم السابقة في جهاز الدولة المعصوم السابق).”

وفي مقابل ذلك يشير لينين إلى الطريق الصحيح:

“فلأجل القيام بشيء ما جدي ينبغي الانتقال من البيروقراطية، والانتقال بطريقة ثورية فعلًا، إلى الديمقراطية، أي إعلان الحرب على ملوك البترول وأصحاب أسهم البترول، وإصدار المراسيم بمصادرة ممتلكاتهم وبعقوبة السجن على المماطلة في تأميم قطاع البترول، على كتمان المداخيل أو الحسابات، على تخريب الإنتاج، على عدم اتخاذ التدابير لزيادة الإنتاج.”

ومن أجل ذلك، كما دائمًا، يجب: “الاعتماد على مبادرة العمال والجماهير، ودعوتهم على الفور لعقد الاجتماعات والمؤتمرات”. أي محاولة فرض الرقابة من أسفل بواسطة العمال أنفسهم وأجهزتهم.

لينين والبرجوازية الصغيرة
إن لينين كتب هذا الكتيب في روسيا المتخلفة ذات الأغلبية الفلاحية، و”الفلاحين إنما هم أكثر ممثلي كل الجمهور البرجوازي الصغير عددًا” على حد وصف لينين، حيث كانت الطبقة العاملة أقلية في السكان، والأمية منتشرة، ولهذا كان من المهم كسب الفلاحين الفقراء وفقراء المدن، وحتى قطاعات من البرجوازية الصغيرة المدينية. حيث لا سبيل من أجل انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا حينها إلا بكسب العديد من الفئات غير العمالية، هذه الفئات التي تحمل أمراضها بدورها وذات وزن اجتماعي كبير ويجب التعامل معها بحذر.


فنرى لينين يقول مفندًا الدعاية البرجوازية الصفراء التي تصور أن الاشتراكيين يعانون من مرض شهوة المصادرة:

“إن الصحافة البرجوازية ‘تخيف’ على الدوام أرباب العمل الصغار والمتوسطين زاعمة أن الاشتراكيين بوجه عام، والبلاشفة بوجه خاص، يريدون ‘مصادرة أملاكهم’: هذا زعم واضح الكذب لأن الاشتراكيين لا يريدون ولا يمكنهم أن يصادروا أموال الفلاحين الصغار حتى في حال الانقلاب الاشتراكي الكامل، ولن يصادروها.”

وهي السياسية التي انقلب عليها ستالين في أواخر عشرينيات القرن العشرين بسياسته الإجرامية المتمثلة في سياسة “التجميع القسري”.

إن لينين في تناوله المسائل المتعلقة بالبرجوازية الصغيرة كان مدركًا لميزان القوى الطبقية، وفي نفس الوقت كان مدركًا لاحتياطات الرجعية التي يمكن أن تستند عليها القيصرية المنهارة والبرجوازية التي تكافح الانهيار من أجل تسديد ضربة قاصمة إلى الثورة الوليدة. إن الفلاحين الصغار وفقراء المدن والبرجوازية الصغيرة هما ميدان صراع نفوذ بين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع: الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، من يكسبهم سوف يسحق الآخر.

ومن جانب آخر تحدث أيضًا بعين ثاقبة عن طبيعة البرجوازية الصغيرة الفوضوية والمتناثرة والتابعة للبرجوازية الكبيرة في ظل النظام الرأسمالي في الأوقات العادية الهادئة:

“إن توحيد أرباب العمل الصغار والصغار جدًا في اتحادات سيلقى صعاب جدية، تكنيكية وثقافية على السواء، من جراء تبعثر مؤسساتهم إلى أقصى حد، من جراء بدائية أصحابها في ميدان التكنيك، أو جهلهم، أو أميتهم. ولكن هذه المؤسسات على وجه الضبط يمكن استثناؤها من القانون، كما إن عدم توحيدها، وبالأحرى التأخير في توحيدها، ليس من شأنه أن يخلق عقبة جدية لأن دور العدد الهائل من المؤسسات الصغيرة تافه في مجمل الإنتاج، ومن حيث أهميتها بالنسبة للاقتصاد الوطني بكليته، ناهيك بأنها غالبًا ما تكون تابعة بنحو أو آخر للمؤسسات الكبيرة.

