|
شبح سبينوزا
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8224 - 2025 / 1 / 16 - 22:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
269 - أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 17 - شبح سبينوزا
ولقد حظي ليسينج، الفيلسوف والكاتب المسرحي الألماني (1729 - 1781 Gotthold Ephraim Lessing) بشهرة واسعة النطاق بسبب إنسانيته المستنيرة، وبالذات في مسرحية ناثان الحكيم (1779) المذكورة سابقا وتصويره الإيجابي لبطل المسرحية اليهودي المتسامح ـ وهو التصوير الذي اعتبره كثيرون تكريماً من جانب ليسينج لصديقه موسيس مندلسون ـ ولكن أعماله وأفكاره كلها واجهت أيضاً تحفظات وانتقادات شديدة. فقد كلفه تعاطفه "المفترض" مع اليهود عداوة أولئك الذين كانوا مشغولين ببناء أسطورة القومية الألمانية في القرن التاسع عشر. والواقع أن البعض انتقد ليسينج بسبب "عدم ألمانييته"، بل وحتى شخصيته "اليهودية". ونتيجة لهذا فإن الطريقة التي كان من الممكن أن يتم بها تناول الموضوع كانت تشكلها مصالح الحرب الثقافية حول الهوية الوطنية التي كانت تميز قدراً كبيراً من السياسة الثقافية في ألمانيا في القرن التاسع عشر. ولقد كان لظهور الحركة الجرمانية في مناخ تحدده أجندة هذه الحرب الثقافية المستمرة تأثير عميق في تأطير موضوع ليسينج واليهود باعتباره مسألة وطنية وأيديولوجية وليس دينية أو فلسفية أو أدبية. والواقع أن هذا التأثير ذهب إلى حد تحديد التعاطف والنفور من ليسينج على نحو دائم من منظور هذه الإشكالية. وفي مواجهة هؤلاء المنتقدين الذين يعتبرون ليسينج سفتقد للوطنية بل عدوا للقومية الألمانية، يصر آخرون على أهمية ليسينج باعتباره بطلاً نادراً للتسامح وحرية الفكر. ولكي نعود إلى صلب موضوع هذه القضية التي نعالجها، العدمية والعدمية الثورية، فإن الذي يهمنا هنا هو علاقة ليسنغ بجاكوبي وتأثير هذه العلاقة فيما سيأتي من التطورات الفكرية والفلسفية على الساحة الأوروبية بخصوص ظهور فكرة العدمية وإنتشارها. فقد كان العقد التالي حاسماً بالنسبة لجاكوبي، ففي عام 1780، التقى الفيلسوف والكاتب المسرحي ليسينج في فولفنبوتل Wolfenbüttel. وخلال محادثاتهما، اعترف ليسينج على ما يبدو بتبني أفكار الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا Baruch Spinoza (١٦٣٢١٦٧٧) أو بعض منها على الأقل. وعندما توفي ليسينج في عام 1781، بدأ صديقه مندلسون Mendelssohn Moses في صياغة نص ليعطي صورة مشرفة مدحية لهذا البطل العظيم في التنوير الألماني. وشعر جاكوبي بأنه ملزم بإبلاغ مندلسون بالميل الفلسفي الحقيقي لليسينج. لكن تقرير جاكوبي أصاب مندلسون بصدمة عنيفة لم يتوقعها، فكون المرء من أتباع سبينوزا يعني، في ذلك الوقت، كونه ملحداً ومخرباً يتجاهل كل المباديء الأخلاقية والدينية، فحتى ليبنتز الذي زار سبينوزا والتقى به وناقشه في آراءه بإهتمام، تظاهر فيما بعد بعدم إهتمامه بأفكار سبينوزا خوفا من إتهامه هو الآخر بالإلحاد والهرطقة.. وانخرط مندلسون مع جاكوبي في نقاش حول تقييم سبينوزيّة أفكار ليسينج، والأهم من ذلك، نقاش حول تعاليم وأفكار سبينوزا نفسها. وبدأ هذا التبادل بين الاثنين في عام 1783، ووفر في نهاية المطاف المادة الأساسية لمجلد جاكوبي الشهير عام 1785 