أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد جرادات - الثورات الرثة: جَوْلة السَّفاري المُفترِسة الثانية















المزيد.....


الثورات الرثة: جَوْلة السَّفاري المُفترِسة الثانية


أحمد جرادات

الحوار المتمدن-العدد: 8226 - 2025 / 1 / 18 - 16:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



جئتُ، رأيتُ، انتصرتُ"- يوليوس قيصر
تمهيد
هذه الكلمات الثلاث عَدَّها باحثون سياسيون أقصرَ خطابِ نصرٍ في التاريخ، وهو الخطاب الذي ألقاه يوليوس قيصر لحظة انتصاره الساحق والخاطف على الملك فرانسيس الثاني في عام 47 قبل الميلاد، والذي ردَّدتْه وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلنتون بتغييرٍ بَشِع للكلمة الثالثة فيه لحظة إعلان انتصار حلف الناتو بقضِّه وقضيضه على ليبيا وقتْل رئيسها العقيد معمر القذافي بعد التمثيل بجسده وإهانة كرامته الإنسانية بحراب البنادق على فضائيات العالم، إذ وصفتْ ذلك الحدَث في مؤتمر صحفي والضحك يَملأ شِدقيْها: "جئنا، رأينا، ومات" (تقصد القذافي).
وكان عرَّاب" الثورة الليبية" الفيلسوف الصهيوني الفرنسي المعروف في الغرب باسمه المختصرBHL قد خطط لإشعال تلك الثورة وقادَها في مطلع عام 2011، وأعلنَ أنه يعتزم تطبيق ما أسماه "نظرية القذافي" على بشار الأسد وإلقاء خطاب النصر من دمشق. بيْدَ أن "الصيدة"، على حد تعبير وزير الخارجية القطري آنئذ، أفلتتْ من المصيدة في جولة السَّفاري المُفترِسة الأولى في ذلك العام، لتقع في مخالب الصيادين المفترسين في الجولة الثانية في أواخر هذا العام 2024، بعد أن أثخنوها بسهام الحصار السامَّة وسلاح التجويع الحربي والإفساد وقانون قيصر الفتَّاك الذي فرضت الولايات المتحدة بموجبه عقوبات مشددة على سوريا، وحتى على جميع الدول والكيانات والأفراد والشركات التي تتعاون معها أوتساعدها. وبذلك باتَ بإمكان مايسترو "الثورة السورية" الأميركي أن يصعد إلى قصر الشعب على قمة قاسيون المَهيب ويردد من هناك خطاب يوليوس قيصر ذاك مُعلنًا انتصاره على بشار الأسد، ويودُّ أن يقف على قبره ويقول له، مثلما قال الجنرال غورو لصلاح الدين: "ها نحن عُدْنا يا بشَّار".

