|
الأنظمة العربية والتيار الإسلامي: جدلية الصراع على السلطة والشرعية
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8221 - 2025 / 1 / 13 - 10:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
د.حمدي سيد محمد محمود
تعد العلاقة بين الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والتيارات الإسلامية واحدة من أبرز الإشكاليات التي رسمت ملامح السياسة العربية في العقود الأخيرة. هذه العلاقة المعقدة لا تقتصر على صراع سياسي عابر، بل تمتد إلى عمق القضايا الفكرية والثقافية والاجتماعية التي تعيد تشكيل هويات المجتمعات العربية، وتثير أسئلة عميقة حول الشرعية والهوية ومستقبل الحكم في المنطقة. الإسلاميون، بما يمثلونه من امتداد للتراث الديني والثقافي المتجذر في وجدان المجتمعات العربية، يملكون شعبية لا يمكن إنكارها، حيث استطاعوا عبر سنوات طويلة أن يطرحوا أنفسهم كبديل للأنظمة الحاكمة، مقدِّمين خطابًا يلامس احتياجات الناس وقضاياهم اليومية، ويعبر عن طموحاتهم في العدالة والتنمية والكرامة.
لكن في المقابل، تقف الأنظمة العربية موقفًا متوجسًا، بل وعدائيًا في كثير من الأحيان، تجاه فكرة وصول الإسلاميين إلى السلطة. هذا التوجس لا ينبع فقط من اختلاف أيديولوجي أو تنافس سياسي، بل يتجاوز ذلك ليشمل مخاوف استراتيجية تمس استقرار الأنظمة واستمراريتها. فالأنظمة العربية، التي نشأت في معظمها على أسس قومية أو عائلية أو عسكرية، ترى في الإسلاميين تهديدًا لشرعيتها التقليدية، وخطرًا يهدد توازن القوى الإقليمية والدولية. هذا الصراع بين الطرفين، الذي تجلى في محطات تاريخية مختلفة، كشف عن طبيعة الصراع على السلطة في العالم العربي، وكيف تتشابك المصالح المحلية والإقليمية والدولية لتحدد مصير الشعوب وهويتها.
وعلى الرغم من أن التيار الإسلامي أثبت شعبيته في الشارع العربي عبر صناديق الاقتراع وفي الفضاءات العامة، إلا أن الطريق أمامه كان دائمًا مليئًا بالعراقيل، سواء من خلال القمع الأمني، أو التشويه الإعلامي، أو القوانين التي تهدف إلى إقصائه من المشهد السياسي. هذه العراقيل تطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الأنظمة الحاكمة: هل تخشى هذه الأنظمة من الإسلاميين لأنهم يمثلون تهديدًا حقيقيًا لأمن واستقرار الدولة؟ أم أن هذا الخوف يعكس مخاوف الأنظمة من فقدان امتيازاتها وسلطتها المطلقة؟
في هذا السياق، يصبح من الضروري فهم جذور هذه المخاوف واستكشاف أبعادها المتشابكة، ليس فقط لفهم ديناميكيات الصراع بين الأنظمة والإسلاميين، ولكن أيضًا لتحليل ما تعنيه هذه العلاقة بالنسبة لمستقبل الحكم في العالم العربي، ولتطلعات شعوب المنطقة التي تبحث عن الحرية والعدالة والكرامة في ظل نظام سياسي يعبر عن إرادتها ويحترم هويتها.
شعبية التيار الإسلامي في الشارع العربي
خوف الأنظمة العربية الحاكمة من وصول الإسلاميين إلى الحكم، على الرغم من شعبية التيار الإسلامي في الشارع العربي، يكشف عن تداخل معقد بين السياسة، الدين، والاجتماع في المنطقة، فيما يلي تحليل شامل لهذه القضية، يأخذ بعين الاعتبار العوامل التاريخية، السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية.
1. البعد التاريخي
-تجارب الحكم الإسلامي في المنطقة: العديد من الأنظمة العربية تحمل في ذاكرتها التاريخية تجارب سابقة للتيارات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم أو حاولت ذلك، مثل تجربة الإخوان المسلمين في مصر بعد ثورة 2011، وتجربة الإسلاميين في السودان، وتجربة حركة النهضة في تونس. هذه التجارب كانت مليئة بالتحديات وأدت في كثير من الأحيان إلى صراعات سياسية حادة أو تدهور اقتصادي.
- الصراع بين الأنظمة والجماعات الإسلامية: منذ منتصف القرن العشرين، برزت حركات إسلامية معارضة اعتبرت الأنظمة الحاكمة علمانية أو بعيدة عن الدين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، صدام الإخوان المسلمين مع أنظمة مثل مصر في عهد عبد الناصر وسوريا في عهد حافظ الأسد.
2. البعد السياسي
- التنافس على الشرعية: الأنظمة العربية تستند غالبًا إلى شرعية وطنية أو قومية أو عائلية (في الأنظمة الملكية). أما الإسلاميون فيستندون إلى خطاب ديني قوي يلقى صدى في قلوب الناس، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لشرعية الأنظمة الحاكمة. الإسلاميون عادة يقدمون أنفسهم كبديل أكثر "نقاءً" أو "التزامًا بالمبادئ الأخلاقية" مقارنة بالنخب الحاكمة.
- خوف الأنظمة من التغيير الشامل: التيارات الإسلامية غالبًا ما تدعو إلى تغيير جذري في شكل الدولة وطريقة إدارتها، وهو ما يعتبر تهديدًا وجوديًا للأنظمة القائمة. الأنظمة تخشى أن يؤدي وصول الإسلاميين إلى السلطة إلى تقويض مصالحها السياسية والاقتصادية وربما حتى زوالها.
- علاقات الإسلاميين بالقوى الإقليمية والدولية: كثير من الأنظمة تخشى من العلاقات المحتملة بين التيارات الإسلامية وقوى إقليمية كتركيا أو إيران، أو حتى مع جماعات عابرة للحدود مثل الإخوان المسلمين. هذه العلاقات قد تؤدي إلى تغييرات في ميزان القوى الإقليمي.
3. البعد الاجتماعي والثقافي
-الخوف من "أسلمة المجتمع": الأنظمة تخشى أن تؤدي سيطرة الإسلاميين على الحكم إلى فرض أجندة اجتماعية وثقافية محافظة، مما قد يُحدث صدامًا مع شرائح من المجتمع التي تفضل العلمانية أو الانفتاح الثقافي.
-الخوف من خسارة الحريات: هناك مخاوف حقيقية أو مبالغ فيها من أن وصول الإسلاميين إلى الحكم قد يؤدي إلى تقليص الحريات العامة، خصوصًا في قضايا المرأة، الأقليات، والفنون.
4. البعد الاقتصادي
-الاقتصاد الريعي وتحكم النخب: في دول تعتمد على الاقتصاد الريعي (النفط والغاز بشكل أساسي)، تخشى النخب الحاكمة من أن يغير الإسلاميون هيكل توزيع الثروة، مما يهدد مصالح النخب الاقتصادية التي غالبًا ما تكون متحالفة مع السلطة السياسية.
-تجارب اقتصادية مثيرة للجدل: بعض التجارب الإسلامية في الحكم، مثل السودان، ارتبطت بأزمات اقتصادية، مما يعزز مخاوف الأنظمة من أن وصول الإسلاميين قد يؤدي إلى تدهور اقتصادي.
5. البعد الأمني
-العلاقة مع الجماعات المتطرفة: الأنظمة الحاكمة تروج لمخاوف من أن وصول الإسلاميين إلى الحكم قد يفتح المجال أمام جماعات متطرفة لاستخدام العنف لتحقيق أهدافها، مما يهدد الاستقرار الداخلي.
-الضغوط الدولية: العديد من الدول الغربية تعارض وصول الإسلاميين إلى الحكم، مما يضع الأنظمة العربية أمام خيارات معقدة بين تلبية المطالب الشعبية والحفاظ على علاقاتها الدولية.
6. سياسات الأنظمة لاحتواء الإسلاميين
-القمع والتهميش: العديد من الأنظمة تعتمد على القمع المباشر، مثل الاعتقالات أو الحظر، لمنع الإسلاميين من الوصول إلى السلطة.
-الاحتواء والتوظيف: بعض الأنظمة تحاول استيعاب التيارات الإسلامية المعتدلة من خلال إدماجها في مؤسسات الدولة لتقليل شعبيتها.
-تشويه الصورة: الأنظمة تعتمد على حملات إعلامية لتصوير الإسلاميين كتهديد للاستقرار والتقدم.
وهكذا نرى أن الخوف من الإسلاميين لدى الأنظمة العربية هو عبارة عن مزيج من الحجج الواهية، التي تستخدمها الأنظمة لتبرير استمرارها في السلطة. لكن يبقى أن التيارات الإسلامية تمتلك شعبية واسعة في الشارع العربي، نتيجة تفاعلها مع هموم الناس وهويتها الثقافية والدينية. التحدي الأكبر يكمن في تحقيق توازن بين تطلعات الشعوب نحو التغيير وبين ضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي.
إن الصراع بين الأنظمة العربية والتيارات الإسلامية ليس مجرد تنافس سياسي عابر، بل هو تعبير عن أزمة أعمق تتعلق بمستقبل الهوية والشرعية في العالم العربي. إن هذا التوجس الذي تبديه الأنظمة تجاه وصول الإسلاميين إلى السلطة يعكس في جوهره خوفًا من زعزعة النظام القائم وإعادة صياغة شكل الدولة وطبيعة الحكم. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن التيارات الإسلامية، رغم التحديات التي تواجهها، تظل قوة حية نابضة تعبر عن تطلعات شريحة واسعة من الشعوب العربية نحو العدالة والكرامة، مستمدة قوتها من عمقها الديني والثقافي وتجذرها في المجتمعات.
ولكن يبقى السؤال الأكبر: هل الخوف من الإسلاميين مبرر بسبب تجارب سابقة أو سياسات محتملة قد تؤدي إلى اضطراب؟ أم أن هذا الخوف يُستخدم كذريعة من قبل الأنظمة الحاكمة لتبرير احتكارها للسلطة وإبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست بسيطة، فهي تتطلب قراءة دقيقة لتجارب الإسلاميين في الحكم، ودراسة متأنية للأدوار التي لعبتها الأنظمة في تأجيج الصراعات أو احتوائها.
في النهاية، لا يمكن لأي نظام حكم أن يستمر في قمع إرادة الشعوب إلى الأبد. فالشعوب العربية، التي ما زالت تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، تبحث عن حلول حقيقية تضعها في قلب عملية صنع القرار، بعيدًا عن مناورات الأنظمة أو الأيديولوجيات. إن تحقيق الاستقرار الحقيقي في العالم العربي لن يتم إلا من خلال نظام سياسي يعترف بالتنوع، ويتيح التنافس العادل بين مختلف التيارات، ويحترم إرادة الشعوب وحقوقها المشروعة في اختيار من يمثلها. وحتى يتحقق ذلك، ستظل المنطقة تعيش في دائرة الصراع التي تُبدد إمكاناتها وتعيق تقدمها نحو مستقبل أكثر عدالة واستقرارًا.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكاليات العقل العربي: جدلية التراث والحداثة في فكر طرابيشي
-
صناعة الانصياع: الامتثال الجماعي في النظم الديكتاتورية وأثره
...
-
خاير بك بين صفحات العار والتاريخ: كيف سقطت دولة المماليك؟
-
الاستشراق والسياسة الدولية: قراءة نقدية في جذور الهيمنة على
...
-
الإنسانوية في مواجهة الذات: قراءة نقدية في مركزية الإنسان
-
بين التراث والحداثة: مشروع حسن حنفي الفكري في نقد الواقع الع
...
-
الميتافيزيقا الإسلامية: قراءة معاصرة في القضايا الغيبية والو
...
-
السياسة النقدية والليبرالية الجديدة: قراءة شاملة في فكر ميلت
...
-
تفكيك القيود: فلسفة جوديث بتلر في تحرير الهوية وإعادة تشكيل
...
-
فلسفة فيورباخ: قراءة نقدية للمثالية والتدين في عصر الحداثة
-
الوعي بالإله في الفلسفة الأوروبية: من الأسس الميتافيزيقية إل
...
-
مصر تحت حكم عباس حلمي الأول: استراتيجية الاستقلال في مواجهة
...
-
مدرسة طليطلة: إرث الحضارة العربية في تشكيل الفكر الغربي
-
القلق الوجودي: جدلية الحرية والإيمان في فلسفة سورين كيركغارد
-
الفينومينولوجيا الدينية: رؤية جديدة لفهم الدين في زمن ما بعد
...
-
مفهوم الخلق الإلهي: بين تأويلات الفرق ومسارات الفلسفة الإسلا
...
-
قراءة في فكر مونتسكيو: نحو أنظمة ديمقراطية عربية مستدامة
-
قوة القيم: الفضيلة التنظيمية كاستراتيجية لتحسين الأداء والسم
...
-
ما بعد الكولونيالية: قراءة نقدية لإرث الاستعمار في العقول وا
...
-
تاريخ الفلسفة الغربية: محطات أساسية في سعي الإنسان لفهم الوج
...
المزيد.....
-
وسط حرائق الغابات.. مشهد مرعب لتكون -إعصار ناري- في لوس أنجل
...
-
حزب الله امتنع عن التصويت.. تكليف نواف سلام بتشكيل حكومة لبن
...
-
ميلانيا ترامب تحزم حقائبها وتستعد للعودة إلى البيت الأبيض وإ
...
-
مودي يفتتح نفقا استراتيجيا في كشمير
-
خبراء وعسكريون يكشفون لـRT كيف تغير سيطرة الجيش على ود مدني
...
-
الدفاع المدني بغزة ينشر إحصائية لهجمات الجيش الإسرائيلي منذ
...
-
أحمد المنصور.. من هو المصري الذي أسس حركة ثوار 25 يناير في س
...
-
الجزائر تتهم فرنسا بالتصعيد وانتهاك القوانين في قضية ترحيل ب
...
-
حرائق كاليفورنيا تشعل الجدل حول نظرية المؤامرة واتهامات تطال
...
-
للمرة الثالثة، إرجاء الحكم في قضية فساد ضد رئيس الوزراء البا
...
المزيد.....
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
المزيد.....
|