أزمة المياه في إقليم كردستان/ العراق (الأسباب والحلول) / الجزء الثالث

خالد محمود خدر

الحوار المتمدن-العدد: 8224 - 2025 / 1 / 16 - 03:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

ظاهرة التغيرات المناخية وأزمات الجفاف:
بداية ، تعتبر ظاهرة التغيرات المناخية إحدى القضايا العالمية البارزة التي تستحوذ على اهتمام المجتمع الدولي. يعود ذلك إلى تأثيرها الكبير على النظم البيئية الحساسة التي تختلف من منطقة إلى أخرى، وما يترتب عليها من تداعيات خطيرة تهدد مستقبل الإنسان على كوكب الأرض. تتجلى هذه التغيرات في ارتفاع درجات الحرارة، ذوبان الجليد القطبي مما يؤدي مع استمرار إلى ارتفاع مناسيب المياه في البحار والمحيطات ، وتكرار الكوارث الطبيعية مثل الأعاصير والفيضانات والجفاف ، ويجعل من ظاهرة التغير المناخي قضية ذات أبعاد بيئية، اقتصادية، واجتماعية تستدعي تضافر الجهود للتصدي لها عالمياً.

الحديث عن التغييرات المناخية يقود إلى الحديث عن أبرز نتائجه المتمثلة بالجفاف الذي يعتبر من أكثر الظواهر الطبيعية تعقيدًا ، ويصعب قياسه وإدارته ، و يعكس ظاهرة مناخية تمثل طقساً جافًا غير طبيعي يؤدي إلى نقص كبير في كميات الأمطار الساقطة دون المعدل الطبيعي على مدى فترة زمنية طويلة ، مما يتسبب بدوره إلى خلل هيدرولوجي خطير بما يحمله من دلالات على نقص الرطوبة ، تؤدي إلى حدوث مضاعفات اقتصادية واجتماعية شديدة ومتعددة.

يتم تحديد حجم تأثيرات الجفاف في أي دولة من خلال: مستوى تطور الدولة ، الكثافة السكانية والبنية ، الطلب على المياه والموارد الطبيعية الأخرى ، السياسات الحكومية والقدرات المؤسسية والتكنولوجيا.

يتمثل السبب الرئيسي لجميع حالات الجفاف بعدم كفاية كميات الأمطار الساقطة ، ولكن هناك أسباب أخرى لهذا الجفاف ، منها استمرار أو تكرار أنماط دورات الغلاف الجوي التي تسبب الضغط المرتفع على مدى فترة زمنية طويلة بشكل غير عادي او سبب الحركة السائدة للهواء (الهبوط) بما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة أو ارتفاع الضغط ، مما يمنع تكوين السحب ويؤدي إلى انخفاض الرطوبة النسبية وانخفاض سقوط الأمطار ، مما يؤدي بدوره إلى حدوث جفاف فوري.
كما يمكن أن يحصل الجفاف بسبب الأنشطة البشرية مثل الزراعة المفرطة أو الري المفرط أو العمليات التي تؤدي إلى تغييرات في الغطاء الأرضي.

يمكن تصنيف حالات الجفاف إلى الأنواع التالية (المنظمة العالمية للأرصاد الجوية):

1-Meteorological Drought:
عادة ما يتم تحديده من خلال عتبة (Threshold) نقص سقوط الأمطار على مدى فترة زمنية محددة مسبقًا. العتبة المختارة ، مثل 75 في المائة من هطول الأمطار العادي ، ومدة استدامه المطر (ستة أشهر على سبيل المثال).

2- Agricultural Drought
يتم تعريفه من خلال توافر مياه التربة لضمان نمو المحاصيل وغيرها.

3- Hydrological Drought :
يُعنى الجفاف الهيدرولوجي بأثر فترات نقص الأمطار على إمدادات (supply)المياه السطحية والمياه الجوفية ، بدلاً من اهتمامه بنقص سقوط الأمطار بشكل مباشر.

4- Socio-Economic Drought :
يمكن تعريف هذا النوع من الجفاف بأنه نقص غير عادي في المياه ينتج عنه تأثير سلبي على المجتمع والاقتصاد. إذا استمر الجفاف بالتصنيفات السابقة لفترة طويلة من الزمن ، فغالبًا ما ينتج عن ذلك هذا النوع أي الجفاف الاجتماعي والاقتصادي.