نظريتان للثورات الرثَّة
من المعروف أنه في العلم الثوري لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية، أما في اسراتيجيات العولمة الأوليغارشية المالية فلا ثورة رثة بدون نظرية رثة. وقد استخدمَ الغرب الاستعماري الجماعي نظريتين للثورة السورية: نظرية القذافي المشار إليها آنفا والتي ابتدعها برنار هنري ليفي، ونظرية ما بعد الحقيقة أو الحقائق البديلة. وقبل الاستطراد في الحديث عن النظريتين يجدر الإضاءة على معاني ومفهومات "الرثاثة" لصلتها بموضوعنا، وربما تجدونها مُملَّة، أرجو تَحمُّلها:
مصطلح "الرث" مُعجميًا باللغة العربية يعني:
- الرديء، سَقَط المتاع
كلام غثٌّ ورثٌّ: سخيف وساقط
رثُّ الهيئة: قبيح المنظر - معجم المعاني الجامع.
- رثَّ الثوبُ وغيره (رثاثةً ورثوثةً): بَليَ. رثَّت هيئة الرجل: قَبُحت وهانتْ - المعجم الوسيط.
أما المصطلح باللغة الإنجليزية Lumpen فمعناه:
- الشخص الرث هو الفرد المُقتَلع من طبقته الاقتصادية والاجتماعية التي تحدد هويته المعتادة - قاموس ويبستر.
- الجِلف والغبي - قاموس أُكسفورد.
وتتكون الثورات الرثة من فئات وشرائح اجتماعية عابرة للطبقات:
البروليتاريا الرثة: مصطلح صكَّه كارل ماركس في وصف شريحة من الطبقة العاملة لا تُحقق وعيًا طبقيًا، ولا تُسهم في الإنتاح المفيد اجتماعيًا، وغيرُ مفيدة في النضال الثوري الحقيقي، وتضمُّ الأشخاص المُقتَلعين من طبقتهم الاجتماعية والاقتصادية التي ينتمون إليها؛ والأشخاص الذين لا يفكرون، وغير المتنوِّرين، والمستعدِّين لكسر الإضرابات وتفريق المظاهرات وعمل أي شيء مقابل المال؛ و"المتهتكين" الذين لديهم وسائل عيش مشكوك فيها، وأصول مشكوك فيها؛ والأفَّاقين ومرتكبي الجرائم من اللصوص وتجار المخدرات وتجار البشر والأعضاء البشرية. باختصار، هم المجموعات غير المندمجة في البيئة المحيطة والملقاة على قارعة المجتمع هنا وهناك.
البرجوازية الرثة: وتضم البرجوازية الكومبرادورية من وكلاء الرأسمال الأجنبي والنيوليبراليين المتعاونين معها، وهؤلاء يمثلون الفاعل المحلي الرئيسي المسؤول عن منع تحقيق التنمية الاقتصادية الوطنية المستقلة في أي بلد.
الانتليجنسيا الرثة: ثمَّة شريحتان من الانتليجنسيا، الأولى ثورية، وهي التي ذُكر إنَّ قيصر روسيا نيكولاي الثاني كان يكرهها إلى حد أنه أراد شطب هذه المفردة من قاموس اللغة الروسية، والثانية رثة، وهي التي يحبها "قياصرة" اليوم إلى حد أنهم يخصصون موازنات كبيرة لشراء ممثليها وإفساد ضمائرهم وتشغيلهم ككتيبة "ثقافية" في جيش الإرهاب، أو جوقة من الزمارين الذين يؤدُّون الألحان التي يطلبها رُعاة الفكر التكفيري المُسرْبل بالقداسة، أو النيوليبرالية.
إنَّ جميع مَن ذُكروا آنفًا من الفئات والشرائح الاجتماعية الرثة، أو بعضهم، يمكن أن يَصنعوا، أو يُصنع بهم، ثورة رثة. ولذا، فإنَّ السؤال الأساسي والجوهري الذي يحتاج إلى إجابة شافيَة من قبل المفكرين يظل مطروحًا بشكل ملحٍّ هنا واليوم وغداً: هل ما حدث في سوريا ثورة أم ثورة رثَّة، أي ثورة مضادَّة؟
لِنَعد الآن إلى سياق نظريتيْ الثورات الرثة:
- "نظرية القذافي" Qaddafi Theory
مُنطلِقًا من محاولة تكريس نفسه كمفكر شامل في الوسط الثقافي الفرنسي، اخترعَ برنار هنري ليفي نظرية أسماها "نظرية القذافي"، وهي باعتقادي نظرية رثة تصلح لثورته الرثة التي صنَعها للإطاحة بالرئيس الليبي العقيد معمر القذافي. ومُستندًا إلى النجاحات التي أحرزها وتبجَّحَ بها بقوله "إن الثورة الليبية صنَعها ثلاثة أشخاص، رَجُلا دولة ومثقف: نيكولا ساركوزي وهيلاري كلنتون وأنا"، قرَّر ليفي أن يطبِّقها على بشار الأسد. ففي مقالٍ في مجلَّة "لا بوينت" الفرنسية بعنوان "نهاية اللعبة في سوريا"، يذكر ليفي أنَّ رموز المعارضة السورية الذين يتصل بهم يرون أنَّ التدخل العسكري على الطريقة الليبية ربما يكون الطريق الوحيد للإطاحة بنظام الحكم في دمشق. وختَم مقاله بإعلان الحرب على بشار الأسد، وأكَّد أنَّه سيتم إسقاط النظام السوري ضمن سيناريو على غرار السيناريو الليبي، مضيفًا أنَّ كلَّ ما تبقَّى في الدراما السورية هو "المشهد الأخير الذي لم يُكتب بعد بشكل كامل"، وكشفَ النقاب عن أنَّ جهوده وراء الكواليس بدأت قبل ستة أشهر من بدء الأحداث في سوريا.
إنها إذن "السابقة الليبية" نفسها، والقوة نفسها، بل القوى نفسها التي تخلق الأثر نفسه والنتائج نفسها. ولذا فقد استغرب ليفي كيف لا يرى صاحب الشأن في سوريا هذا الأمر، وتساءل عن "حالة الانطوائيَّة والغرق في بحر الذات التي تمنع بشار الأسد من فهم ما يجري حوله، أي أنَّ الائتلاف نفسه الذي أطاح بالقذافي قادم هذه المرة للإطاحة به لا محالة".
وكمثقف شامل، كما يصف نفسه، صَنعَ ليفي فيلمًا وثائقيًا عن "ثورته" الليبية أسماه "قَسَم طُبرق"، حرِصَ أثناء عرضه في باريس على ظهور أشخاص ملثَّمين إلى جانبه، قدَّمهم كممثلين عن مقاتلي الثورة السورية لأنَّ فيلمه مُهدى إليهم. ودعا المشاهدين إلى تصوُّر حمص محلَّ مصراته ودرعا محل بنغازي ودمشق محل طرابلس، وتمنَّى أن تكون الصُوَر التي التُقطت بالأمس في ليبيا صُورًا للغد في سوريا.
بيد أنَّ "الصيدة" السورية أفلتتْ في تلك المرَّة.