أما الأهمية الحاسمة فهي للمؤسسات الكبيرة فقط، وهنا توجد الوسائل والقوى التكنيكية والثقافية من أجل ‘التوحيد’، لا ينقص غير مبادرة ثابتة حازمة، صارمًا قطعًا بلا هوادة من جانب السلطة الثورية حيال المستثِمرين، بغية استخدام هذه القوى والوسائل.”

وهو بهذا يقسم المجتمع أكثر فأكثر إلى طبقتين رئيستين، أي يعمل على تجنيب كل المسائل الفرعية لكي ينصب تركيز الطبقة العاملة وقيادتها الثورية على المسألة الأساسية في غمار الثورة التي هي علاقات الإنتاج ونمط الملكية، أي النظام الرأسمالي.

ففي ظروف الاضطراب، وعندما تكون الثورة على المحك، ما الأكثر أهمية: تأميم صناعات الأغذية وسلاسل محال بيع الأغذية العملاقة أم العمل من أجل توحيد المحال الفردية قسرًا؟ الجواب واضح، فتأميم شركات الأغذية وسلاسل محال بيع الأغذية، بجانب تأميم المصارف، سيكون أكثر من كافٍ من أجل السيطرة على الإنتاج والتوزيع وتوجيه ما تبقى من السوق الموجود في يد البرجوازية الصغيرة الهامشية، ففي هذه المؤسسات الكبيرة توجد التقنيات الحديثة والعمل الجماعي ولا توجد أي عقبة سوى إسقاط ملكية الرأسماليين.

إن هذه المسألة الحيوية تزداد سهولة بمقدار كثرة هذه المؤسسات، أي بمقدار تقدم وسائل الإنتاج وتمركزها، وفي نفس الوقت فإنها تزداد أهمية وحيوية بمقدار قلة هذه المؤسسات المتقدمة تقنيًا واتساع رقعة الملكيات الصغيرة التي تنتج فوضى في السوق ويمتاز أصحابها بجمود فكري وضيق أفق بطبيعتهم البرجوازية الصغيرة الأنانية. وكما شرح لينين:

“وبقدر ما يزداد البلد فقرًا بالقوى المتعلمة تكنيكيًا والمثقفة على العموم، يصبح من الضروري ضرورة حيوية أكثر إصدار المراسيم بأسرع ما يمكن وبأحزم ما يمكن بالاتحاد الإجباري والبدء بتطبيقه على المؤسسات الكبيرة والكبيرة جدًا، لأن الاتحاد على وجه التدقيق هو الذي سيوفر القوى المثقفة، ويتيح استخدامها بكليتها وتوزيعها على نحو أصح.”

وفي نفس الوقت، يبدد لينين بذكاء مخاوف البرجوازية الصغيرة وأصحاب الودائع من أجل عدم الخلط بين تأميم البنوك ومصادرة الممتلكات الخاصة، أي الأموال المودعة في البنوك. إذ يقول:

“إن ملكية الرساميل التي تتصرف بها المصارف والتي تتركز في المصارف إنما تثبتها أدلة مطبوعة وخطية يسمونها الأسهم والإيصالات وخلافها، إن واحدًا من هذه الأدلة لا تضيع ولا تتغير عندما يتم تأميم المصارف، أي عندما يتم دمج جميع المصارف في مصرف حكومي واحد. فمن كان يملك 15 روبلًا بموجب دفتر الادخار يبق مالكًا لهذه الروبلات الـ15 بعد تأميم المصارف، ومن كان يملك 15 مليونًا يبق له بعد تأميم المصارف 15 مليونًا، بشكل أسهم وسندات وسندات تجارية وما إلى ذلك.”

وبالفعل ففي كثير من الأحيان يكون من ذكاء القيادة الثورية عدم معاداة البرجوازية الصغيرة من أجل تجفيف منابع أي قاعدة اجتماعية يمكن أن تستند عليها البرجوازية الضئيلة الحجم.

يجب تعلم هذا الدرس جيدًا في البلدان المتخلفة ذات التطور المركب غير المتكافئ، حيث تطور رأسمالي صناعي في قطاعات عدة وفي نفس الوقت ما زالت الطبيعة الفلاحية طاغية في أنحاء عدة أخرى واتساع رقعة البرجوازية الصغيرة، مع وجود هامش كبير من البروليتاريا الرثة، أي هذه الشرائح من المجتمع التي فرمها ونسيها النظام الرأسمالي، وأصبحت تعيش على هامش المجتمع ومرتعًا لكل الأوبئة الاجتماعية. فبدون فهم هذه المسألة والتعامل معها بشكل سليم سيكون من الصعب للغاية انتصار الثورة الاشتراكية، خصوصًا في البلدان المتخلفة.

إن من أهم دروس الثورة البلشفية في روسيا هي ضرورة قيادة الطبقة العاملة تحالف الفقراء والمضطهَدين، أي العمل من أجل تأسيس ديكتاتورية البروليتاريا: الديمقراطية العمالية الثورية. وقد بُرهن على صحة موقف لينين وتروتسكي والبلاشفة في هذه المسألة. فكما شرح لينين:

“إن موقف البروليتاريا من الفلاحين في هذا الظرف يؤكد، مع إجراء التغيير المناسب، الموضوعة البلشفية القديمة القائلة بانتزاع الفلاحين من نفوذ البرجوازية. وفي هذا فقط ضمانة إنقاذ الثورة.”

سياسة لينين
إن سياسة لينين التي يكشفها هذا الكتيب هي السياسة الشيوعية التي تؤمن بالطبقة العاملة وقدرتها على تغيير المجتمع، ففي كل صفحة من صفحات الكتيب نرى هدف لينين واضحًا: “إقامة الديمقراطية الفعلية في هذا المضمار، وإبداء الروح الثورية الفعلية في تنظيم الرقابة من جانب أشد طبقات الشعب عوزًا على وجه التدقيق.”

وهذا من شأنه أن يكون بمثابة: “دفعة عظيمة للغاية نحو توظيف كل قوة مثقفة موجودة، نحو تطوير العزيمة الثورية فعلًا عند الشعب بأسره.”


هذا هو الدرس الذي يجب أن نتعلمه، فعند مقاربة أي من المطالب الاقتصادية والديمقراطية للجماهير، التي يجب ألا ننكرها ونتعالى عليها، يجب دائمًا أن نقاربها من منظور طبقي، وأن يكون هدفنا هو رفع وعي الجماهير بشروط حياتها ومهامها التاريخية، وزيادة تنظيمها وثقتها بنفسها، واستغلال هذا في مهاجمة الحكومة وأسس النظام الرأسمالي.

مثلًا لو رأينا كيف قارب لينين مسألة ضبط الاستهلاك، ومسألة “بطاقة الخبز” والتموين التي يروج لها دائمًا بصفتها أبرع وأرحم ما أنتجه العقل البشري – أو بمعنى أصح العقل البيروقراطي الدواويني – في مضمار ضبط الاستهلاك، حيث هاجم هزلية تطبيق أي إجراء من أجل ضبط الاستهلاك في ظل النظام الرأسمالي وبناءً على جهاز الدولة الرأسمالي، حيث دائمًا ما سوف يتمكن الرأسماليين من الالتفاف وإبطال كل إجراءات ضبط الاستهلاك حتى الضرائب:

“في روسيا التي قامت للتو بالثورة ضد القيصرية من أجل الحرية والمساواة، والتي أصبحت على الفور جمهورية ديمقراطية من حيث مؤسساتها السياسية الفعلية، يفقأ عين الشعب بشكل خاص، ويثير استياء الجماهير وامتعاضها وغضبها وسخطها بشكل خاص، كون الجميع يشهدون تملص الأغنياء من ‘بطاقات الخبز’، وهذه السهولة الكبيرة بخاصة ‘سرًا’، ولقاء ثمن ‘غال’ بخاصة، ولا سيما ‘بفضل الصلات’ (التي لا يملكها غير الأغنياء) يحصلون على كل شيء وبكثرة، الشعب يجوع، وضبط الاستهلاك ينحصر ضمن حدود ضيقة جدًا، حدود بيروقراطية رجعية، وليس من جهة الحكومة حتى أي ظل للتفكير، حتى أي ظل للعناية بإرساء هذا الضبط المباديء الديمقراطية الثورية فعلًا.”

ويضيف:

“الجميع يعانون من الصفوف، ولكن الأغنياء يرسلون الخدم للوقوف في الصفوف، بل إنهم يستأجرون خصيصًا لهذا الغرض خدمًا. فيا لها من ‘ديمقراطية’.”

وفي مقابل ذلك يطرح خطة عمل ديمقراطية وثورية من أجل وقف مناورات الأغنياء عند حدها: 1) اتحاد جميع السكان إلزاميًا في جمعيات استهلاكية، 2) فرض العمل الإلزامي على الأغنياء، 3) قسمة جميع المنتجات الاستهلاكية فعلًا بين السكان حصصًا متساوية لكي تتوزع أعباء الحرب على الجميع على قدم المساواة فعلًا، 4) تنظيم الرقابة على نحو تراقب معه طبقات السكان الفقيرة استهلاك الأغنياء بالذات. وبسط الرقابة على الأغنياء لا تعني سوى:

“تحميلهم في زمن الحرب أعباء أكبر، وهم الأحسن مركزًا، والمميزون، والشبعانون والمتخمون في زمن السلم.”

فالطبقة العاملة لن تدفع ثمن أزمة نظام الرأسماليين، والدعاية الوقحة التي يبثها رجال الأعمال الكبار مثل نجيب ساويرس في مصر حول ضرورة أن يتحمل الجميع أعباء الأزمة لكي يبرروا الاقتطاعات والتقشف وتسريح العمالة يجب ألا تخدعنا.

ونرى نفس الطبيعة الطبقية لكل الدول الرأسمالية الآن كما في أيام لينين:

“إن الدول الرأسمالية، التي تخاف أن تقوض دعائم الرأسمالية، دعائم عبودية العمل المأجور، دعائم سيطرة الأغنياء الاقتصادية، تخاف أن تطور المبادرة الذاتية لدى العمال والشغيلة على العموم.”

فمع كل أزمة نرى الحكومات الرأسمالية في كل بلدان العالم تعلن حالة الطوارئ وتقمع تحركات الجماهير، ليس من أجل نجدة الجماهير بالطبع وإنما طوارئ من أجل نجدة النظام الرأسمالي وكبح تطور الجماهير وتنظيمهم، أي قطع الطريق أمام أي مبادرات ذاتية من أسفل.

هل يمكن السير إلى الأمام مع الخوف من السير نحو الاشتراكية؟
هذا هو السؤال الذي طرحه لينين على القادة الإصلاحيين لكي يكشف زيفهم وخيانتهم أمام قواعدهم، وهو نفس السؤال الذي طُرح على جميع الثورات منذ الثورة الروسية وإلى الآن.


وهنا يشرح لينين بصبر، كما العادة، إنه “يستحيل السير إلى الأمام دون السير نحو الاشتراكية”. أي يشرح نظرية تروتسكي “الثورة الدائمة” بصيغة أخرى. وكم نحن بحاجة إلى هذه الحجج في مواجهة الماركسين الأردياء والتروتسكيين المزعومين وبقايا الستالينيين اليوم، الذين تسببوا في هزيمة عشرات الثورات في القرن الحادي والعشرين فقط، بخلاف مئات ثورات القرن العشرين.

ولعل المثال الأحدث في المنطقة هي الثورة السودانية، التي تسبب جبن وخيانة قادة الحزب الشيوعي السوداني في فشلها لأنهم توهموا إمكانية السير إلى الأمام دون السير نحو الاشتراكية، أو كما يحبون أن يسموها “إقامة دولة مدنية ديمقراطية”، وبهذا قدموا الثورة على طبقة من فضة إلى البرجوازية لكي تذبحها، لكي يوصلنا مسار الأحداث في النهاية إلى الحرب الأهلية الرجعية التي نشهد ويلاتها في السودان الآن.

ولكن ليس فقط في السودان، بل أيضًا في مصر وتونس وسوريا وبنغلاديش وسيرلانكا وفنزويلا والبرازيل وغيرهم الكثير من البلدان، نرى دائمًا نفس النظرية الستالينية الضحلة المجرمة التي يتبناها كثير من “الماركسيين الأردياء الذي يخدمون البرجوازية” بوعي أو دون وعي، والذين لا يفهمون أبجديات الواقع، فضلًا عن أبجديات الماركسية، فنراهم يتحدثون عن الدولة بشكل مجرد ليس بوصفها أداة في يد الطبقة السائدة، وعن الاستعمار والإمبريالية وكأنها نزعة متوحشة إرداوية بشكل مجرد وليست الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية ومسار حتمي لها، وكأنه يمكن النضال ضد الاستعمار والإمبريالية والهيمنة الخارجية والحروب دون النضال ضد الرأسمالية.

فعندما يسأل الماركسيين الحقيقيين الماركسيين الأردياء: كيف ستحققون التغيير؟ يرد الأردياء: بالتحول المدني الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، فيسأل الماركسيين الحقيقيين: ألا يتعارض هذا مع النظام الرأسمالي خصوصًا في مرحلة أزمته الحالية؟ هنا يقف الأردياء عاجزين تائهين وكأنهم أمام معضلة حسابية عويصة، ثم يردون: آه هذه الأحلام الاشتراكية الجميلة! يمكن أن نبحث في كيفية تحقيقها في المستقبل، فلنكن واقعيين فليس هذا هو الوقت المناسب للدعاية الاشتراكية الصريحة، فلنتخلص من الديكتاتور والحكم الاستبدادي أو الديني ونشيد دولة مدنية ديمقراطية حديثة أولًا ثم نرى، وسيكون لدينا كل الوقت للتحدث عن الاشتراكية حينها!

إن هؤلاء الماركسيين الأردياء الذين يظنون أنفسهم أذكياء ويلبسون ثوب العقلانية والحكمة الفضفاض عليهم يعتقدون أنه يمكن توفير الغذاء والتعليم والصحة والسكن والعمل وإرساء دعائم ديمقراطية حقيقية راسخة دون الاصطدام بالنظام الرأسمالي والقضاء عليه.

إنهم مثل أسلافهم:

“لا يدركون (إذا بحثنا في أسس رأيهم النظرية) ما هو الاستعمار (الإمبريالية)؟ ما هي الاحتكارات الرأسمالية؟ ما هي الدولة؟ ما هي الديمقراطية الثورية؟ لأن من يفهم هذا، لا بد أن يعترف بأنه يستحيل السير إلى الأمام دون السير نحو الاشتراكية.”