بعنوان "حول تعليم سبينوزا بإيجاز للسيد موسيس مندلسون". وبالإضافة إلى رد مندلسون في عام 1786، والذي رد عليه جاكوبي في نفس العام، فإن مدى حدة المناقشة التي أثارها جاكوبي" أدى إلى أن يصبح هذا العمل معلمًا بارزًا في ما قبل تاريخ الفلسفة الألمانية الكلاسيكية. حيث أدى الخلاف بين جاكوبي ومندلسون إلى الكشف عن الإنسانية الغريبة والعقلانية المتميزة التي كانت جزءًا من رؤية التنوير وأيديولوجية الفلسفية الألمانية العقلية، والتي اقترح جاكوبي رفضها بشكل منطقي متواصل، والكشف عن روح سبينوزا الخفية التي تغلف روح هذا العصر المتقلب. وقد جعلت ما يسمى بـ "عصر النهضة السبينوزي" الذي أعقب هذا التبادل العام بين جاكوبي ومندلسون، أن يُعتبر كتاب سبينوزا "الأخلاق" كحجر الأساس لأي نظام فلسفي في المستقبل. وفي الوقت نفسه، ساهمت "نهضة أو قيامة" سبينوزا وعودته إلى ساحة الفلسفة بعد نسيانه لفترة وجيزة، في تأجيج ما يسمى بالجدال السبينوزي، أو جدل وحدة الوجود، الذي أشعل نزاعات عاطفية حول طبيعة الحرية، وواقع الأسباب النهائية، والوجود الفعلي للكيانات الفردية. وبالنسبة لجاكوبي، كان العثور على طريق عبر فلسفة سبينوزا هو أفضل فرصة لمناقشة جوهر العقلانية بشكل شامل، والتي ترفض الأفعال البشرية الحرة وتضع في مكانها القدرية الإلحادية الصرفة التي ينطوي عليها نظام متماسك من المعرفة. فجاكوبي وصل إلى المسرح المركزي للعالم الفلسفي بفضل انتقاداته لعصر التنوير الألماني، وربما في المقام الأول لدراسته لفلسفة سبينوزا. وكان تحليله لكتاب "الأخلاق" الموضوع الرئيسي لمنشوره الفلسفي الأول في عام 1785، وقد جعل من سبينوزا نقطة مرجعية ضرورية في تقييم العقلانية بحد ذاتها. وقد جعل هذا العامل، إلى جانب تحليله للتناقضات الأساسية في فلسفة كانط المتعالية، من جاكوبي أحد رواد التحول البعيد المدى في تاريخ الفكر المعروف الآن باسم الفلسفة الألمانية الكلاسيكية.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صلاح الدين وناثان الحكيم
-
الخاتم السحري
-
الدين وعصر التنوير
-
جاكوبي ومحاولة تحطيم العقل
-
صدق المنجمون ولو كذبوا
-
ظاهرة الشخص الزائد
-
والتر بنيامين والزمن المتراخي
-
غرزة بودلير وشلته
-
تاريخ المخدرات
-
عفاريت شكسبير
-
كش مات
-
عالم هكسلي المرعب
-
أكتشاف المسكالين
-
الوعي والمخدرات
-
الهوية الغائبة
-
حكاية الفيل والتمساح
-
جاكوبي، الإيمان ضد العقل
-
العلمانية
-
الفكر المتحرر
-
كميونة باريس
المزيد.....
-
مصر.. ترحيب باتفاق وقف إطلاق النار في غزة.. ومطالبات بإدخال
...
-
مصدر: مجلس الوزراء الإسرائيلي يصوت على اتفاق وقف إطلاق النار
...
-
بي بي سي تودع منير عبيد، أحد أبرز قاماتها الإعلامية
-
مقتل 72 فلسطينيا في غزة جراء غارات إسرائيلية رغم إعلان الهد
...
-
احتجاجات بتل أبيب تطالب بالمصادقة على اتفاق وقف النار وبن غف
...
-
الحوثيون يهدّدون بمواصلة هجماتهم على إسرائيل إذا لم تلتزم با
...
-
ترحيب عربي بالاتفاق بين حماس وإسرائيل
-
الحوثيون: نحذر أمريكا وبريطانيا وإسرائيل من أي مواقف انتقامي
...
-
البرهان يزور ود مدني لأول مرة عقب معارك الجيش السوداني مع قو
...
-
وزير الدفاع الأمريكي: يجب تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|