- "نظرية ما بعد الحقيقة" Post-Truth Theory، أو "الحقائق البديلة"
كلمة post هنا لا تعني "ما بعد" بالمفهوم الزماني، كأن نقول: "ما بعد الحرب العالمية الثانية" مثلاً، وإنما هي صفة تدلُّ على أو تتعلق بظروف تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من مخاطبة العاطفة والاعتقاد الشخصي، أو في وقت يصبح فيه الموضوع غير مهم أو غير ذي صلة بالموضوع نفسه، ويصبح المهم هو ما بعد الموضوع الأصلي.
وقد ظهرت استخدامات عدة لمصطلح "ما بعد الحقيقة"، من قبيل: سياسة ما بعد الحقيقة؛ عالم ما بعد الحقيقة؛ حقبة ما بعد الحقيقة؛ ثقافة ما بعد الحقيقة؛ أو "الحقائق البديلة" Alternative Facts .
وقد عُرِّفت سياسة ما بعد الحقيقة بأنها ثقافة سياسية يتشكَّل فيها الحوار من خلال مخاطبة العواطف المنفصلة عن تفاصيل السياسات، وبتكرار التأكيد على نقاط الكلام التي يتم فيها تجاهل الدحض الحقيقي للسردية المزيَّفة (ففي قصة استخدام الجيش العربي السوري الأسلحة الكيميائية ضد الأطفال في خان شيخون، التي ثبتَ أنها كانت مُختلَقة كليًا ومُعدَّة مسبقًا ومُمسرَحة، أدَّتها جوقة عالمية كاملة منسَّقة، من منظمة الخوذات البيضاء، التي أسَّسها وترأسها ضابط الاستخبارات البريطاني جيمس لوميسورييه، إلى رئيس الولايات المتحدة نفسه، لم تجدْ الأدلة المادية الدامغة التي تدحض الرواية الملفَّقة أُذنًا صاغية من أحد، فكذَّب العالم "الحقيقة" وتجاهلَها، وصدَّق ما بعد الحقيقة وأخذَ بها.
ويُوصف عالم ما بعد الحقيقة بأنه عالم تُعرَّف فيه الحقيقة بأنها ما يتصوَّر المرء أنها حقيقة، حتى لو كانت الحقيقة غير ما يتصوره، أو حتى عكسه، وهو بالتالي عالم "الحقائق البديلة".
ويعتقد الفيلسوف البريطاني أنتوني غريلنغ أنَّ ثقافة ما بعد الحقيقة ربما تكون الأخطر بين الاستخدامات الأخرى لأنها، مع ظهور المزيد من استخدامات المصطلح والتوسع في المفهوم، ربما تتطور إلى نظرية قائمة بذاتها في عصر سيادة الثقافة السطحية أو تسطيح الثقافة، وتصبح غطاءً أيديولوجيًا للتلاعب بعقول الشعوب وقلوبها مثلما فعلت نظرية نهاية التاريخ البائسة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ويرى أن ظاهرة ما بعد الحقيقة تتعلق باعتقاد المرء بأن رأيه أكثر قيمة من الحقائق، كما أنها تتعلق بشعوره تجاه الأشياء، لا بحقيقتها.
ويحذِّر غريلنغ من ثقافة الانترنت التي لا تُميِّز بين الحقيقة والخيال، ومن أن بعض المزاعم المبثوثة على وسائل التواصل الاجتماعي تحظى بنفس القدر من الصدقية التي تتسم بها مكتبة كاملة زاخرة بالبحوث الرصينة، وربما أكثر، إذ يكفي القول إنها منشورة على السوشال ميديا يا أخي، ألا تصدِّق؟
أما سياسة ما بعد الحقيقة فهي نوع من السياسة التي لا تشغل نفسها مطلقًا بالبحث عن أدلَّة بشأن الحقيقة أو عن الحقيقة نفسها؛ إذ أنَّ معتنقي نظرية ما بعد الحقيقة ليسوا بحاجة إلى حقائق، بل إلى مواصلة إطلاق الأكاذيب وحسب.

أمثلة على بعض تجلِّيات نظرية ما بعد الحقيقة فيما يتعلق بالوضع السوري
تقول الحقيقة الساطعة إن سوريا تعرَّضت لثلاثة احتلالات-أميركية تركية إسرائيلية- واجتياح كامل لأراضيها من قبل قوات هيئة تحرير الشام وأخواتها وبنات عمومتها من الفصائل المسلحة المعارضة المصنَّفة إرهابية أسموها ثورة شعبية هدفها تحرير سوريا والشعب السوري، لا من الاحتلالات الأجنبية الثلاث، بل من حُكم بشار الأسد. ولتبيين الارتباط المباشر لهيئة تحرير الشام وأخواتها وقادتها بالإرهاب، ارتأيتُ أن أُقدم عرضًا موجزًا لخط انحدار "سُلالة أمراء الجهاد الإسلامي" بدءً بالأب المؤسس أُسامة بن لادن، وهي معلومات مُتاحة لكل إنسان وفي كل مكان، وليست جديدة، ويمكن تصنيفها تحت باب "اللزوميات"، أي لزوم ما لا يلزم، وهو عنوان ديوان شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري، الذي ازدَهت إحدى الجماعات التكفيرية التي تنتمي إلى هذه السلالة بقطع رأس تمثاله في مسقط رأسه معرَّة النعمان فور احتلالها الموقع في عام 2013 لقطع دابر الكفر والزندقة والشِرك وعبادة الأصنام:
- أًسامة بن لادن - تنظيم قاعدة الجهاد في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي والشيوعية والإلحاد، الذي "أذَّن" له- التعبير للكاتب محمد حسنين هيكل- وأسَّسه مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجنسكي (مجلة وجهات نظر)، قُتل على أيدي المخابرات المركزية الأميركية في أيار/مايو 2011، في عملية هوليودية شاهدَها على الشاشة مباشر كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين في البيت الأبيض واحتفى بها الشعب الأميركي في الشوارع.
- الدكتور أيمن الظواهري-قاعدة الجهاد في أفغانستان، خليفة بن لادن على رأس تنظيم القاعدة، من 2011 إلى 2022. وهو الثاني على قائمة المطلوبين بعد بن لادن، قتله الأميركيون في غارة جوية على منزله في كابول.
- أبو مصعب الزرقاوي- زعيم تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، التابع لتنظيم القاعدة، قام بتغيير اسم التنظيم إلى جماعة التوحيد والجهاد في العراق. وهو المسؤول عن التفجيرات الانتحارية في فنادق عمان في عام 2005، التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى المدنيين الأبرياء، من بينهم المخرج السوري العالمي الكبير مصطفى العقاد، صاحب فيلم الرسالة الشهير وابنته ريما. وقد قُتل الزرقاوي في غارة جوية أميركية بالقرب من بعقوبة في عام 2006.
- أبو بكر البغدادي، الذي وحَّد جماعتيْ دولة العراق الإسلامية وجبهة نصرة أهل الشام بقيادة أبو محمد الجولاني، تحت اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وأعلن قيام الخلافة الإسلامية التي امتدت فروعها (ولاياتها) على رقعة شاسعة من أراضي العراق وسوريا وسيناء وحتى أفريقيا، واشتهر عناصرها بسبي النساء والاتجار بهن في أسواق النخاسة علنًا وعلى المواقع الإلكترونية (الجرائم البشع بحق الأيزيديات). وقد ظل البغدادي في سدَّة "الخلافة" حتى مقتله عام 2019، ولا يزال تنظيمه قائمًا وجاهزًا للتفعيل متى شاء المشغِّلون.
- أبو محمد الجولاني، قائد جبهة نصرة أهل الشام التابعة لتنظيم "داعش"، غيَّر اسم التنظيم إلى هيئة تحرير الشام، وأعلن بدء القتال من أجل الإطاحة بنظام بشار الأسد. في عام 2012 وضعت الإدارة الأميركية هيئة تحرير الشام على لائحة الإرهاب، وفي عام 2013 أضافت اسم زعيمها أبو محمد الجولاني على لائحة الإرهابيين، وأدرجت اسمه في "برنامج المكافآت من أجل العدالة"، حيث خصَّصت مكافأة قيمتها عشرة ملايين دولار أميركي لمن يدلُّ عليه. وقد ظلَّ أبو محمد الجولاني وهيئة تحرير الشام مصنَّفيْن على لائحة الإرهاب حتى بعد قلب نظام الأسد وتسلُّم سلطة الأمر الواقع في سوريا.
هؤلاء إذن من أُمراء السلالة "الجهادية" التي وُضعت على قوائم الإرهاب الدولي من قبل الولايات المتحدة والغرب والعالم. ومن وسط فصائلها المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام زحفَ عشرات الآلاف من المقاتلين المدجَّجين بمختلف أنواع الأسلحة على دمشق وأسقطوا النظام بدعم أميركي- تركي- إسرائيلي. وهذه حقيقة طازجة مثبتة للعالم أجمع لا يختلف عليها اثنان، أليس كذلك؟
بيد أنَّ ما بعد الحقيقة، أو الحقيقة البديلة التي قُدمت للعالم غير ذلك، فهي تستند إلى استراتيجية "الشيْطنة والمَلْكنة" (جعل الشخص/النظام المستهدَف شيطانًا وجعل البديل مَلاكًا). هذه الاستراتيجية تقول إنَّ ثورةً شعبية بيضاء مباركة حدثت في سوريا بهدف قلب نظام الحكم القمعي والإطاحة برأس الطاغية بشار الأسد الذي قتلَ شعبه وعذَّب مئات آلاف المعارضين في السجون والمعتقلات السرية الرهيبة، وخاصَّةً سجن صيدنايا الأسطورة، ومن أجل إقامة نظام حكم ديمقراطي تعددي عادل، وإنها أخذت بيدها زمام السلطة بصورة سلمية أدهشتْ العالم. وقد تَقاطرَ مبعوثو دول الغرب الاستعماري وتوابعه في المنطقة على دمشق زَرافات ووحدانا، "مُكرَهٌ أخاكم أو بَطل"، ظاهرُهم للتهنئة والدعم والاعتراف في مشهد يشبه "البيعة" لأمير المؤمنين المنصور، وباطنُها ضمان حجز حصصهم من لحم الفريسة السورية التي وقعت هذه المرة. وتم تسويق رواية ما بعد الحقيقة أو الحقيقة البديلة، بصنع صورة جديدة "نيو لوك" وعلامة تجارية وأسماء جديدة rebranding لقادة فصائل مُدرجة على قوائم الإرهاب وتقديمهم كرجالات دولة مدنيين وعصريين ببدلات وربطات عنق يستقبلون السفراء والوزراء. وبناءً على ذلك، تهافتتْ الدول على تقديم الدعم لهم، ووعدتْ الولايات المتحدة برفع الحصار وإلغاء قانون قيصر اللَّذيْن كانت قد فرضتْهما على سوريا في عهد بشار الأسد طوال ثلاث عشرة سنة وأدَّيا إلى خنق الشعب السوري وتجهيز الحفرة المناسبة التي تتسع لدفن النظام في باطنها. (قيصر هذا اسم مستعار قيل إنه لمصور عسكري سوري منشق مجهول الهوية أجلسوه أمام الكونغرس الأميركي وهو يرتدي سترة و"هودي" زرقاء اللون ويدير ظهره للجمهور، وزُعم أنه حَملَ معه ما يزيد على خمسين ألف صورة لضحايا التعذيب والفظائع التي ارتُكبت على أيدي النظام السوري. ولم يُكشف النقاب عن شخصيته الحقيقية حتى الآن، وربما يكون من شخوص نظرية ما بعد الحقيقة أو الحقائق البديلة).
إنَّ ما بعد الحقيقة هو ما رسَّخته احتكارات الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي الإمبريالية المهيمنة في عقول الجماهير داخل سوريا وخارجها على أنه هو الحقيقة لا ريْب فيها، بتطبيق استراتيجية الشيطنة والملكنة إياها التي كانت قد استخدمتْها في غزو ليبيا. ففي دمشق اقتحم عناصر من الجماعات المسلحة المنتصرة وجمهور غاضب القصر الرئاسي ومنزل الرئيس ونهبوا وحطَّموا وعبثوا بمحتوياته مع صيحات التكبير و"الاستكثار" والانبهار والنشوة، وسرقوا الصحون وطبخات الملوخية والملابس الخاصة وألبوم صور العائلة، وسارعتْ الفضائيات الغربية والعربية إلى تصويرها وبثِّها كأنها غنائم حرب يُراد بها إظهار حياة ترف فاحش يتمتع بها بشار الأسد وأسرته على حساب الشعب الجائع والمقهور والمحروم حتى من وجبة ملوخية.
هذه هي الحقيقة البديلة أو ما بعد الحقيقة التي أقنعوا بها الناس، ولتذهب الحقيقة إلى الجحيم مع أصحابها.
ولعلَّ المثال الصارخ على نظرية ما بعد الحقيقة/ أو الحقائق البديلة، يتجلَّى في العدوان الصهيوني على سوريا غداة تَسلُّم هيئة تحرير الشام السلطة وتفكيك الجيش العربي السوري وتسريحه، فقد عمدت القوات الإسرائيلية إلى القضاء المُبرم على القدرات العسكرية والاستراتيجية البرية والجوية والبحرية ، بما فيها مراكز البحوث العلمية للدولة السورية، واحتلت المزيد من الأراضي في الجولان السوري وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية وجنوب سوريا، واستولت على مصادر المياه من حوض نهر اليرموك حتى سد المنطرة، ولم يحرك"العهد الجديد" الذي أشرق على سوريا فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 ساكنًا، ولم ينطق "ببنت شفة" ضد أُم الكوارث، بل تمادى في ترديد أن إسرائيل ليست عَدوَّاً وأنه يريد السلام معها، ولن يشكل خطرًا، أو يسمح بتشكيل خطر عليها. وهذه هي الحقيقة البديلة أو ما بعد الحقيقة التي تفرضها الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، وتحاول تكريسها على الأرض، والأخطر على النفوس والعقول.
وأخيرًا، يمكنني القول إنَّ نظرية ما بعد الحقيقة/أو الحقائق البديلة في نماذج الثورات الرثة ليست سوى شكل من أشكال الثورة المضادة أو تبييض/غسيل الإرهاب والإرهابيين Terrorist Laundering. فهل تنطبق هذه النظرية على "الثورة" السورية ؟