ولكنهم بالطبع لن يعترفوا بذلك، وبدلًا من الاستنتاج الماركسي الصحيح يستنتجون من الواقع أن المهمة الأولية ليست الدعاية الاشتراكية والسعي نحوها، وإنما بناء رأسمالية متقدمة، أو دولة مدنية حديثة بالتعبيرات السياسية والأكاديمية المنمقة، دون أدنى فهم للواقع المتجدد في عصر الإمبريالية، بل وفي عصر تعفن الرأسمالية. فهؤلاء:

“يتناولون مسألة الاشتراكية بصورة مذهبية جامدة، من وجهة نظر المذهب الذي حفظوه عن ظهر قلب وفهموه فهمًا سيئًا. وهم يصورون الاشتراكية على أنها شيء ما بعيد ومجهول، على أنها مستقبل غامض.”

ولكننا، الماركسيين، نفهم العكس، ونستطيع أن نؤكد، لأننا نملك عينين نرى بهما ودماغ نفكر بها، أن ظروف بناء الاشتراكية متوفرة بالفعل وظروف القضاء على الرأسمالية بدأت في التعفن:

“والحال، تنظر الاشتراكية إلينا الآن عبر جميع نوافذ الرأسمالية المعاصرة، والاشتراكية ترتسم معالمها مباشرة، عمليًا، من كل تدبير كبير يمثل خطوة إلى الأمام على أساس هذه الرأسمالية الأحدث عصرًا.”

هذه الكلمات كتبت قبل أكثر من 100 عام، وعلى مدار القرن الماضي اتخذ التقدم التكنولوجي وقوى الإنتاج أبعادًا لا مثيل لها ستكون قادرة في ظل الاشتراكية على حل جميع المشاكل الرئيسية للجنس البشري، ولكن في ظل الرأسمالية فإن هذا التقدم لا يؤدي سوى إلى مزيد من البؤس والمعاناة بالنسبة للعمال والفقراء.

قد يرد علينا الماركسيين الأردياء في منطقتنا: إننا نريد أن نتخلص من الديكتاتورية أو الطائفية أو الأصولية أولًا ثم نتحدث عن الاشتراكية لاحقًا، وإنه من السابق لأوانه التحدث عن الاشتراكية في بلداننا المتخلفة. إن هؤلاء يبنون أنفسهم بشكل مباشر أو غير مباشر على حجة الخصوصية، هذه الحجة السخيفة التي دائمًا ما يشهرها الجبناء والخونة أو عديمي الفهم والعقل من أجل تبرير جبنهم وخيانتهم وضحالة أسسهم النظرية. وكأن العالم كله له خصوصية عن النظام الرأسمالية الكلي، وهم بهذا ينحدرون من المادية إلى المثالية الذاتية، ويرفعون التجربة الذاتية إلى مصاف المحدد النظري الكلي.

وفي ميدان الصراع الطبقي والاجتماعي فهم يسوقون العمال ليكونوا “أقنانًا للبرجوازية” تحت قناع النضال الديمقراطي المزيف من أجل “التداول السلمي للسلطة” و”الحكم الرشيد”، باستخدام التعبيرات المنمقة المنافقة للمجتمع المدني والجمعيات غير الحكومية.

ولكن طبيعة النظام الرأسمالي تتناقض مع الديمقراطية بشكل كامل، خصوصًا في مرحلة أزمته. إن طريقة عمل النظام الرأسمالي القائمة على استغلال الأقلية للأغلبية، وإثراء الأقلية على حساب إفقار الغالبية العظمى من الشعب، وتشابك الدولة مع مصالح الرأسمالية بحيث تصبح الدولة هيئة رعاية مصالح الرأسماليين وتنظيم المجتمع خدمة لهم وقمعه حماية لهم، كل هذا يتناقض مع مبادئ الديمقراطية الحقيقية.

هذا هو واقع النظام الرأسمالي منذ نشأته حتى كتابة لينين هذا الكتيب، وهو الواقع الذي يزداد وضوحًا وانحطاطًا بمرور الوقت، حتى وصلنا إلى عصر الأزمة المستفحلة في القرن الحادي والعشرين التي نعيشها حاليًا ويدفع ثمنها ملايير العمال والفلاحين والفقراء في جميع أنحاء العالم. ولهذا فأي إيمان جدي نزيه بالديمقراطية يجب أن يقود صاحبه بالضرورة إلى النضال من أجل الاشتراكية.

فنحن نرى بعد انصرام الربع الأول من القرن الواحد والعشرين ما رآه وأقره لينين في الربع الأول من القرن العشرين:

“إن سيطرة البرجوازية لا تتوافق مع الديمقراطية الحقيقية الثورية حقًا. وفي القرن العشرين يستحيل على المرء في بلد رأسمالي أن يكون ديمقراطيًا ثوريًا إذا كان يخاف السير نحو الاشتراكية.”

خاتمة
إن أهمية هذا الكتيب تظهر بجلاء مع قراءة كل سطر من سطوره. فحتى اليوم ما تزال الحركة الشيوعية والعمالية العالمية عالقة في نفس المأزق، مأزق خيانة وجهل وجبن القادة الذين شوهوا الماركسية واللينينية، ودفنوها تحت أكوام من الرماد الستاليني والأكاديمي النتن.

ولهذا نقول دائمًا إن نقطة البداية من أجل عودة الحركة الشيوعية على أسس سليمة هي بالعودة إلى لينين، هي بالتعرف على أفكار لينين وماركس وانجلز وتروتسكي بقراءة أعمالهم وليس بالسماع عنهم. فبدون النظرية الماركسية نحن لا شيء، وبالنظرية الماركسية نحن كل شيء. وهذا ما لا يفهمه العصبويون الطفوليون مفرطي الحركة متضخمين الذات.

هذه هي تقاليدنا وسياستنا التي نعلنها دون مواربة ولا خوف. لهذا نرى أن الحل الوحيد الحقيقي لمشاكل الجنس البشري هو إسقاط الرأسمالية وبناء مجتمع اشتراكي، في مقابل الإصلاحيين والماركسيين الأردياء الذين يخلقون الحجج تلو الحجج للتخلي عن الأفكار الماركسية وعن النضال من أجل الاشتراكية.

واليوم في عصر الأزمة الرأسمالية الطاحنة الأعمق والأعقد على الإطلاق تندلع حرب تلو الأخرى، ويرزح ملايير العمال تحت واقع بائس أليم، وتتفاقم أزمة المناخ، وتفقد الديمقراطية البرجوازية بريقها، بل وتهدف البرجوازية إلى الهجوم على الحقوق الديمقراطية للعمال، هذه الحقوق انتزاعها العمال بالعرق والدم، وهذا شيء أساسي لكي يحمل الرأسماليون العمال ثمن أزمة نظامهم المفلس.

إن البرجوازيين الطفيليين مستعدين إلى دفع الجنس البشري كله إلى الهلاك في سبيل بقاء نظامهم وأرباحهم وثرواتهم، فسياسة البرجوازية على الدوام: “ليكن من بعدي الطوفان!”.

إننا ما زلنا نشهد عاصفة الأزمة التاريخية للرأسمالية، ولكننا لم نصل إلى مركز العاصفة بعد، ولا يوجد مخرج لهذه الأزمة على أسس الرأسمالية، وفي نفس ما زالت القوى الشيوعية الثورية الحقيقية صغيرة الحجم ومن ثم فهي غير قادرة على تغيير مسار الأحداث حتى الآن، ولكننا مصممين على بناء هذه القيادة في أسرع وقت ممكن. هذا هو السبيل الوحيد من أجل إنقاذ البشرية من الكارثة المحدقة بها.