يعتبر الجفاف حدثاً ثلاثي الأبعاد يتميز بثلاث خصائص تتمثل اولا بشدة الجفاف التي تشير إلى درجة النقص في سقوط الأمطار و شدة التأثيرات المرتبطة بها ، وتتمثل ثانيا بالمدة التي يتطلبها الجفاف حتى يتحقق واقعا وهي عادة لا تقل عن شهرين إلى ثلاثة أشهر. ولكن بمجرد أن يبدأ الجفاف ، يمكن أن يستمر لأشهر أو سنوات. أما الخاصية الثالثة فهي مساحة التغطية التي تتمثل بالمساحات التي يمكن أن يغطيها الجفاف او يؤثر عليها ، إذ يمكن أن يؤثر الجفاف على دول أو مناطق بأكملها. وعلى سبيل المثال ، فإن تاثير الجفاف في المدة أو الفترة 1998-2001 امتد الى العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط في وقت واحد ، وخاصة إيران والعراق والأردن وسوريا.

التغير المناخي وآثاره في عموم العراق:
يشهد العراق تغيرا مناخية كبيرة تمثل تحديًا خطيرًا له ، ويصنف عالميا كخامس دولة معرّضة لخطر هذه التغيرات ، إذ أصبح يعاني من ارتفاع درجات الحرارة في الصيف، ونقص كمية الأمطار الساقطة في الشتاء، على نحو ادى إلى أزمة مياه وجفاف الأراضي وهجرة المزارعين. ويترافق ذلك مع السياسة المائية لدول الجوار بقطعها أو خفضها لإمدادات المياه بدرجة كبيرة .

ألقت تأثيرات تغير المناخ في العراق بظلالها على عموم الحياة فيه ، وبانت نتائج هذه التأثيرات بوضوح في القطاعات ذات المساس المباشر بحياة المواطن وأمنه الاقتصادي والمائي والغذائي ، حيث تشير التوقعات المبنية على النماذج المناخية العددية الوطنية إلى زيادة مضطردة في درجة الحرارة تتراوح بين (0,9م°) منذ عام 2007 ، و قد تصل إلى (3,5م°) عند عام 2100 . فقد رصد على امتداد السنوات الماضية في العراق ارتفاع درجة الحرارة فوق ال 50 م° في أيام عديدة من فصل الصيف، كما رصد انخفاض ملحوظ في كميات الأمطار السنوية الساقطة وتباين فترات سقوطها وشدتهافي الموسم المطري.
وفق تنبؤات الهيئة العامة للأنواء الجوية والرصد الزلزالي العراقية ، فمن المتوقع أن تشهد هذه الكميات إنخفاضاً كبيرا ومستمراً قد يصل في عام 2100 إلى إنخفاض يزيد عن 30% عن معدلاتها العامة خلال الفترة 1938- 1978 وهذا يفسر ما يحدث من حالات متطرفة لموجات الحر، الجفاف، والسقوط المطري بشدة غزيرة و لساعات معدودة ومفاجئة. وأدت موجات الجفاف الكبيرة إلى إزدياد مساحة التصحر وهو ما أثر في تزايد حالات الغبار والعواصف الغبارية خلال السنة .