سؤال الخاتمة
هل أجْرى آلهة العولمة الأوليغارشية المالية المتربِّعون على عرش جبل الأولمب العالميتعديلات على نظرية نهاية التاريخ وصدام الحضارات التي ثبتَ بؤسها وبُطلانها، وأقرُّوا باستمرارية حركة التاريخ، لكن بنسختهم الخاصة، وهي الإمساك التام والحصري بزِمام التاريخ ولِجامه بأيديهم، يقودونه ويوجِّهونه حيثما أرادوا وكيفما شاؤوا؟ وبأنَّ صراع الحضارات قد توقَّف وتحوَّلَ إلى صراع مُميت بين حبات الرمل البشرية المفكَّكة، كي يضمن أُولئك الآلهة السيطرة التامة على البشر أجمعين، فيقولوا آمين؟ والعاقل من اتَّعظ بغيْره، قديمًا قالت العرب.
ليس لديَّ جواب مؤكَّد عن هذا السؤال المعقَّد، لكن عند كارل ماركس جوابٌ يَقين بأن "البشر يصنعون التاريخ، لكنْ ليس على هَواهم"، ما يعني أن اللحظة، أيَّة لحظة، عابرة في الزمن السرمدي، وأن مسرح اللامعقول لا يظلُّ مُسلِّيًا مَهما استطالت مدة العرض وأطالَ العارضون المُكوث على الخشبة.



#أحمد_جرادات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملحمة الغَزيَّة: صراع سرْديَّات أم صراع بين الحقيقة والسرد ...
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة
- بتْلات شائكة: نصوص مسرحية وقصصية ومُمسرحة
- كتاب جداول ثقافية: فانتازيا الحقائق البديلة
- كتاب -الأوديسة السورية: أنثولوجيا الأدب السوري في بيت النار-
- حسن نصر الله وقضايا التحرر الوطني بقراءة ناهض حتَّر
- في ذكراها العاشرة ثورة 25 يناير: من رانديفو الشباب إلى كرنفا ...
- ورشة عمل كورونية: كوميديا من فصل واحد
- إجابات ملموسة عن أسئلة كبرى في الحقبة العرفية
- خمسون شمعة لكتاب سوريا
- بانوراما: في الثقافة والسياسة وشؤون أخرى[1]
- عناقيد الأدب : يوميات الحرب والمقاومة
- للتاريخ: مانيفستو استنكار وبراءة
- هوامش على متن -هبَّة نيسان-
- أبو علي مصطفى Versus أخو عليا وصفي: عنوان لنهاية وَطَنيْن
- -كولاج- المطربة والرقيب: مشاهد وروايات
- عناقيد الأدب: أنثولوجيا الحرب والمقاومة
- في الدولة -الزومبي-: المهمة المستحيلة
- الأوديسة السورية: أوراق ناديا خوست
- في الحالة الرثة: عندما تصبح -شتَّى- بديلاً للهوية الوطنية


المزيد.....




- براد بيت -مزيف- يُسقط سيدة في فخ أفقدها مالها وعلاقتها الزوج ...
- مصر تستنفر مع بدء وقف النار في غزة: سيارات الإسعاف وقوافل ال ...
- -حصن معاد للجوء-.. تعهد كيكل اليميني المتطرف المكلّف بتشكيل ...
- كيف ساهمت مصر بصفقة إسرائيل وحماس؟
- الحوثيون: نفذنا عمليتين ضد هدفين حيويين للعدو الإسرائيلي في ...
- نتنياهو: سنستمر في السيطرة على محور فيلادلفيا وعديد قواتنا ه ...
- إعلام عبري: بن غفير ووزراء في حزبه يعتزمون الاستقالة غدا من ...
- الدفاع الروسية تعلن تدمير مسيرتين أوكرانيتين واحدة فوق البحر ...
- السلطات اللبنانية تكشف حقيقة الأنباء المتداولة عن وفاة الرئي ...
- ‌منصة -تأكد- السورية تكشف حقيقة دخول أرتال عسكرية تركية إلى ...


المزيد.....

- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد جرادات - الثورات الرثة: جَوْلة السَّفاري المُفترِسة الثانية