إن عقم الإصلاحية، بالإضافة إلى نهوض الطبقة العاملة الذي نشهده في بلد تلو الآخر، بجانب بناءنا قوى الشيوعية الثورية في عشرات البلدان حول العالم، سوف يدفع الصراع الطبقي إلى مرحلة جديدة في المستقبل القريب، وسيفتح مرة أخرى أفق احتمالية الثورة الاشتراكية العالمية لأول مرة منذ انحطاط الأممية الثالثة الشيوعية (الكومنترن) نتيجة انحطاط الاتحاد السوفيتي.

ونترك الكلمة الأخيرة إلى لينين الذي يسطر تشخيص وروشتة ماركسية ثورية لعصر الحروب العالمية الذي يشابه في كثير من الجوانب العصر الحالي:

“لقد خلقت الحرب أزمة على درجة من الاستشراء، ووترت قوى الشعب المادية والمعنوية توتيرًا، وسددت الضربات إلى التنظيم الاجتماعي العصري بكليته، بحيث إن الإنسانية وجدت نفسها أمام أمرين لا ثالث لهما: إما الهلاك وإما تسليم مصيرها إلى الطبقة الأكثر ثورية من أجل الانتقال بأقصى السرعة والحزم إلى أسلوب إنتاج أعلى.”

محمد حسام



#محمد_حسام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
- السودان: استمرار الحرب الهمجية وأزمة القيادة
- عام من معاناتهن.. المرأة الفلسطينية تواجه حرب الإبادة
- مصر: بعد تنصيب الديكتاتور مجددًا، القادم يختلف عما مضى
- نصرة فلسطين: مقاطعة استهلاكية أم تضامن عمالي وأممي؟ من أجل ح ...
- مصر: العدوان على غزة يصب المزيد من الزيت على النار
- فلسطين/إسرائيل: العدوان الإجرامي على غزة يهدد بإشعال المنطقة
- مصر: كشف حساب نظام عبد الفتاح السيسي ومنظورات المستقبل
- مصر: انحطاط المجتمع تحت حكم الدكتاتورية العسكرية
- مصر: الذكري العاشرة للاطاحة بالإخوان المسلمين، محاولة لفهم م ...
- السودان: بين الثورة والثورة المضادة
- السودان: صراع الأجنحة المسلحة للثورة المضادة يهدد باندلاع حر ...
- منظورات الوضع في مصر
- الانقلابات والنضال الجماهيري في أمريكا اللاتينية
- مصر: الديكتاتور يعيد تقديم أوراق اعتماده لرأس المال
- مصر: عمق الأزمة يجلب مزيد من الصدمات الاجتماعية
- مصر: الموقف الماركسي من العمليات الإرهابية
- السودان: الطريق أمام الثورة
- مصر: موجة من التحركات المهنية كاشفة لما هو آتٍ
- مصر: عن عقد القمة السابعة والعشرين للمناخ في مصر


المزيد.....




- إيلون ماسك يعلق على تنصيب ترامب: أصبح مستقبل الحضارة مضمونا ...
- وعود ترامب.. عهد ذهبي لأمريكا وإنهاء للنزاعات في العالم
- بعد انتظار طويل.. إسرائيل تودع الجندي أورون شاؤول الذي قتل ف ...
- ترامب يصدر تعليماته لوزارة الخارجية بتطبيق سياسة -أمريكا أول ...
- موسكو توقف تطبيق المذكرات الحكومية بشأن المراكز اليابانية
- ماكرون يدعو أوروبا إلى -الاستيقاظ- وزيادة الانفاق على الدفاع ...
- الأميرة ريما بنت بندر تثير تفاعلا بصورها مع ترامب في حفل تنص ...
- الشرع يهنئ ترامب ويتطلع لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة ...
- ترامب رئيسا من جديد للولايات المتحدة.. هل هو أكثر قوة هذه ال ...
- تفويض شعبي و-إلهي- لترامب؟


المزيد.....

- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد حسام - قراءة في كتيب لينين “الكارثة المحدقة وكيف نواجهها”