أشار مؤخرا تقرير لوزارة البيئة في العراق إن تغير المناخ قد فاقم من مشكلة شحة المياه في نهري دجلة والفرات وروافدهما ، وتوقع أن تصل نسبة الشحنة او النقص في مصادر المياه المتجددة للعراق إلى 37% بحدود 2030 ، لتزداد هذه النسبة إلى 51% خلال الفترة من 2040 لغاية 2050.
يعاني العراق منذ سنوات إلى جفاف شبه مستمر بسبب تراجع كمية الأمطار الساقطة وتراجع منسوب المياه في نهري العراق الرئيسيين دجلة والفرات بسبب السياسة المائية لكل من تركيا وإيران كما تبين في الجزء الثاني ، فأصبحت الوارد الماضي بمجمله أقل من أن يحافظ على الزراعة التي ازدهرت على ضفاف النهرين عبر العصور السابقة. ومما يساهم في زيادة شدة الجفاف في العراق حفر الآبار الارتوازية بصورة غير قانونية ، الأمر الذي تسبب بانخفاض مناسيب المياه الجوفية في ظل قلة سقوط الأمطار. أدى التدهور البيئي إلى تزايد الهجرة من الريف إلى المدن بمعدل ينذر بالخطر بحثا عن العمل ، وهذا يفسر قول رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في العراق: إن تغير المناخ في العراق ليس مجرد مشكلة بيئية ، بل من المحتمل أن تتحول إلى أزمة إنسانية. أن جفاف الأهوار في جنوب العراق يعزى ، كما تشير المنظمة الدولية للهجرة في العراق 2023 ، الى انخفاض مستويات المياه في نهري دجلة والفرات وانخفاض كميات الأمطار وغياب الإدارة المستدامة للموارد المائية محليا.هذه الأهوار كانت تشتهر بتنوعها البيولوجي ومجتمعاتها المستدامة وممارساتها في صيد الأسماك والتي يعود تاريخها إلى بلاد ما بين النهرين القديمة. في تموز من عام 2023 حذّرت منظمة الأغذية والزراعة الدولية التابعة للأمم المتحدة (الفاو) من أن منطقة الأهوار التاريخية في جنوب العراق تشهد أشدّ موجة حرارة منذ 40 عاما. لتوضيح تداعيات التغير المناخي في العراق اشير إلى انه قبيل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة السابع والعشرين لتغير المناخ في شرم الشيخ بمصر في تشرين الثاني من العام 2022 زار العراق نائب الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة السيد غلام إسحق زي ، وفي تقييم له للتغيير المناخي وما يتعرض له العراق من جفاف ، كتب في تقرير معبٍر عن ذلك قائلا: إن بلاد النهرين وجدتها مختلفة تماماً عما رأيته منذ عقدين عندما عملت في العراق لأول مرة. فالغبار يملأ الجو وتثيره الرياح الساخنة ، وهناك مساحات شاسعة من الأراضي القاحلة تنتشر فيها أشجار النخيل العنيدة التي تكافح بصبر للصمود أمام عوامل الطبيعة. لم تكن تلك بلاد الرافدين التي وصفتها كتب التاريخ بأرض الحضارات. وعندما سألت العراقيين وغيرهم ممن أمضوا عدة سنوات هنا، قيل لي أن الأمر لم يكن هكذا من قبل. ان آثار تغير المناخ في العراق هائلة ، فهذه الأرض الجميلة والخصبة المعروفة عبر التاريخ بالحضارات التي تنبت حول نهري دجلة والفرات العظيمين ، تقف الآن على خط المواجهة أمام أزمة المناخ العالمية. في التاسع من آب من عام 2023 زار المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك مناطق مختلفة من العراق بلغت فيها درجة الحرارة أحيانا 50 درجة مئوية ، وحذر في مؤتمر صحفي من أن ما يواجهه العراق من ارتفاع في درجات الحرارة وجفاف هو بمثابة إنذار للعالم أجمع من أن حقبة الغليان العالمي قد حلت. واستعاد تورك تعبيرا استخدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قبله بشهر ، حيث قال إن العالم قد دخل في عصر الغليان ، مضيفا أنه هنا في العراق، نعيش ذلك، ونراه كلّ يوم. واضاف أن ما يحدث هنا هو نافذة على مستقبل قادم الآن لأجزاء أخرى من العالم إذا واصلنا الإخفاق في الاضطلاع بمسؤوليتنا في اتخاذ إجراءات وقائية ومخففة لحدة تغير المناخ. ان التغيير المناخي ترك وسيترك آثاره الواضحة على الإنتاج الزراعي وإقتصاد العراق ، مثلما يؤدي إلى تردي النظم البيئية الطبيعية والتنوع البيولوجي وفقدان الغطاء النباتي ، بل يمثل تهديداً خطيراً لكل جوانب الحياة ، ويضع عوائق أمام التنمية المستدامة ويفاقم التحديات البيئية والأمنية والسياسية والاقتصادية التي يواجهها العراق.

البروفيسور الدكتور خالد محمود خدر
استاذ جامعي

#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات