|
ورقةُ الحظّ المهملة
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 8220 - 2025 / 1 / 12 - 16:14
المحور:
الادب والفن
اليوم هو يوم السبت. ليس يوم الأحد. أمس كنت قائماً على رأس عملي؛ إذن فهو السبت وليس الأحد. لو كان يوم الأحد، لكان أمسي عطلة. شدَّ ما هو بسيط برهاني القياسي على أني مُسبِتٌ! لكنه على بساطته معجب نافع فعّال يغنيني عن النظر إلى الرزنامة. الرزنامة شيء، والنظر في الشيء، وإلى الشيء يجهد الذهن، والعين أحياناً. فلم لا أتجنب ما يجهد عيني وذهني، وخصوصاً في يومي هذا؟ درّ درُّك ذهني المتوقدَ المتألق المستنير المنتج البارع للبراهين وللحلول! أفخر بك. لست أمازحك. قد حق لك أن أفخر بك. من لي سواك يمكّنني من إذلال عويص معضلاتي، ومن اقتلاع شائك أسلاك حياتي المضطربة المتأرجحة بين النعمة والنقمة، بين السعود والنحوس؟ في السبوت لا أنشط لشيء من دنياي، حتى ليحسبني من يجهلني فرداً من طائفة يهودية متشددة زمّيتة. سبوتي مقصورةٌ على تعبئة الطاقة في خزان جسدي الفارغ منها. جسدي كالسيارة. فكما أن السيارة تستهلك طاقتها المخزونة إذا قطعت مسافة طويلة، فكذلك جسدي، فإنه يستهلك مخزون طاقته الحيوية وهو يكدح كدحاً شاقاً لا يعرف الرحمة طوال أيام الأسبوع الخمسة. أنشط للكأس فقط. وحده الكأس ينّشط خلاياي. ومع الكأس أقرف اللذةَ بجُمع حواسي. هذا شأني وديدني في كل سبت من كل أسبوع. أما ساندرا فمصدر لذتي المقترفة. هي المصدر الأول الحقيقي الأصلي غير الزائف. منه، من ذا المصدر الثرّ ذي الطعم الملكي الفاخر، أشتقّ كلَّ أفعال اللذة المباحة. ساندرا صديقتي: ذكية، سريعة البديهة، فصيحة العقل، مؤنقة، أُملودانية، يلفظ إهابها الأمغر في دمي شهواتٍ مزمجرة. تزورني في كل سبت، لا تخلف. زيارتها إياي في كل سبت وعدُ إلهة من إلاهات جبل مقدس.. وعد مبرومٌ لا ينتكث. وقد تبيت ساندرا أحياناً عندي، معي في شقتي، فنزجي معاً يوم الأحد حتى الساعة الثامنة منه مساء. أتبع ساندرا في كل خطوة تخطوها طائعاً كتابع أميرة، أوافقها على كل مقترح تقترحه، أنفذ معها كلّ مشروع من مشاريعها المتعلقة بإمضاء يوم الأحد، كالترفيه عن أنفسنا بزيارة أصدقائنا في بيوتهم – هم أصدقاؤها، إن شئتُ الدقة، فأنا بشخصي لا صديق لدي في مدينتنا العملاقة، وأنا بذهني لست مثقفاً مثلها يُعنى بمواد وأدوات الثقافة ومؤسساتها ودورها - أو بالالتقاء بهم في أماكن عامة، في المطاعم والمقاهي وصالات السينما والمسرح والمعارض الفنية. وقد نزجيه أحياناً منفردين بالترويح عن أنفسنا في المسابح وقت القيظ على الأخص، أو بالتجوال في أسواق الأحد العتيقة، أو بالسير على أطراف الغابة الناشرة في الجو رائحة عطرية بليلة، أو نمضي شطراً منه في بيتها حيث تقيم مع أمها، نجلس في غرفة المكتبة نصغي حالمين إلى الموسيقى والأغاني، وقد تعنُّ لها القراءة، فأنصرف أنا عنها إلى مطبخها لأطهو لها ولأمها وجبات تلذّ لهما. أمها بالرغم من أنها لا ينشرح صدرها بوجودي في منزلهم – ساندرا تحاول أن تقنعني بعكس ذلك – فإنها لا تبخل عليّ بالثناء، ولا بإظهار شعورها الطيب نحوي. ملَّني سريري فنهضت لمغادرته. كان علي أن أغادره، فليس حسناً ألا أمتثل للنصيحة الواردة في المثل المشهور عندي: إن ملَّكَ خدينُك، فانأَ عنه لئلا ينالك من عشرته وجعُ في الرأس، صداع. خلعت ثوب التثاؤب عني. تشمّرت لواجبات صباح السبت تُجاه بدني ومسكني. مظهري يجب أن يكون في هذا اليوم كما يجب أن يكون. وكذلك شقتي فإن كل شيء فيها يجب أن يكون منتظماً ضمن المشهد العام للشقة متناسقاً، مرتباً في موضعه الخاص به، ونظيفاً كي يرضي ذوق ساندرا المدرَّب المهذب الراقي. دخلت الحمام. رذاذ الدوش الفاتر الممتزج بأرج الصابون السائل فثأ الخمولَ عني، وأسقط في مجرى الماء ما تخلف في أوصالي من آثار التعب المكتسب من عملي الشاق. جفّفت عريي. سترته بثيابي الداخلية، ثم بروب قطني رقيق. جلست أمام شاشة التلفزيون أحتسي قهوة خالطها حليب بلا سكر، وأتحلَّى في أثناء احتسائها بقطع من البسكوت. انتهت نشرة الأخبار. قمت. ارتديت حُلَّة من حللي المكوية الأنيقة المخصصة للعطل والزيارات الرسمية مع ربطة عنق حريرية. الجوُّ معتدل الحرارة، والشمس زاهية الصفرة، والعصافير على شجرة الماغنوليا التي تتوسط حديقة العمارة سكرى من خمرة شمس النهار. خرجت من شقتي. سلكت الطريق إلى السوبرماركت يدغدغ صدري شعورٌ طيب بالرضا عن نفسي. ابتعت حاجاتي. عدت إلى مسكني فور أن ابتعتها، وقد تعلق بيسراي وبيمناي كيسان متدليان من القماش ممتلئان ثقيلان. دأبت ساندرا على أن تضغط زرَّ الجرس في تمام الساعة الرابعة عشرة - الثانية بعد الظهر - مع أنها تحتفظ داخل حقيبتها بنسخة من مفتاح باب العمارة، وبنسخة أخرى من مفتاح باب شقتي. ساندرا لم يسبق لها أن أخطرتني بهاتفها أنها قادمة إليَّ في تمام هذه الساعة. قدومها إليّ في تمام هذه الساعة عادةٌ مستحكمة، فلماذا عليها أن تخطرني بقدومها ؟ وفي كل مرة حين تضغط ساندرا على زرّ الجرس، أفتح لها الباب بلهفة الصديان. عقارب ساعتي تشير إلى الثانية عشرة وخمس دقائق. فيما مضى كنت أنجز ما اعتدت أن أنجزه من مهمات يفرضها عليّ مسكني الصغير ومجيءُ ساندرا إليّ يوم السبت؛ في وقت متأخر يتجاوز الواحدة والنصف ظهراً. وهو وقت ما كان له أن يدع لي أن أفكر في المعنى الذي تشير إليَّ به عقاربُ الساعة. للوقت أيضاً فلسفته أو طبيعته، هذا ما نقلته إلي ساندرا من خبرتها الثقافية. فإنه في حال اعتباره مطلقاً منفصلاً عني وعن سائر الموجودات، محايدٌ لا يكترث بشيء من أشياء العالم، ولا بشيء من أشيائي الخاصة. يمرّ الوقت، باعتباره مطلقاً، بجميع الأشياء دون أن ينحاز إلى شيء منها أو يأبه قليلاً أو كثيراً بها. لكنه بإضافته إلي، باتحاده بي، يغدو سيّداً يتحكم بكل غايات وجودي. يغدو بحراً نوفلاً يفيض عليّ بالمعاني والدلالات والرموز. وها هو ذا الوقت وقتي يفيض عليّ بساعته الثانية عشرة بمعنى الانتظار؛ يفيض علي بمعنى أن أنتظر مقدم ساندرا ساعتين كاملتين غير منقوصتين. وساعتان كاملتان من انتظار ما تتلهف إلى ملاقاته النفس، له جسامةٌ عريضة فسيحة. ولأنه في طبعي، بل في طبع كل إنسان، إذا جسُم له أمر من أموره أن يعالجه بما يزيله أو يخفف من جسامته؛ فقد عالجت جسامة انتظاري. جعلت أشاغل نفسي بإعداد مائدة الغداء.. جعلت أفرش المائدة بأصناف من المآكل المعدَّة الجاهزة، وبأصناف أخرى مما يُتنقَّل به مع الكأس إثر أن نظفتها مما تراكم فوقها من بقايا الأمس وما قبله. حتى إذا استكملت ذلك على أحسن وجه من وجوه الاستكمال، وضعت على موقد الغاز طنجرة بالطبخة الساخنة التي تشتهي ساندرا أن تتناولها من يدي في كل سبت. لكنّ كلَّ هذا النشاط العملي السريع الخفيف المنبثق من عضلاتي الموجهة توجيهاً دقيقاً من حاسة التذوق أو الذوق لدي، لم يأكل من وقتي أكثر من عشر دقائق. فأما الباقي من وقتي فكان كثيراً. فما العمل؟ ساءلت نفسي: كيف أنفق ما تبقى لي من وقت طويل على مجيء ساندرا؟ هل أعود أقعد أمام التليفزيون؟ هل أفتح تلفوني أو اللِبتوب وأتلهى بتقليب صفحات الفِسبوك؟ هل... كلا ! يضجرني فعل كل هذا في يوم السبت. والضجر عدوي النفسيّ. إنه يوتر أعصابي، ينهك نسيج روحي. إذاً فلأفعل ما ليس لي بد من فعله دفعاً لهذا الضجر المكروه البغيض. وفعلت ما ليس لي بدٌّ من فعله. عمدت إلى حيث ترقد زجاجة الفودكا. انتزعتها من مرقدها البارد بحركة معبرة عن عشق شاعري جليل، ثم أترعت بزلالها كأسي، وجلست على الصوفا خلف مائدتي المتخمة من الأطايب أعلّ من كأسي. الفودكا ليست مما ألفتُ أن أعاقره من الأشربة في نهاية الأسبوع. ألفت أن أشرب البيرا الخفيفة وضروباً من النبائذ جيدة أو مقبولة. وإنما أغراني بها زميل روسي جديد انضم إلى فريقنا في أول الأسبوع الفائت. وسرعان ما دبّت نشوة الفودكا في عروقي. ونشوة كل شراب مسكر حين تدب في العروق، تهفو الأذن معها إلى السماع. هذه حتمية. حتمية بالنسبة إلي على الأقل، أن تهفو أذني إلى السماع عندما يدب دبيبها في أعطافي. إنها لحتمية أن يكون لنشوة الشراب نداء. وليذهب الرأي في نفي الحتمية بإطلاقٍ من حياتنا إلى حيث يشاء. لست ممن يناصر هذا الرأي النافي، ولن أكون. فإني لو ناصرته، فلن أستطيع أن أفسر العلاقة التي لا تحور بين نشوة الشراب والسماع.. وسأفشل في تفسير لماذا لبَّيت نداء النشوة دون إبطاء، فشغّلت اللِبتوب، وانتقيت من اليوتيوب ما يطربني من الأغاني المسجلة، حتى انساب وقتي في انتظار ساندرا على الفودكا، وعلى الأغاني المطربة، ورقرق خيالي بأحلام يقظة قصار عذاب لاشت إحساسي بوطأة الوقت؛ بعبء الانتظار. وأنا في غمرة الكأس والطرب أتمزمز رفرفة أحلام يقظتي النائية عن الواقع، اخترق سمعي رنين تلفوني الموبايل الغافي مثل قطة أليفة إلى جانبي. رنّ تليفوني. لكأني سمعته يرن. ملت إليه بعنقي ميلاً يسيراً. سطح التليفون مضاء باسم ساندرا. لكأنها ساندرا، بل إنها ساندرا تهاتفني. ها هي حروف اسمها تنفث في مقلتَيَّ ضوعاً هامساً، وها هو قلبي يتشرّب الضوع الهامس دون تراخ. أي اسم آخر غير اسم ساندرا له أن ينفث في مقلتي ضوعاً هامساً؟ ورفعت الجهاز إلى أذني كما أرفع الكأس إلى شفتي: - ساندرا، أهذه أنتِ؟ - فمن أكون، إن لم أكن ساندرا؟ - لن تكوني إلا ساندرا. من لي إلاكِ؟ - تنتظرني؟ - على أحرَّ من الجمر. - احذر ! الجمر حارق. - إذن فلا تتأخري كيلا أحترق. - أطفئك إن احترقت، وأعالج حروقك فأشفيك في أقلَّ من دقيقة واحدة. - فإن تأخرتِ فالتهمتني النار عن آخري؟ - لن أتأخر. - أين أنتِ؟ - في البيت. - في البيت؟! ساندرا، عشر دقائق على تمام الثانية بعد الظهر، وتقولين إنك لن تتأخري؟ - هو ما أقول، لن أتأخر. - أُحجية ؟ - لا، ألغيتُ موعد الأسبوع المعتاد. لن أجيء إليك اليوم. - ألغيتِ موعد الأسبوع؟ أتعبثين بي؟ فما معنى قولك: لن أتأخر؟ - ما عهدت ذهنك رخواً كسولاً. ألّا أجيء إليك، يعني أني لن أتأخر. أفهمتَ الآن؟ - ماذا؟! ماذا أسمع منك؟ أجادة أنتِ؟ لن تجيئي إليّ اليوم ؟ لماذا؟ ساندرا، بأي حق لن تجيئي إلي؟ - بأي حق؟! قل لي بحق لسانك الذرب: كم زجاجة بيرا طرحت على الأرض؟ - ساندرا، من فضلك، لماذا ألغيت موعد الأسبوع؟ - وعدت صديقتي آنوش التي جاءت من سفر أن أزورها اليوم وقد أبيت عندها. - أما كان باستطاعتك أن تزوريها قبل موعدنا؟ أليس باستطاعتك أن تؤجلي زيارتها إلى يوم آخر؟ - بلى، لكني شئت أن أزورها في هذا اليوم. - فما دمتِ شئت، فلماذا لم تخبري بذلك في الوقت المناسب؟ أما كان حرياً بك أن تخبريني أمس أو في أول الصباح على الأقل؟ - هأنذا أخبرك . - ولكنك تأخرت. - آسفة! مع أني لا أجد ما يدعوني إلى أن آسف على أمر لا تترتب عنه نتائج سيئة. أي سوء في أن أتأخر في تبليغك؟ - ساندرا، ألا تدرين؟ إنك بهذا تصدمينني صدمة عنيفة. - لا بأس عليك حبيبي. ترمّم ما يتصدع منك بالصدمة جرعةٌ واحدة من زجاجتك. - أفرغت زجاجتي في انتظارك. - واضح، لسانك بدأ يلكَن. - ليس ذنبي. إنه ذنب انتظارك. - لا تنتظر، لن أجيء إليك اليوم. - أرجوك... - كفّ عن الرجاء، ودعني أكمل - أمرك... أكملي. - أعني، ألا يجدر بنا أن نستريح لمرة واحدة؟ ألا يحق لنا أن نمنح أنفسنا إجازة قصيرة؟ على فكرة حبيبي، لن تجني من مجيئي إليك نفعاً. - نفعاً؟ ساندرا، عمّ تتكلمين؟ - عليّ عادة النساء، عنها أتكلم. - عذر أقبح من الذنب. - ما القبيح؟ عادة النساء؟ - لا، القبيح أن تتعذَّري من زيارتي بعادة النساء. وكأني لا أشبق إلا لجسدك. - لا تزعل حبيبي، ما هذا قصدي. حاولت التعبير عن أسفي على ألا تكون متعتنا اليوم من اللقاء كاملة، فلم أحسن التعبير. اعذرني! - لا بأس، فامضي لشأنك. - أهو قلبك يخاطبني بهذا الجفاء؟ - القلب لا يتكلم. - فهو لسانك إذاً. حسنٌ، وأنت؟ لأي شأن ستمضي؟ - قد أشأن شأنك. - تزور صديقاً؟ ... صديقة؟ - لا، زجاجتي أوشكت أن تفرغ. وبي توق إلى المزيد. قد أمضي إلى خمارة الحيّ على زاوية الشارع كي أضمد جرح خيانتك للموعد المؤمل. - صرت تتكلم كما يتكلم الشعراء، من أين لك هذا ؟ - خيانتك تنطق الجماد شعراً. - خيانتي؟! ولكن الخيانة تكون حيث يكون بين الطرفين ميثاق، عهد، اتفاقية. أبيننا ميثاق أو ما شاكل الميثاق؟ - أن ندأب على الوفاء بموعد محبوب أعواماً، أليس ميثاقاً؟ ثم أي قيمة للميثاق بذاته؟ أإذا أباح الزنى ميثاقٌ، صار الزنى مقبولاً؟ - هه هه هه.. لا تكثر من الشراب. حين تكثر من الشراب تتشعَّث أفكارك كشعر امرأة مخبولة، تتغير ملامحك، يثقل لسانك، ويمسي الحديث معك مضجراً. تعدني؟ - لا أعدك. يمتعني أن أغير ملامحي، يمتعني أن أبعثر ذرارات أفكاري في كل اتجاه مع الريح العصوف. ولم لا أفعل هذا؟ إن فعله تغيير. ومن رحم التغيير يولد التجديد أو الجديد. بل كل تغير جديد. وطعم الجديد لذيذ. أليس هو المثل يقول: "لكل جديد لذة" ؟ - تفعل هذا نكاية بي؟ - لا أدري، قد أدري أن ليس في وسعي أن أفعل غير هذا في يوم يعصف فيه النحس بي. - تغيظني تشفياً؟ - ... - لااا... أنت حرد علي. حسناً، سأتلفن لك خلال النهار لأواسيك، وفي الليل أيضاً سأتلفن لك قبل أن تنام كي يذهب عنك الحرد.. - لا يواسيني إلا… - لحظة، أود أن أؤكد لك أنّ لقاءنا في السبت القادم، سيكون له غبَّ هذا التغير الطارئ شكلٌ جديد رائع، وطعم ولا أشهى. ألا يواسيك هذا؟ - عن نكبتي في هذا اليوم لا يواسيني شيء سوى وجودك إلى جانبي. - طفل... ! صدق القول في الرجال إنهم أطفال. ويظلون أطفالاً حتى لو رخمت بيضَها فوق شواربهم بجعة سمينة. - ومن أصدق من الطفل حين يحتج على ما يمقته بنوح وشكوى وبكاء؟ - تستحلي بسبب التغير الطارئ أن تبكي كما يبكي الطفل؟! ألا تدري أنك بهذا تنقض فكرة لك لم يمضِ على بوحك بها سوى دقيقة. - أنقض؟! كيف؟ - ألست الذي يرى التغيير فعل تجديد؟ - بلى. - فقل لي إذاً: إن لم يكن إلغاء موعدنا تجديداً، فما هو؟ - هو أمر جديد. - جميل ! فاسأل نفسك الآن: أليس في الجديد لذة؟ - بلى، وقد أضيف: إنه مذهِب للرتابة والملل. ولكن، إلامَ تروغين؟ - إلى النتيجة المستنبطة من هذه المقدمات التي وضعتها أنت بلسانك. - وما هي هذه النتيجة من فضلك؟ - تطلب مني أن أعلن النتيجة لك؟! فاعلنها لي أنت أيها المنطقي الشاطر. - ساندرا ذكاؤك يفتن عقلي، ولكن ليس إلى حدّ أن يتبلد فيحسب كل تغير يحدث تجديداً ينعش الفؤاد. - سوف أنعش فؤادك في السبت القادم. انتظر، سأعوضك مما فاتك، فلا تحزن ولا تأرق. لو لم تكن مقيداً ببرنامجك الصارم صرامة الغباء في تصريف أيامك، لزرتك غداً وبصحبتي آنوش صديقتي. - إذن فلنرجئ لقاءنا إلى يوم السبت المقبل. - على مضض...؟ - على ما شئتِ. قد شئتِ ساندرا. وما شئتِ لا ما شئتُ. ضحكت ساندرا ضحكتها الساحرة. ودَّعتني بقبلة أثيرية وقع شعاعها المرتعش ارتعاش ذُبالة الشوق وقعاً رديئاً في نفسي، في لحظة كان ينبغي لها أن تقع من نفسي موقعاً رائقاً مثل روقان ثغر السعادة إذا أفتر. قُبلتها عبر الأثير، جعلتني أخال أني أسأت القول في مفهوم التغير ونتائجه. يا لغبائي! وجعلتني أخال أني سلكت مسلكاً وعراً شائكاً في مواجهة الحدث الطارئ.. مسلكاً غير لائق في مخاطبتها. يا للعار! لكأني رجل بُدائي من عصر النياندرتال عريان من أكسية التمدن. العَمَهْ، أعيش منذ عشرين عاماً داخل شريان الحضارة الأبهر، ولا زلت ذلك العريان من ثياب التمدن! من أنا؟ أسألك أنتَ يا أنا يا حمار: ما أنا؟ متى سيتهيأ لك يا أنا يا عريان أن تكسو عريك الفاقع الفاضح بكسوة ولو خلقاً رقيقة مرقعة من ديباج التمدن والحضارة؟ ومضيت أقرّع نفسي، أنحي عليها باللوم، وقسوت. واللوم يفسد المزاج. وقد فسد مزاجي فانفعلت فكرعت ثمالة كأسي الأخير بغيظ شديد. لم أهدّئ من حرقة ما كرعت بمزَّة أو بلقمة من طعام. عافت نفسي التبلّغ بشيء من مزة أو طعام إثر الكرع؛ بل عاقبني عقلي عن سوء تصرفي ومقالي.. عاقبني ضميري عن مسلكي الجافي الفظ حيال أجمل كائن في حياتي بعوف التلقُّم بعد الكرع الحارق. أنا رجل حساس، مريض بالحساسية. أنا رجل يعاني فرط الحساسية. كأن روائياً متشائماً لا عقل إله، ولا انصهار أبي بأمي على سرير متعة الخلق هو الذي أبدعني، وشاء لي أن أكون كذلك مفرط الحساسية. كل فعل من أفعالي، وإن كان حسناً مستوجب الفعل، وكل قول من أقوالي، وإن كان منطقياً معقولاً راجحاً، لا تلبث حساسيتي المفرطة أن تعكر صفاء كل منهما. تباً لها، لحساسيتي المفرطة اللعينة هذه! إنها لتزدري وتبخّس حتى تجاربي المحنَّكة في الحياة. أي شيء هي ابنة بعلزبول هذه؟ غضبت غضبة مقامر خسر كلّ ماله على المائدة الخضراء. تلفتُّ حواليَّ مفتشاً عن شيء لا يكون نفيساً أصب عليه غضبي الساخن المغليّ من نفسي. وقع بصري على ساعتي الجدارية أول ما وقع، فهممت بتحطيم الساعة. لكن زجاجة الفودكا الفارغة كانت أقرب إلى يدي من الساعة. لم تتحطم الزجاجة. صانتها من التحطم وسادة لينة من وسائد الصوفا إذ سقطت الزجاجة في حضنها. ساندرا ألغت الموعد، موعدَ اللذات المقدسة. هي المرة الأولى التي تلغي فيها ساندرا موعدنا. هل درت ساندرا بما سيحدثه الإلغاء في نفسي من أثر؟ بلا شك! لكنها مع ذلك لن يرقَّ قلبها لي، لن تشفق عليّ بحال من الأحوال. ساندرا امرأةٌ متفردة بشخصيتها، العقلُ عندها مقدم على العاطفة. فما إلغاء موعد لدى امرأة تستهدي بالعقل قبل أن تستهدي بالعاطفة؟ إنه لمن السخف، من الركاكة عندها أن يتأثر رجل حساس مثلي كل هذا التأثر بإلغاء أو تأجيل موعد اعتاد عليه. هذه ساندرا ! أما أنا فرغم إدراكي لهذه الحقيقة، وجعت نفسي من إلغاء الموعد المعتاد. ما يعتاد عليه الحسّاسُ من أمثالي تتوجع منه نفسه قهر إرادته، إذا ارتفع من حياته بنحو مباغت. وهذا ما كان. توزَّعت نفسي بين الحزن والسخط والتشاؤم، وتمزقت. أما ذهني فتكدر كما يتكدر نبعٌ أهاج طينَه سببٌ. فرحت أتمصَّص انفعالاتي، ورحت أتجرعها حَنِقاً. وما زلت أتمصصها حتى قرّ عزمي على مغادرة مسكني - وقد أضحى في عيني تاعساً خاوياً مما يغري بالمكث فيه سحابة النهار - التماساً لِما يفرّج كربي، ويبرّد لهيب انفعالاتي. لملمت أطباق الطعام من فوق المائدة على صينية وأعدتها إلى مواضعها داخل البراد وخارجه. لم أحس بالجوع. أسكتت الفودكا وما تلمَّظتُه معها جوعي. كنت في كامل أناقتي، فلم أحتج لغير أن أحتذي حذائي، فاحتذيته. ثم استقمت فاتجهت نحو باب شقتي، ووضعت يدي على الأكرة. لكن هاتفاً في داخلي سبق يدي في هذه اللحظة فصدني عن الباب. هتف بي أنْ تأكدْ من حسن مظهرك. فاستجبت للهتاف. تقهقرت عن الباب، وقفت أمام مرآة خزانة الثياب لأعاين مظهري. وإذ سقط بصري على صورتي المنعكسة في المرآة، راعني احمرار وجهي، وذبولُ طرفي، مما زاد في تكدري وسخطي. انكفأت عن المرآة. لم أخلع حذائي. ذهبت إلى صنبور الماء في الحمام. طفقت أملأ راحتيَّ بالماء البارد وأنضح به وجهي المحتقن المهتاج. برودة الماء تنجع. أنعشَتْ وجهي برودة الماء، أرجعته إلى طبيعته، فلم يبق لاصقاً به من آثار الاحتقان إلا ما لعين فضوليٍّ مدقق قريب مني على بعد خطوة واحدة أن تستبينه ولكن بصعوبة. ولما طرقت قدماي رصيف الشارع، شعرت بتأثير الفودكا عليّ. لكني لم أبال بما شعرت به. تجاهلته بالرغم من أنني لم يسبق لي أن اختبرته. لم أخرج قط من البيت إلى الشارع، وأنا مكتظٌّ بتأثير الشراب. واصلت السير على رصيف شارعنا الطويل مطمئناً إلى أن تأثير الفودكا سيزول بعد قليل بفضل نسائم الظهيرة التي بدأت تناغش وجهي بأناملها البلسمية الطرية الرطيبة. سرت حتى بلغت في سيري ناصية الشارع حيث حانة الحيّ التي أرتادها أحياناً بصحبة ساندرا وبعض الصديق في أيام الآحاد، حريصاً كل الحرص على ألَّا يختلَّ توازني. ولا أدري كيف حدث – وأنا على باب الخمارة – أن التفتُّ إلى الشارع الآخر. في الشارع الآخر في أسفل العمارة التي تقابل الخمارة، كيوسك. إلى هذا الكيوسك حدث أن التفتُّ. وفي اللحظة التي التفت فيها، بدهني ما رأيت. رأيت طابوراً من الزبن مصطفاً أمام مدخله. تساءلت في نفسي: طابور؟ ما الخطب؟ ما وقوف كل هؤلاء الزبن في صف طويل ممتد أمام باب هذا الكيوسك؟! حدث غريب! وإذا بفضولي المستيقظ يدفعني بغلظة عن ولوج الحانة إلى الكيوسك. عبرت الشارع. لم أراعِ أمر الشارة الحمراء. غفل عنها انتباهي. سيارة غاضبة أطلقت علي قذيفة مدوية من زمّورها تحذيراً واستياء. في آخر الصف وقف رجل من حيّنا أعرفه معرفة سطحية. إنه من ساكني العمارة المجاورة. كثيراً ما أصادفه في السوبرماركت، أو في الطريق إليه. حين أقابله وجهاً لوجه، أحييه بابتسامة غير منفرجة، فيرد على ابتسامتي بمثلها، ولكن لم يحدث قط أن كلمته. لعل الرجل تجاوز السبعين وأشرف على الثمانين. قدرت عمره بالسنين، وأنا أعاين صورته خلسة. على أن سنيّ عمر الرجل المشرف على الثمانين لم تبهظ حوضَه بعلامات الشيخوخة المبغوضة. فما زال الرجل منتصباً على قدميه دون عكازة، وما زالت لهازمه تقاوم بشجاعة نبيلة التجاعيد العميقة، والاسترخاء الشديد الترهل. أما ثوبه فنظيف مكوي لم ألحظ عليه بقعة من زيت أو دهن أو شيء آخر مما يتساقط وقت الأكل في غير قليل من الأحيان على ثوب من هو في عمره. سلّمت عليه ما إن وقفت في الصف خلفه. فرفع الرجل يده إلى قبعته الرمادية ذات المنقار ولمس منقارها بحركة فنية متقنة من أصابعه، ثم حياني بود: - طاب نهارك ! لهجة الرجل الودودة شجعتني على محادثته، سألته: - فيم وقوف كل هؤلاء أمام الكيوسك؟ رمقني الرجل طويلاً حتى عنَّ لي أنه لم يفهم سؤالي المقتضب. فطفقت أعيد عليه السؤال، وأفضت: -أسكن في هذا الحي منذ عشر سنوات، عشرِ سنوات وتزيد، ولم أشهد يوماً أمام هذا الكيوسك مثيلاً لصفٍّ كهذا الصف في الطول، في العدد. فما الحكاية ؟ لا بد من حكاية وراء هذا الحدث الفريد، أليس كذلك؟ ترى ما هي؟ لاح على شفتي الرجل ظلُّ ابتسامة. ولاح لي أن ظلّ ابتسامته لم يكن خالياً من البراءة، قال: - تقطن في هذا الحي منذ عشر سنوات، ولا تعلم سبب وقوف هذا الصف الطويل أمام الكيوسك؟ تلبّك ذهني مما قاله لي الرجل. كان في قوله تعريض عسر عليّ هضمه. بيد أني لم يطل بي أن اهتديت إلى حجة تبرر جهلي، وتفسد تعريضه، كذا في حسباني: - أنا أعمل خارج الحي. أغادر مسكني في البكور وأعود إليه مع غبشة المساء. غير أن حجتي، لم تقنع الرجل. انعكس ذلك بوضوح على سطح مرايا عينيه. لكنه هز برأسه كمن تفهمها، ثم قال: - هي الجائزة على الأغلب. - جائزة اللوتو؟ - نعم. - كم هي؟ كم بلغ مقدارها؟ - بلغ المائة. - يا للهول ! مائة مليون أويرو؟! - مبلغ جسيم، ألن تجرب حظك؟ هتفت: - ولم لا؟ سأجرب. التجربة مثيرة للغاية. وأنت؟ أتقف في الصف لتجرب حظك مثل هؤلاء الواقفين أمامنا؟ فما أتممت قولي، حتى رأيت الرجل يزورُّ عني، ويحكّ أذنه كما لو أن بعوضة جائعة متعطشة لسعتها. فتجهم قلبي. شعور بأنه أساء إلي، داهمني من حركته. وأنكرت ذلك منه. ماذا فعلت ليزورَّ الرجل عني؟ أأكون أهنته من غير أن أدري فازور عني؟ بيد أني لم أوجه للرجل المسن إهانة من أي نوع، فلماذا ازورَّ عني؟ لقد سألته سؤالاً عادياً يقتضيه الموقف.. سألته لأعرف غايته من وقوفه في الصف. هذا كل الذي فعلته. ولا شيء آخر قبله ولا بعده. فهل في هذا الذي فعلته إهانة من أي نوع؟ رجل غريب! من عساه أن يكون؟ وفجأة استدار الرجل نحوي بكل قوامه كما يستدير جندي في حصة تدريب على نظام منضم، وإذا عيناه تقذفانني بشرار من غضب: - أنا لست هرماً متصدعاً، وليست قدمي على حافة القبر. تأدب من فضلك. ذهلت. ذهول فاقع مما سمعت من الرجل الغريب تلبَّسني حتى كاد وعيي منه يصاب بالشلل. ما هذا الذي أسمعه منه؟ ونبرت: - أنا ؟! - نعم أنت. - أأنا قلت فيك إنك هرم متصدع؟ - وتنكر ؟ لا ينفع النكران أيها الفتى. من ذا الذي يقف خلفي؟ ألست أنت ؟ ألعلك تنكر أيضاً أنك أنت الذي يقف خلفي؟ لم أحتمل تهمته. تهمته كانت فوق احتمالي، زعقت فيه زعيقاً قمعت منه آذان الذين وقفوا في الصف على قرب منا، لسماع ما يدور بيننا: - أخطأت. أنا لم أقل فيك ذلك. - بل قلتَه. وإن كنت لم تصرّح به بلفظ مسموع. - قلتُه ولم أصرح به؟! ما هذا الكلام؟ أوَتخلط؟ كيف ذلك؟ - وتسألني: كيف ذلك؟! - أجل، أسألك كيف ذلك. لا مندوحة لي من أن أسألك كيف ذلك حين أسمعك تلغز وتبرطم بكلام لا ألف له ولا ياء. - لا ألغز ولا أرطن. - ففسر لي، إن كنت صادقاً، معنى قولك الآنف. هل له من معنى؟ - أفسره لك بطيبة خاطر أيها الفتى. ألم تقل فيّ ما قلتَه فيّ من دون تصريح؟ - نععمم؟ إن كنتُ لم أصرح لك بشيء، فأنى لك أن تزعم أني قد قلت فيك شيئاً؟ - عقلك مغلق بسدادة أيها الشاب، ألا تعلم أنّ ما لا يُصرّح به بلفظ مسموع، لا ينفي أنه في النية مضمر؟ - تقرأ ما خُطَّ بيد النفس في لوح النوايا؟ رد الرجل بصوت عميق فارقته ثورة الغضب: - أفعل. حين تظهر علاماته الحسية على صاحب النية، لا يشق علي أن أقرأه. وإليك مثالاً على ذلك: قد تكون في نيتك غاضباً علي، فتكتم غضبك عني في دخيلتك. لكن سحنتك وما يطرأ عليها من علامات الغضب المعروفة، سوف تفضح غضبك علي، إن لم تكن ممثلاً بارعاً جداً جداً قادراً على إخفائه – ولستَ كذلك – وستفضحه في هذه الحالة أيضاً حركاتُ جسدك الأخرى كاهتزاز أوتار صوتك، إن فقدتَ السيطرة عليها، وقد فقدتَها. - لكن نيتي خالية تمام الخلو مما ادعيته علي. ليس لما ادعيته علي وجودٌ في نيتي ألبتة. فهلا سألت نفسك كيف لشيء لا وجود له ألبتة في نيتي، أن تظهر لك علاماته ؟ - سفسطتك كالكذب ساقاه قصيرتان. كلا أيها المحترم! شاب مثلك في مقتبل العمر لا يجدر به أن يخرج من منزله إلى الشارع وهو يترنح على جانبيه من السكر. - سكر ؟! أأنا سكران؟ - ولأنك سكران، دست على قواعد الأدب بحذائك الملوث. زعقت ثانية: - أنا ؟! أأنا دست على قواعد الأدب بحذاء ملوث؟ لا، لا، لا. أنت واهم بلا شك. انظر، انظر من فضلك إلى حذائي، كيف تراه؟ أليس نظيفاَ؟ إن لم تره نظيفاً، فلا بد أن تكون عينك تشكو من علة. - أيها الشاب، أنا لا أحب مراوغة الثعالب. قل لي: أليس انتهاكاً لقواعد الأدب ودوساً عليها، أن تسرد على مسامعي، وذلك على وجه المقارنة، حكايةَ العجوز الذي فاز بجائزة اللوتو الكبرى قبل عشر سنوات من تاريخ يومنا هذا؟ كدت أخرج من إهابي: - العجوز الفائز بجائزة؟! من هذا العجوز الذي فاز بجائزة اللوتو قبل عشر سنوات من الآن؟ ما حكايته؟ ألا ارأف بحالي، أرجوك! أنا لم أسرد على أذنيك حكاية عجوز فاز بجائزة. من أنا؟ كيف لي أن أسرد عليك حكاية لست مطلعاً عليها؟ إن كان ثمة عجوز فاز بالجائزة حقاً، فأخبرني: ما شأنه بما تتهمني به؟ كانت امرأة نحيلة عجفاء لها ساقان رفيعتان طويلتان يكسوهما جلد بني مقدَّد كأنما هو رقعة نمشها جراد، ترتدي تنورة قصيرة، ولها شعر نأى عن الكثافة المستحبة في شعر النساء، قد صبغته بأحمر قرمزيّ وآخر ليلكيّ بنفسجي، تقف أمام الرجل مباشرة. ومن حيث لم أتوقع تولّت المرأة الرد بالنيابة عن الرجل. قالت دون أن تلتفت إلى الوراء: - العجوز الذي فاز بالجائزة كان جاراً لي. مات بُعيد فوزه بالجائزة. مات وما مرَّ على فوزه سوى أسبوعين، أسبوعين فقط. كان وحيداً يعيش في عزلة تامة عن العالم. مات في شقته المقابلة لشقتي. ولم يعلم أحد بموته إلا بعد أن انتشرت رائحته في فضاء البناية. وكنت أنا أول من شمّ رائحته، وأبلغ البوليس. ضرب الرجل عضدي براحته مبتهجاً ابتهاج المنتصر: - أسمعت؟ ألا يؤكد لك هذا الذي جاءك من مصدر محايد، صدقَ ما قلته فيك؟ - ولكني لم أقل فيك شيئاً. - سامحك الله! كأنك تزعم أني أفتري عليك. طيب، فهبني مفترياً. ليكن لك أني مفتر. ولكن ماذا عن الشهادة الصادقة التي أدلت بها هذه الشابة الحسناء المغناج الواقفة في الصف أمامي وظهرها إلي؟ تكذّبها أيضاً؟ أهو بمستطاعك أن تكذبها؟ - لا أكذّب أحداً، ولا أصدق أحداً. دعني وشأني، أرجوك! إنك تستفز أعصابي. ولعنتُ فضولي الذي ساقني سوقاً أهوج غبياً إلى الوقوف في الصف خلف هذا الرجل الفرفار المهذار المهاتر الذي كنت أحسبه لطيفاً حنّيكاً ممتلئاً حكمة. أما كان خيراً لي أن أردع فضولي وألج الخمارة على الفور؟ تحسرت ! وكانت حسرتي محترقة تصاعد دخانُها في أجوائي الداخلية. وهو إذ تصاعد سوَّلت لي نفسي، وقد استفاضت قرفاً من حديث الرجل، الخروجَ من الصف إلى الخمارة، وألحَّت. إلا أنني حين نظرت فرأيت عدد الواقفين خلفي أضحى أكثر من عدد الواقفين أمامي؛ أكبحت رغبتي في الخروج من الصف بالبقاء فيه. قلت لنفسي وأنا أغرز قدمي في الأرض بإرادة شحذها الموقف: ما دام كل هؤلاء البشر متشوقين للّعب بأرقام ورقة الحظ، فلم لا أكون واحداً منهم؟ "ضع رأسك بين الرؤوس..." هذا ما علمني إياه المثل الدارج. وفي اللحظة التي تحسست صراخ نزعة شريرة داخل أنسجة رجولتي التي مسّها الرجل بشكاسته - حسبما وسوس شعوري في أذني - هتفت مع نزعتي الشريرة هتفاً ولكن صامتاً: لن يهزمني الرجل، من هو ليهزمني؟ إنه ليس شيئاً بإزائي. فلأثبت له متحدياً ترهاته.. مفنداً أباطيله. فإمّا وإمّا. وإذا بعقيرتي ترتفع أمام الرجل، وأنا أحدق في عينيه تحديق ملاكم في عيني خصمه الملاكم قبل أن يبدأ الصراع بينهما: - فليكن ادعاؤك صادقاً، ولتكن شهادتها على ادعائك صادقة أيضاً مثل ادعائك. لكني لن أسلِّم لك بهذا إلا حين تأتيني بالدليل. فهات الدليل أيها السيد. أم تراك نسيت أن العبرة في الدليل؟ الدليل.. إليّ بالدليل أيها السيد، هاته من فضلك! وأكلحت له وجهي. غير أن الرجل لم يظهر عليه أنه تأثر بما أبديت له من تكليح التحدي شأن المتيقن من قوة بأس فيه مستلهمة من إشراق حق لا مجمجة فيه. رد علي باستهانة غلَّفتها ابتسامةٌ منه شاحبة تخللها شيء من الإشفاق الراثي: - تطلب الدليل وهو أمامك؟ أعذرك أيها الفرفور. لو لم تكن مخموراً، لأطلقت عليك وصفاً لا يسرُّ عاقلاً من أمثالك. فصحت به صيحة لا تنفجر عادة إلا من قسوة ردة فعل المهان: - لست فرفوراً، ولا دليل لديك. - لا دليل ؟! وراح الرجل يمضغ كلمته بمنطق المتعجب الهازئ، ثم جعل يتلفت حوله كالباحث عن شاهد يشهد له على صدقه قبل أن يقول لي: - حسناً، فدعني أسألك: أما كان العجوز الذي فاز بالجائزة فانياً على حافة القبر؟ - وما شأني أنا بحال عجوزك؟ - غداً عندما تصحو من سكرتك، سيأتيك الجواب عن سؤالك عفو خاطرك. قال هذا وتنحى بوجهه عني إلى ظهر المرأة التي وصفها بالحسن. وما هي بالحسناء – في ذوقي الخاص على الأقل - وإنما حسنت في عينيه إذ خال أنها تمالئه في ادعائه علي. هذا سرّ جمالها لديه بتفسير لا أحسبه إلا صائباً . ثم نقر نقرة مؤدبة على كتفها. حسناؤه استدارت إلى الوراء. لم تجفل من نقر الرجل على كتفها على ما هو معهود من النساء. من طبع النساء في مثل هذه الأحوال أن يجفلن إذا بوغتن، بل كافأته حسناؤه بابتسامة جميلة رقيقة كابتسامة الشكر والعرفان، وذلك قبل أن تزلقني بنظرة شزراء صارمة من عينيها الضيقتين بللتني بصرامتها الباردة من رأسي إلى أخمصي. وقبل أن تقول لي بلهجة من يقيم عليَّ البرهان، وهي تسفر لي عن وجه توسطه أنف بحجم باذنجانة ناضجة: - العجوز هو جاري. وأنا أعرفه جيداً. تحيَّرت. أخذني العجب مما قالته المرأة، فلم أنبس بشيء. ولكأنها انتبهت لما حلّ بي، فعاجلتني قبل أن أفيق من الحال التي غشيتني: - إن كنتَ لم تصدق بأنه جاري، أتيتك بمستند مادي يرغمك على التصديق. قلت لها، فور أن أفقت من غشية التعجب، بتؤدة ألتزم بها دائماً لدى مخاطبتي النساء، ولا ألتزم بها لدى مخاطبتي الرجال إذا أساؤوا إلي. أنا لست ممن يثور في وجه النساء أو يحتد ولو جرن عليّ وأسأن إلي، هذه صفة لا تنفك عني. وما أكثر أن مدحتني ساندرا بها بخلاف أحد معارفي من الذكوريين الذي يراها صفة دالة على ضعف وفسولة.. قلت لها بلغة تجردت من كل انفعال: - أنا لا أعرفكِ يا سيدتي، ولا أعرف العجوز الفائز بالجائزة، فبأي منطق يجوز لي أن أكذّب حكايةَ أنه جارك؟ - لا تستطيع، ولو شئت! إنك لا تستطيع تكذيب أنه جاري. كونه جاري حقيقة واقعية. والحقائق الواقعية، كما تعلم ويعلم الجميع، لا يكذبها إلا من خلا دماغه عن التعقل. ولست إخال دماغك خالياً خلواً تاماً من وظيفة التعقل. - سيدتي، ما كذّبتُ حقيقة، ولن أكذب حقيقة. ولكن ما شأن جاركِ العجوز الفاني الذي لا أعرفه بي؟ كررت عليها السؤال الذي سبق لي أن طرحته على الرجل، هكذا بتحدٍّ مضمر. فكان أن بسط الرجل ذراعه ورفعه إلى كتفي، وراح يربّت عليه بتسامح ولطف: - لا تغضب أيها الشاب. أنت غاضب، فاهدأ. سأروي لك الحكاية بإيجاز. أؤثر أن أحكيها لك بإيجاز لا بتفصيل؛ لأن التفصيل يثقل على المخمور. نعم، إن ذهن المخمور تجهده التفاصيل وتشوشه. الدراسات العلمية تثبت ذلك. واعلم أني على ثقة تامة من أنك حين يذهب عنك السكر غداً وتستعيدها، سيتبين لك أني لم أدّعِ عليك بباطل. اسمع أيها الفتى الممراح: كان هذا العجوز دأب على اللعب بأرقام ورقة اللوتو مذ كان شاباً في ميعة الصبا، بيد أنه لم يربح قط. ربما كان ربح في بعض الأحيان، ولكن مبلغاً تافهاً لا يتجاوز مقداره مقدارَ ما كان يدفعه ثمناً لشراء الورقة. وإنما ربح بعد أن بلغ التسعين. في التسعين ربح العجوز الجائزة الكبرى... - كان تجاوز التسعين. صحّحت المرأة ما قاله الكهل في عمر العجوز، ومضت فزادت على ذلك وأسهبت: - وحين جاوز التسعين، وربح الجائزة جاءه رسول من إدارة اللوتو يحمل له شيكاً بالمبلغ داخل حقيبة سوداء. ابتسم له العجوز بمرارة. تناول الشيك من يده ببرود، وقال له: „ جئتَ متأخراً يا بني، ما الذي أخرك حتى الآن ؟". وقد روى لي العجوز شيئاً آخر مما قاله لحامل الشيك إليه لا أحب في هذه العجالة أن أبوح به. ثم إني لما هنّأته بفوزه، والحسد يحرق أديم قلبي، لم يشكرني على التهنئة، بل انقبضت أساريره، وتمتم: „ حظي عاثر حتى وأنا أربح الجائزة. ماذا ينتفع بالجائزة عجوزٌ لا عقب له، ولا أقرباء، متهالكٌ قد شارف على المائة؟ " فقلت له وفيض من رجاء دافق يجيش في أودية نفسي. إن كنتَ لا تنتفع بالجائزة، فامنحها لي. أنا أولى بها من الآخرين. أنا جارتك التي تبتسم لك، وتحييك كلما صادفتك على باب المصعد. أنا جارتك التي تعرض عليك خدماتها. أنا جارتك الشابة الجميلة التي ما زلتَ – ولا بد - تذكر أنك مدحت جمالها بلفظ أصفى من قطر ندى الفجر على أكمام الورد. أنا جارتك التي تزخر بحيوية الصبا.. جارتك التي يفور صدرُها بالمآرب والأماني والخطط. أنا جارتك التي يمتد العمر أمامها كما يمتد طريق تظنه لطول امتداده بلا نهاية. فلم لا أرث عنك الجائزة؟ ما المانع؟ ألستُ حقيقةً بها، وبي من حسن الصفات ما ليس بالآخرين؟ على أن العجوز ازداد انقباض وجهه درجتين أخريين وهو يصغي إلي بأذن حُشرت فيها سماعة، وينظرني بعين ضعيفة مرحة من خلف نظارة زجاجها أشد سماكة من زجاج نافذة قطار. ردّ علي رداً بارداً كالثلج، قال: „ المال ينفع الإنسان شيخاً بالياً كان، أو طفلاً غضيضاً نضراً. إنكِ تذكّرينني بالشاب راسكولنيكوف“. سألته: ومن راسكولنيكوف؟ أجاب وهو يتفرّس فيّ بإنكار: "ألا تقرئين…؟ لا إخالك أميّة “. فقلت: صدقتَ لست أمية. قال: "ولكنك لا تعرفين من هو راسكولنيكوف“. لا أعرفه. صادقت على قوله، ثم سألته: لماذا علي أن أعرف من هو راسكولنيكوف ؟ أجاب: „ إنّ أخشى ما أخشاه أن يكون منطقك كمنطقه“. سألته: وكيف ذلك؟ أجاب: "أن تفكري بنحو ما فكر قبل أن يقدم على ارتكاب جريمته في المرابية العجوز. منطق راسكولينكوف خطير للغاية يا ابنتي، فتجنبيه. إنه لا يفضي إلى الجريمة وحسب، بل يبررها أيضاً بعلل شيطانية “. فرجوته ألا يخاطبني مخاطبة الأب لابنته أو الجد لحفيدته، فأنا أصلح لأن أكون زوجة له. وعلى الفور عرضت عليه الزواج. لكنه رفض العرض بإباء خالطه اشمئزاز. بل عيّرني قائلاً: "تبيعين نفسك لعجوز مسافةُ ما بينه وبين الموت أقصر من فتر؟ تبيعين نفسك للشيطان كما باعها له فاوست؟ لماذا؟ أمن أجل المال؟ ما المال؟ " فأجبت وأنا أبتلع العار الذي ألقمني إياه ظلماً وعسفاً: أبيع لك نفسي في تجارة رابحة. والتجارة عمل شريف. فردَّ بلا تلكؤ كأنما الرد كان جاهزاً على رأس لسانه: "هذه سرقة، أوَيرضيك أن تسرقي مني الجائزة؟" قلت: لا أسرق، ولا أقتل. وإنما أريد الحصول على الجائزة لقاء الزواج بك. أهو من العار أن أكدش خيراً لنفسي بالزواج منك؟ فاستدرك قائلاً: "لكني يا صغيرتي لا أحتاج إلى زوجة“. قلت: أنا التي تحتاج إلى زوج لي فيه أرب، وهو أنت. رد: "لا يفيدني الزواج بك“. فقلت: والمال أيضاً لا يفيدك. ألم تقل هذا لمن سلّمك الشِّيك؟ أجاب: "بلى“. فقلت: إذن، امنحه لي، ما دام لا ينفعك. سألني: بأي حق؟ فأعدت عليه القول: ألست جارتك التي تودّك وتسألك كلما التقت بك: كيف حالك؟ كيف هي صحتك؟ وإذ ذاك أبدى العجوز عن سأم. سمعته يتأفف مني ويلقي علي خطبته العسيرة على فهمي: "أنتِ ترهقينني بلجاجتك يا صغيرتي. وأسوأ ما فيك أنكِ في ضميرك تعتقدين أن الإنسان إذا بلغ الشيخوخة، زال حقه في أن يحيا. أسوأ ما فيك أنك تتوقعين لمن بلغ الشيخوخة أنه مائت في اليوم التالي من بلوغه إياها لا محالة؛ مما يحتم عليه في وهمك أن يزهد عن ماله للآخرين، ويستلقي عارياً على قارعة النهاية بجسد وروح قد نهشتهما أنياب الزمن الجائعة حتى العظم. لكن حياة الإنسان تأبى عليه إلا أن يحياها حتى آخر قطرة منها. ليس الأمر بإرادة الإنسان وإنما بإرادة الحياة الكامنة فيه. ما دام في الإنسان نبضٌ من حياة، فإن الحياة ستفرض عليه أن يحيا غصباً عنه. قد أجمع كل الفلاسفة على هذه الحقيقة الساطعة، وكذلك العلماء. وهي عند العلماء لا تدعى إرادة وإنما جينات وهُرمونات. الجينات والهرمونات عند العلماء هي إرادة الحياة التي تسيّر الإنسان. ثم إن الإنسان ابن لحظته. يعيش للحظته. ومن يدري؟ فقد أُعمِّر سنواتٍ، لا يعمر مثلها شاب في مثل عمرك. شاب في مثل عمرك يظن لجهله وقلة خبرته أنه سيكون أطول مني عمراً. نعم، إنه أطول مني عمراً، ولكنه أيضاً ليس أطول مني عمراً. فهل له أن يضمن لنفسه أنه لن يسبقني إلى الموت؟ ". وصفق الرجل الكهل خصمي بيديه في هذه اللحظة، وقد ندت عنه صيحة جذل: - مرحى، مرحى! لا فضّ فوك يا جميلتي، أجدتِ وأيّ إجادة في تفسير معضلات النفس البشرية. ثم لم يلبث أن أحلَّ العبوس محل الجذل، إذ توجه إلي قائلاً لي بازدراء ناقم: - أيها الشاب، ألم تقل لي سائلاً مستفسراً: " وأنتَ؟ أتقف في الصف لتجرب حظك مثل هؤلاء الواقفين أمامنا؟" ألم تقل لي هذا؟ اعترف، هيا! أم أنك ستتهمني بأنني أضع على لسانك كلاماً مستخرجاً من جيبي؟ مهلاً، لا تنظر إلي هكذا بعين حمراء. انس هذا الذي قد قلته لك، ودعني أسألك سؤالاً واحداً: ما هو المستفاد من سؤالك ذاك الذي سألتني إياه إن لم يكن المستفاد منه أنك تضمر لي في وجدانك أنني متهالك كالعجوز الذي ربح الجائزة الكبرى، كالعجوزِ الذي كان جار هذه الحسناء الفيلسوف الأنيقة بثوبها ولفظها؟ فسكرت عليه من جديد، هتفت بانفعال شديد: - مخطئ أنت، فأنا لم أضمر لك في وجداني إلا الخير. ما ذنبي؟ أهو ذنبي أنك استفدت من سؤالي ما لا يستفيد منه إلا أصحابُ النوايا السيئة الشريرة. - ما زلتَ مقيماً على ما عهدت منك منذ البدء. قال الرجل متأسفاً ثم أضاف: - لا يجني المرء من محادثتك ثمراً طيباً. هل يجني المرء من العليق تفاحاً؟ لا ألومك. أعذرك. لا أملك إلا أن أعذرك. السكران معذور. وكفى بنا هذا يا فتاي، فقد جاء دوري الآن لألعب بأرقام الحظ. وإني منبئك أني سأفوز بالجائزة الكبرى حتماً.. أنبئك بفوزي بها لا لأغيظك كما قد يخيل إليك بل لأحيطك علماً بذلك.. لأقول لك لن يفوز بها أحد سواي. وسيكون أوّلَ فعل لي بعد الفوز بها، عرضُ الزواج على حسنائي هذه. ها هي حسنائي. انظر إليها، انظر. إنها تودعنا وداع الأميرات سليلات الملوك. نهارك سعيد. قد نلتقي غداً ! ورفع ذراعه إلى قبعته الرمادية بالحركة الفنية المتقنة عينها التي شهدتها منه عندما ألقيت عليه تحيتي قبل بدء حديثي المشؤوم معه. وما أسرع أن غاب الرجل بوعيه عما حوله لحظة أن انكب على ورقة الحظ. غادرت الكيوسك بخطوات سرني أنها اتزنت اتزاناً مستقراً. ولم أدهش حين تنبهت إلى أنّ كلّ الذي كان تأجج بيني وبين الرجل الكهل المسن والمرأة الغريبة، قد انطفأ كأنه لم يكن. فهذا طبعي. ليس في طبعي أن أحقد. الحقد يسمم عيش صاحبه. هذه حقيقة مجربة لا يجهلها أحد. لذا فمن الحمق أن أسمم عيشي بالحقد. صحيح أني أغضب أحياناً، لكن غضبي يبوخ سريعاً. غضبي على إنسان يغضبني لا يمكث طويلاً في مطاويّ. هذا أنا. وقفت على الشارة الضوئية. وقفت منتظراً الشعلة الخضراء مع ثلة من المنتظرين، ولم يكن الكهل المسن بينهم. رغبة حارة في مكالمة ساندرا، نبعت في هذه اللحظة داخل حلقي. لكني لمّا كان ذهني خالياً مما أقوله لها، عزفت عن تحقيقها متمنياً أن تكالمني هي بهاتفها. ملأت رئتي من الهواء الذي كان صار أكثر رطوبة. عبرت الشارع. اتجهت إلى الخمارة. إلى الخمارة اتجهت. فإلى أين أتجه إن لم أتجه إليها؟ لو كنت أديباً كاتباً، لجلست إلى طاولتي فدونت أشواقي وأحلامي وأفكاري. لو كنت فناناً، لدخلت مرسمي فرسمت أو نحتُّ ما ملأ عيني. لو كنت موسيقياً، لعانقت آلتي واستولدتها ألحاناً. لو كنت سياسياً، لنشطت حيث ينشط السياسيون. لو كنت لاعب شطرنج، لوجدتني في نادي الشطرنج أصارع خصماً لي على الرقعة بالفكر لا بالسلاح. لو كنت معلماً، لكنت انشغلت بتحضير الدروس لتلاميذي. لو كنت ممثلاً… لو كنت عالماً… لو كنت مصمم أزياء... لو كنت رياضياً عداءً، لاعب كرة… لو كنت فلاحاً… لو كنت تاجراً… لو كنت سائقاً… لو كنت مقامراً… لو، لو، لو… ولكني لست واحداً من كل هؤلاء. فإلى أين أتجه، إن لم أتجه إلى الخمارة؟ في لحظة هاربة من الزمان، خطر لي أن أتجه إلى السوبرماركت لشراء زجاجة ثانية من الفودكا، وبعدها أعود إلى مسكني وأعكف عليها. غير أن الخاطرة لم ترق لي. كان أمراً طبيعياً ألا تروق لي. فأنا قد اعتدت اعتياد المدمن على وجود ساندرا إلى جانبي في هذا اليوم. فأنَّى لإقامتي في مسكني في هذا اليوم وحيداً دون ساندرا أن تروق لي؟ انتحيت ركناً منعزلاً في الخمارة. لخمارة حارتنا جوها الخاص. موسيقى كلاسيكية هادئة تهبط مويجاتها الناعمة من السماء، أو أغنيات عاطفية هادئة مثلها تنساب كماء الغدير على الحصى، ضوء خافت حالم، وساقية تلبي طليات الزبائن خلف البار. حسنة القد، ذات بشاشة، ولها منطق في حلاوة الشهد. بنهمٍ لم أستشعره من قبل طفقت أعبُّ فيما طلبتُه من الساقية الفاتنة من شراب. مرت لحظات على جلوسي إلى المائدة، وأنا غائب بانتباهي عما حولي. ولأن عينيَّ في هذه اللحظات لم تكونا اعتادتا بعد على الضوء الخافت، لم أستكشف على الفور أن الركن الذي كنت انتحيته من الخمارة، لم يكن منعزلاً. مائدة تقابل مائدتي قريبة منها حتى لتكاد تلتصق بها، كانت قائمة في الركن بجواري، وقد جلس إليها ثلاثة أشخاص: شابان وفتاة. عندما تفتق الضوء الخافت عن ملامح الفتاة، أدهشني أنها تشبه ساندرا. شخصت لي الفتاةُ وكأنها نسخة عنها. بس، لو كان شعرها أصفر غزيراً جثيلاً مصففاً كشعر ساندرا، لكانت نسخة طبق الأصل عنها، لكانت هي، ساندرا. ولكنت هجمت عليها صارخاً في وجهها: ما أنت في هذا المكان بين هذين العفريتين؟ ولقذفتها بالخيانة. لكنها، لحسن حظي، لم تكن هي. كانت شابة أخرى، إنساناً آخر. وأدخلتني هذه الحقيقة الجلية، حقيقةُ أنها ليست ساندرا، في جوّ من الطمأنينة والهدوء. حقيقة مريحة ! ورحت أتنفس هواءها النسيم ملء تجاويف ذهني. لكني لم أنجح مع ذلك في ردع عيني عن استراق النظر إلى الشابة البديعة. ولعل الثلاثة أحسوا بأني أسترق النظر إليهم، إليها على الأخص. ولعل استراق النظر مني إليهم أن يكون ساءهم فأغضبهم عليّ، وإلا فما الذي أغرى أحدهم عليّ؟ ما الذي حضَّه على أن يكشر في وجهي متوعداً: - وقاحة. انصرف لشأنك، هيا، وإلا… وشدّ ساعده إلى عضلة عضده الأيمن فانتفخت أمام بصري انتفاخ عضلة بطل من أبطال رياضة كمال الأجسام. فلكأنه أراد أن يخيفني. بيد أني لم يعترني من تهديده خوف ولا انفعال آخر. إن للشاب، وللآخر أيضاً، بنية رياضية مجدولة. ولكني أنا أيضاً أنعم ببنية رياضية مجدولة. أنا عامل بناء فعلام الخوف؟ اثنان ضد واحد؟ فليكن. التفوق في العدد لا يرهبني. ومع ذلك صبرت على حماقته، ضبطت لساني وأنا أرد عليه: - لستُ وقحاً. حسّن ألفاظك. لو كنت لمحتكم قبل جلوسي إلى مائدتي، لحييتكم بأدب. لكن غيظ الشاب لم يفتر، بصق الشاب غيظه علي بازدراء: - ومتى كان الوقح، يدري أنه وقح؟ تشبثت بالِحلم، قلت: - يخيل إلي أنك من هواة المشاجرات. فتأهب خصمي للنهوض قائلاً: - تطيب لي مشاجرة من يقترف الوقاحة. وإذ ذاك فاض إنائي، فنهضت عن كرسيي مستعداً للوثوب عليه: - وأنا يطيب لي أن أحطم ساعد من تطيب له المشاجرات. فصاحت بنا الفتاة: - اعقلا! لا يسرني أن أراكما تتشاجران في خمارة كما يتشاجر الأرذال. ما لهذا جئنا إلى هذا المكان. فغاض ما طفح به إنائي فجأة، فسألتها: - فلأي شيء جئتم؟ أجابت الفتاة بلفظ متخيَّر: - قبل أن أخبرك عن سبب نزولنا، عليَّ أن أعتذر عن هفوة صديقي الطائشة. أرجوك، لا تؤاخذنا بطيش هفوته! صديقنا غيور عليّ. رأاك تختلس النظر إلي، فكرِهَ ذلك منك وعدّه وقاحة. - لا بأس، اعتذارك مقبول أيتها الجميلة. لو تعلمين كم أنت جميلة ! - أعلم ذلك، وأعلم أن الرجال لا يملكون أن يقاوموا شهوتهم إلى تملّي جمالي الآسر. ولاتظنّنْ أن ذلك يسوءني منهم. كلا، يسرني أن تستمتع أبصارهم بجمالي. فما فائدة الجمال إذا لم يدخل البهجة إلى الأبصار؟ الجمال كالمحبة يعطي... قاطعها خصمي الشاب الذي قام لي نافخاً عضلاته: - جمالكِ ملكي أنا. ولا يحق لغيري أن يستمتع بما أملك. لكن فتاته لم تغتبط بتعبيره الجلف عن امتلاكه جمالها، بل غضبت عليه. ضربت الطاولة ببدها تعبيراً عن غضبها: - لا تقاطعني. اسكت. أنت رجل أناني غيور غيرة حمقاء. عقلك صغير لا يدرك المعاني الباهرة البريئة التي تنضوي تحت مفهوم الجمال. ولدهشتي سكت الشاب كما يسكت كلب زجره صاحبه عن النباح على الغرباء، فتابعت الجميلة حديثها إلي بغنج استرخت له أوتار قلبي: - تريد معرفة السبب في نزولنا إلى المدينة؟ حسن، لن أضن عليك به. ولكن بشرط. - اشرطي عليّ. موافق. أبصم لك بالعشرة. - توافق على شرطي قبل أن تسمعني أنطق به؟! - أوافق قبل أن أسمعك تنطقين به. من كانت شبيهة في الملاحة بساندرا، لن تشترط عليّ شرطاً يبهظني. - ومن ساندرا؟ - صديقتي. - آا. وأين هي؟ - كان ينبغي أن تكون في زيارتي اليوم. - في بيتك؟ - أجل. - واو.. لك بيت، ولك صديقة تضارعني في جمالها، وهندامك أنيق، إذن فأنت ثري. - أيهمك أن أكون ثرياً؟ - لا يهمني شيء آخر سوى كونك ثرياً. - هل أفهم من ذلك أنني – وأنا الثري في تصورك - يتوجب عليّ أن أسدّد عنكم ، أنتم الثلاثة، فاتورة الحساب؟ - سابغ كرمك. ولكنا لم نجئ لهذا السبب البسيط. - ففيم جئتم؟ - للسطو. نحن عصابة مهمتها السطو بأموال الأثرياء. - إذن فهذا هو السبب في مجيئكم. - قد حزرت. - هههه. وإذ حزرت، يكون شرطك سقط عني. هل ستلزمينني الآن بشرطك وقد حزرت السبب في مجيئكم ؟ - فطين ! فطنتك ستسهل لنا تنفيذ مهمتنا. - السطو؟ - نعم. - على بنك؟ - لا، عليك أنت. - عليّ أنا ؟! ولكني لست ثرياً. - الفطين لا يقر أمام عصابة السطو بأنه ثري. - كلام موزون. ولكني أؤكد لك أنني لست ثرياً صالحاً لأن تسطو عليه عصابة. - تؤكد لي؟ ما معنى تؤكد لي؟ لست أنت الذي يؤكد ولا يؤكد. - فمن يؤكد؟ - نحن. - كيف؟ - لدينا وسائلنا الخاصة. - هل لك أن تذكريها لي؟ - أذكرها لك بشرط. - ثانية؟ ألا مجال للتفاهم بيننا دون شرط؟ - لم نعتد على أن نقدم شيئاً لأحد مجاناً. - طيب، ما شرطك؟ - تستضيفنا في بيتك ساعة. هل هذا كثير؟ - ليس كثيراً. أنا رجل مضياف، لكني قد أحذر بعض ضيوفي. - تخشى أن نسطو عليك؟ إذن فأنت ثري. وقد ادعيت قبل قليل أنك لست ثرياً. - لم أدّع. قلت الحقيقة. لست ثرياً ! - إن لم تكن ثرياً، فلماذا الحذر منك والخوف؟ - من فضلك! أنا لا أخاف أحداً. ولسوف أثبت لك أني لا أملك شيئاً يستحق أن يُسطا عليه. - أمنحك شهادة بالشجاعة. أنت رجل شجاع بالفعل. أعجبني منك أنك تأهبت للوثوب على عاشقي الجالس إلى جانبي دون تقدير منك لما قد ينالك من بأسه من تهشيم وتكسير. ورأيت عشيقها المذكور يدلق كأسه في حلقه دفعة واحدة، ويمسح على فمه، ويفتل شاربه كما يفعل القبضايات، وسمعته يهدر باحتقار: - أهذا رجل شجاع؟! أما الشاب الآخر فترك شوكة الطعام التي كان غرزها في قطعة من اللحم ورفعها إلى شدقه تسقط في صحنه وقال: - شاب متهور. هذا الذي ينبغي أن يقال فيه. من يتجاسر على أشداء مثلنا دون تقدير منه للعواقب، متهور طائش لا شجاع. - بل شجاع. أصرّت الفتاة على شهادتها، وعابت عليهما طريقتهما في التفكير: - هكذا أنتما. تفكران بعضلاتكما بدلاً من التفكير بعقلكما. ألا تعلمان أن كلَّ من يفكر بعضلاته دون عقله، خاسر بالضرورة؟ ماحكها عشيقها بعناد: - بل هو طائش متهور. فعبست الفتاة في وجهه، وتساءلت: - هل الذي يوافق على أن يستضيفنا في شقته لساعة، يستحق منك أن يُتَّهم بالطيش والتهور. حينذاك تداعى عناده، فتمتم بلهجة الصاغر للحق: - إن يكن قَبِل استضافتنا في شقته، فحقٌّ ألا يتهم بالطيش والتهور. غمزتني الجميلة بهدبها الكحيل الطويل غمزة سالت بإغراء وفتنة، فتمثّلت لي ساندرا، فهبت على روحي نشوةٌ حلَّقت بها إلى دوائر القمر المتسربلة بديباجة السعادة الوضيئة. سددت الحساب عني وعنهم بشعور من الفخر، ومنحت الساقية الجميلة علاوة. ثم مضينا إلى شقتي. في الطريق إليها تبادلنا، وكأننا أصدقاء قدامى ذاهبون إلى حفل بهيج، المجاملاتِ الودية على وقع الرعد ولمعان البرق. كانت الغيوم في السماء تكاثفت وبدأت ترعد وتبرق وتنذر بمطر غزير مدرار. صعدنا الدرج إلى شقتي الصغيرة في الطابق الثاني. فلما ضمتنا قالت الفتاة الجميلة، وهي تتفحص أثاثها وما حوت من مقتنيات بعينين لم يذهب بحسنهما بريق الجشع الملتمع فيهما: - صدقت. لستَ ثرياً، ومع ذلك فلن نستنكف من السطو بأشيائك القليلة الثمينة. ليس من عاداتنا أن نرجع بلا غنيمة. سألتها بسذاجة: - لماذا السطو، والسطو جريمة مذمومة يعاقب عليها القانون والضمير الحي؟ أجابت: - لغاية نبيلة. نأخذ منك ما ينبغي أن يكون لنا. إذ ليس من العدل أن تملك ونحن لا نملك. - ولكنكم، إذا أخذتم مني ما أملك، فستملكون ما كنت أملكه، وأنا لن أملك من بعد ذلك شيئاً. فأي عدالة؟ - مفهوم العدالة لديك مختلف عما هو عندنا. - أههّا.. أبات السطو عندكم عدالة؟ - ليس السطو عدالة، السطو وسيلتنا إلى تحقيقها. - ولكني لن أمكّنكم من السطو بشيء من أشيائي، ولو كان تافهاً لا قيمة له، القضية في مِلّتي قضية كرامة. وتحفزت كثعبان تهدده خطر. فقالت وهي تشير إلى الشابين بإشارة ذات مغزى: - لا أحد من الشجعان إلا ويفعل ذلك. ولكنك أعزل من السلاح، فما جدوى أن تفعله؟ هنا انتفض الشابان. استجابا في اللحظة للإشارة الغامضة التي صدرت عنها كما ينتفض بغلان تحت وقع سوط. شهر كل منهما مسدسه الذي استلّه من مكان خفي منه تحت ثيابه مباعداً بين قدميه كازّاً على أسنانه. فاجأني تصرفهما. ما توقعت أن يكونا مسلحين. أن يكون بحوزتهما سلاح أمرٌ ما لاح في ذهني. كيف فاتني ذلك؟ لماذا فاتني؟ لم أدرِ ! وإنما فيما بعد سأدرك أن اعتدادي بقوتي كان جردني من فضيلة الحذر، وجعلني أتهاون في تحسّب المفاجآت، وافتراض سائر الاحتمالات. ولم أجد بإزاء هذا الوضع الجديد المفاجئ بداً من أن أبتلع شجاعتي على قهر، وأظهر لهما استسلامي، همهمت: - بالرغم من أني شجاع، فإني لا أحب أن أضحي بحياتي من أجل الاحتفاظ بما أملك. حياتي أثمن مما أملك. تفهمت الفتاة همهمتي، وأثنت عليها، قالت: - بهذا تكون برهنت لي على أنك لست شجاعاً فقط، بل عاقلاً أيضاً. من أين لك هذا التعقل وأنت لست على شيء من الثقافة؟ لم أر كتاباً واحداً في شقتك ولا جريدة. - لا أقرأ الكتب. ساندرا تقرأ كثيراً . في بيتها مكتبة ضخمة تشتمل على عدد لا يحصى من الكتب. وما فرغتُ من كلامي حتى أظلم وجهها وقالت بلهجة آمرة رادعة: - فلنكف عن الهذر، ولنشرع في العمل ! لكني بالرغم من انبهاري بها، لم أستسغ لهجتها الرادعة. اعترضت عليها بقوة. - أوَتظنين أنني سأستسلم لكم بطيبة خاطر؟ فتساءلت الفتاة وابتسامة هازئة تتراقص على طرفي مبسمها: - وماذا في وسعك أن تفعل؟ - سألتقط صوركم، وأبلغ عنكم الشرطة. وغمست يدي في جيبي فأخرجتُ منه هاتفي لأصورهم، فهجم علي صديقها، فاختطف الجهاز من يدي، ثم وضع فوهة مسدسه على صدغي، وزأر: - سأقتلك كما أقتل كلباً شارداً مصاباً بداء الكلَب ، إذا صدرت منك ضوضأةٌ. وإذا أنا أضحك من قوله ضحكة بلهاء، وإذا أنا بعدها أتحداه قائلاً: - ما دام مسدسك مصوباً إلى صدغي، فلن تبدر مني ضوضأة. أبشر. بس، هل تجسر على قهري من دون سلاح؟ هيا حاول إن كنت رجلاً... - معتوه. - وأنت جبان. وقذفت صفة الجبن في وجهه بغلّ، ثم ألحقت بها قولي وأنا أغلي: - لو لم تكن مسلحاً لقطمت عنقك كما أقطم غصناً جافاً. فضغط بفوهة المسدس على صدغي، وقال: - أدري أنك كنت ستفعل ذلك، ولولا أننا أذكياء ما كنا احتطنا لأنفسنا بالسلاح من المتهورين النوكى من أمثالك. انتهرته الفتاة: - كفّ عن إغضابه. وكن لطيفاً معه ! ثم أمرته أن يبعد فوهة مسدسه عن صدغي. فأطاع الشاب عاشقها أمرَها. تراجع عني خطوة إلى الوراء. فتقدمت الفتاة مني وأمسكت بساعدي الأيسر، فعالجت ساعتي الثمينة. فكّتها عن معصمي وأخفتها في حقيبتها، ثم قالت ضاحكة بحلاوة وغنج: - أنا أشبه زوجتك. ولأني أشبهها، فسيسرك أن تقدمها لي هدية في هذه المناسبة السعيدة. بربرتُ: - لست متزوجاً - آا.. فهمت. وهزّت برأسها، فسألتها وأنا أجهد كي أبدو في حالة طبيعية: - وماذا فهمتِ؟ - لا تسلني. اسكت. لن يفيدك جوابي. يفيدك، وحسب، أن تقتنع أنّ ما سنأخذه منك الآنَ ليس انتزاعاً بالقوة. - فإن لم أقتنع؟ - لك ألا تقتنع، مع أن الاقتناع مفيد لك. - مفيد؟ فيم يفيدني؟ - إذا اقتنعت بأننا لا ننتزع منك أشياءك بالقوة، هدأت نفسك. وهدوء نفسك خير من جيشانها، أليس كذلك؟ - كلا ! لا تهدأ نفسي بانتزاع أشيائي مني. - ما دمت تعتقد أننا ننتزع أشياءك بالقوة، فإن نفسك لن تهدأ. فحاول أن تعتقد بأننا لا ننتزع أشياءك منك بالقوة. إنك حين ستعتقد بأننا لا ننتزع أشياءك منك بالقوة، فعندئذ لا بد من أن تهدأ نفسك. - تلعبون معي لعبة الأبالسة. تنتزعون مني أشيائي، فلا يكفيكم هذا، فتسعون إلى إقناعي بجمال صنيعكم علاوة على ذلك. يا لدهائكم ! أما أنا فلست ساذجاً إلى حد أن أقتنع بذلك. - نحن لا ننتزع شيئاً من أحد. صن لسانك عن الزلل. نحن نسترد حقاً لنا. - أفأنا من انتزع منكم حقكم؛ ليحق لكم أن تنتزعوه منه؟ أجابت الفتاة بلهجة أثقلها الضجر: - إنك تضيع وقتنا في اللجاجة والثرثرة الفارغة. دعنا من فضلك ننجز مهمتنا ونمضي مصحوبين بالسلامة والخير. - سلبتم مني ساعة بقيمة خمسة آلاف أويرو، ألا يغنيكم سلبها عن المزيد؟ - لا، نريد المزيد. هيا أخرج لنا ما بحوزتك. صمتُّ. لذتُ بالصمت. كظمت غلّي والعارَ الذي استشعرته من قهري بالصمت. لقد سكنتُ على فورةٍ كالبركان. لكنها عادت فألحَّت عليّ في الطلب: - ماذا تنتظر؟ يلَّلا، أرِنا ما بحوزتك؟ قد أزف الوقت لذلك. فلما نظرتني لا أحرّك ساكناً، هزتني من كتفي وغردت في أذني بمثل تغريد عصفورة الحب: - لا يسعك إلا أن تمتثل لأمري أيها الشجاع. أنت مجبر على الامتثال. والمجبر لا تثريب عليه ولا مهانة تلحق به. كرامتك مصونٌ عن كل ما يشينها، فلا تبتئس ولا تحرن ! حركني تغريدها، لا بسجعه وحسب، بل أيضاً بما انطوى عليه من حكمة. وإذا باب واسع كان موصداً يشرع على مصراعيه داخل عقلي بتأثير حكمتها ليفسح لي أن أتخذ قراراً بالامتثال لأمرها؛ ما كنت أحسب أني سأتخذه بلا عناد. همست لروحي، بمنطق يسعفها: ما دامت كرامتي محفوظة فلا معنى لأن أرفض الانصياع لأمرها، وأنا مقهور. ثم أنشأت أنقّب في جيوبي. وكانت ورقة اللوتو، أول ما اهتدت إليه يدي، فأخرجتها ورميت بها، قائلاً: - هذه الورقة هي كل ما بحوزتي. فخذيها هي لك. تهاوت الورقة ببطء وخمول كما تتهاوى ريشة طائر على الأرض أمام قدميها. فرفعت قدمها اليمنى وداست عليها، وقالت مؤنبة إياي بل غاضبة: - نسألك نقوداً.. ذهباً، جواهر ثمينة، فترمي في وجهنا ورقة بالية؟ ألا تدري بأنك بهذا الفعل البليد تستهين بكرامتنا، وتحملنا على إيذائك؟ أين محفظتك؟ قد رأيت محفظتك متخمة عن أوراق خضراء حين سددت الحساب عنا. - محفظتي في جيبي. - فإليّ بها. تمنّعتُ: - أيرضيك أن تجرديني من كل ما أملك؟ فكيف لي أن أعيش إلى نهاية الشهر بمحفظة خاوية؟ وظنت الفتاة أني أستعطفها، فردت: - لا تتمسكن وتظهر الضعف والوهن! لا أحب للهالة التي أحطتك بها أن يدكن لونها. أنت شجاع، وليس حسناً أن يلطِّخ الشجاعُ شجاعته بالمسكنة والوهن. فتشامخت وأنا أخرج لها محفظتي: - لا مراء في أني شجاع، قد قلت حقاً. فخذي محفظتي هي لك، ولسوف أتدبر أمري. وفي الحال شرعت الفتاة في الكشف عن محتويات محفظتي بأنامل مدربة. في نهاية الكشف، سحبت من المحفظة المبلغ المتبقي لي من بعد أن سددت حساب الخمارة، مائتين وخمسين أويرو، ودسَّته في محفظتها. ثم عادت فسحبت منها بطاقةَ الائتمان طالبة مني رقمها السري، فذكرته لها، وأنا أتأسف في قرارتي على الألف المتبقية لي من راتبي الشهري في حسابي الجاري في البنك. ثم أوعزت الجميلة إلى الشاب الآخر بتفتيش شقتي، فامتثل الشاب لإيعازها. ناولها مسدسه، ثم أخفى يديه في قفازين أخرجهما من جيب سترته، وراح يفتش شقتي تفتيشاً دقيقاً، ويبعثر الأشياء التي يفتشها على الأرض هنا وهناك. في خزانة الثياب عثر الشاب الموعز إليه على ثلاثة آلاف أويرو كنت ادخرتها من عملي الشاق، وقلادة من الذهب، كنت ابتعتها وقت أن هبط سعر الذهب، لأقدمها هدية لساندرا في عيد ميلادها القادم. وإذ انتهى من تفتيشه ألقى على اللِبتوب نظرة متأنية متفحصة. فلما رأى الشاب اللِبتوب حسناً جديداً خفيفاً، ضمه إلى أسلابه. وهدهدتني الجميلة الشبيهة بساندرا بنكتة تساقط منها تهكم موجع، وهي تودعني: - كنت شجاعاً عاقلاً وشهماً. هذه الصفات هي الصفات التي تعجبني من الرجال. فإذا تصادف أن زرتك يوماً، فسأجلب لك معي هدية جميلة لا تقل قيمتها عما انتزعناه منك بالتراضي. بالتراضي، أتسمعني؟ يجب أن يكون ما حدث بيننا بالتراضي، وإلا عُدَّ إذلالاً منا لرجل شجاع لا يهون عليّ أبداً أن يذل. ومشت بخطواتها الموزونة المغرية وردفيها الثقيلين المثيرين باتجاه الباب. فتبعها الشابان شاهرين سلاحهما ووجهاهما إلي. مسح الأخير منهما، وهو عاشقها، بمنديل أبيض قبضةَ الباب بعناية واحترافية، ثم انسل منه خلف الاثنين وصفقه بعنف كادت منه أركان شقتي ترتجُّ. وأنا إذ غادروا كصنم من حجر في حال من الجمود لا يريم. بقيت في مكاني غير قادر على أن أبرحه لأكثر من دقيقة. كنت أصغي، وظللت أصغي، وأنا في تلك الحال الزريّة المخجلة من الجمود إلى وقع أقدامهم على الدرج، حتى غاضت في بحر الصمت. فلما تمكَّنت من أن أنتشل قدمي من لصيق الجمود، خطوت نحو النافذة. وقفت أمامها أو خلفها أسرّح نظري التائه في ظلمة المساء ذات العويل. كانت السماء أطبقت على الأرض، وزلزل الوجود: رعد، برق، عصف ريح، ومطر غزير يسح مثل قصيدة تُسحُّ من شاعر هجَّاء فتقرع السمع بأعنف مفردات الهجو وأشدها إيلاماً. كل قطرة من المطر خلف زجاج نافذتي كانت تقرع روحي بالمهانة والخزي والمذلة. كيف لهذا الذي جرى لي أن يجري لي؟! أيَّ خطأ ارتكبت لأُمنى منه بشرّ هذه البلية؟ لقد خسرت مما أملك أنفَسه وأثمنه في غمضة عين. والخسارة مؤلمة، مؤلمة. قط ما كنت لأتعزَّى عنها، لولا أنها في آخر المطاف خسارة مادية تعويضُها بالنسبة إلي ليس من رابع المستحيلات. لكن الخسارة المعنوية، هي التي ناءت بها روحي. كيف لي - وأنا المصاب بفرط الحساسية - أن أعوضها؟ بم؟ كيف؟ كيف لي حتى لو أني عوضتها بشيء من التناسي أن أتفادى من عقابيلها؟ وغرقتُ في مستنقع من أحلك لحظات حياتي، حتى رنّ تليفوني. الساعة السابعة والنصف مساء. إنها ساندرا. وفي الحال علمت ساندرا بنباهتها وحسّها اليقظ أنني لست على ما يرام. فعجّلت فاستحلفتني أن أخبرها بما قد يكون ألمّ بي. لكني لم أستطع أن أخبرها بشيء مما ألمَّ بي. وربما كنت آثرت ألّا أخبرها بشيء مما ألمّ بي. التوسل كان الشيء الوحيد الذي استطعته. ما استطعت غير أن أتوسل إليها. توسلت إليها أن تستعير سيارة صديقتها آنوش وتأتي إلي لساعة واحدة من الزمن. وأكثرتُ من التوسل فازدادت مخاوفها. ومع ازدياد مخاوفها، تراخت ولانت صلابتها. قالت باستسلام: „ لا مندوحة لي عن الرضوخ. لدي الآن شعور صادق بأنك لست بخير، انتظرني أنا قادمة إليك". شهقت ساندرا في جزع، جحظت عيناها. ولثوان غطت فمها براحتها، ما إن فتحت الباب ورأت شقتي مقلوبة رأساً على عقب، ثم بملء صوتها: - يا إلهي، ما هذا الذي أرى؟! لا تقل لي إنك أنت الفاعل. أنت لا تفعل شيئاً قبيحاً منكراً كهذا الذي أرى. لا بد من أن شيئاً ما قد حدث. قل لي ما الذي حدث؟ ورمت من يدها واقية المطر، وخلعت معطفها المبلل ثم حذاءها ذا العنق الطويل، بعد أن سكّرت خلفها الباب. - لماذا أنت ساكت؟ أخبرني بما حدث، هيا... كنت قد زحفت بقدميّ من مكاني خلف النافذة إلى الصوفا واقتعدتها، ورأسي بين يدي مثل مفكر خانته أفكاره، فانتصبت على قدمي لحظة أن رأيتها تفتح الباب. عيناي تكحَّلتا برؤيتها فغالبت ما أصابني من سوداوية مقيتة على الفور، وعلى الفور أيضاً استرجعتُ الهارب الفارَّ من مشاعري الصافية المشرقة المتفائلة. ضممْتُها إلى صدري بشوق لاذع، استنشقت جسدها المعطر، لثمت خدها.. جيدها، لثمت... حتى اشتعلت رعونة الفحولة في دمي. لكني لم أتمادَ في رعونتي، ضبطتها بإرادة فولاذية، ثم قلت لها بصوت كالفحيح مهوّناً من سوء ما حدث، وأنا أدفعها برفق بذراعي المحيطة بخصرها للجلوس على الصوفا: - لا شيء يا عزيزتي، لا شيء. اطمئني ! ما حدث ليس جديراً باهتمامك. ثم جعلت أتضاحك وأنا أستخف بما حدث، حتى قلت لها: - قد يكون الشوق الجارف إليكِ، ألحّ عليّ في استدعائك بذريعة هذا الحدث التافه. إنه مكر مني. - ولكن ما الذي حدث؟ - لم يحدث شيء. - تخفي عني؟ - لا، أريد أنّ ما حدث كان بسيطاً للغاية إلى حد أنه تبخرت تفاصيله من ذاكرتي. - فليكن بسيطاً، ما الذي حدث؟ قل لي... - ألا مفرّ لي من إزعاجك بسرد حدث تافه؟ - لا مفر لك. يزعجني أن تفرّ من إزعاجي. مغلوباً على أمري، عاجزاً عن كتمان ما حدث، وصرف انتباهها عنه، تمتت في خفوت: - تعرفت بفتاة وشابين من جيلنا في الخمارة. دعوتهم لزيارتي، فإذا هم عصابة من عصابات السطو، وكان بحوزتهم سلاح ناري. هذا كل ما حدث. ألم أقل لك إنه حدث بسيط تافه لا يستحق منك اهتماماً. - رباه ! سرقوا منك ؟ ماذا سرقوا؟ - سرقوا مني مبلغاً من المال وساعتي واللِّبتوب. ولكنهم لم يتعرضوا لي بأشرَّ من السرقة. - وهل السرقة شرٌّ قليل؟ كيف حدث أن دعوت لزيارتك عدىً غرباء لا تعرفهم؟ - ساندرا، الفتاة تشبهك شبهاً بعيداً، حتى خلت أنها أنت. - تدعو إليك أشخاصاً مجهولين لأن بينهم فتاة تشبهني؟! ما كنتَ يوماً ساذجاً، فماذا عدا مما بدا؟ - لعلها الوحشة. - أوحشك غيابي عنك في هذا اليوم، فرحتَ تدعو غرباء ليسلّوك؟ إذن فأنا المذنبة؛ لأنني أوحشتك. - معاذ الله! ساندرا، ليس الأمر في جوهره كما ارتسم في خيالك. - فكيف هو، إن لم يكن كذلك؟ - الأمر في حقيقته أن شابين وفتاة تحدَّوني، فقبلت التحدي. هذا كل شيء يا حبيبتي. وما أظن أنك كنت ستزجرينني عن قبول تحديهم، لو أنك كنت موجودة معنا. هل كنت ستفعلين؟ - ولكنهم كانوا مسلحين. - لو كنت علمت أنهم مسلحون، لكنت تملَّصت من تحديهم بأسلوب آخر مراعياً بدهاء ألا يكون لتملصي من تحديهم أثرٌ يطعن برجولتي وكرامتي. حرَّرت ساندرا خصرها من ذراعي، ابتعدت عني كاسفة البال، ثم قالت: - ألم أحذّركَ من عدم الإكثار من الشراب؟ ولكنك أكثرت من الشراب. لا بأس ! قد انقضى الأمر. ما حدث حدث. والحمد لله على أنهم لم يشحّطوك بدمك. وشرعت ساندرا في إعادة النظام والترتيب إلى شقتي. فنهيتها عن ذلك، فلم تنتهِ. رجوتها أن تدع ذلك لي أنجزه غداً، فلم تكترث برجائي. وإذ لم تكترث به، انخرطت معها في العمل. وفيما هي تكنس الأرض بالمكنسة الكهربية، سقط نظرها على ورقة الحظ التي كنت رميتها أمام قدمي شبيهتها الفتاةِ الجميلة زعيمة عصابة السطو المسلحة، فأوقفت المكنسة عن الدوران، وانحنت على الورقة فأمسكتها من أحد أطرافها بحذر، وقربتها من عينيها، ثم هتفت: - مُسْتَمسَك، ها هو الدليل على الجريمة ! لا بد من أن يجد البوليس فيه، في هذه الورقة التي تخلفت عن العصابة أثراً يدل عليهم. فابتسمتُ وقلت لها في أسف ومرارة، إذ عزّ علي أن أخيّب أملاً لها في القبض على العصابة أشرق بين أحنائها: - الورقة لم تسقط عنهم. هي لي. اشتريتها بخمسة وعشرين أويرو من الكيوسك المجاور ودفعت بها إليهم، فاستحقروها وداسوا عليها. وكأنها استرابت بصدق قولي: - ولكنك لست من هواة اللوتو. - صدقتِ، إنها المرة الأولى. ما اشتريت قط ورقة قبل هذا اليوم العجيب. لا تكنسيها يا عزيزتي، خذيها. السحب الليلة في العاشرة. ومن يدري؟ فلعلنا نربح مبلغاً زهيداً يعوّضنا عما سطت به العصابة ! - سآخذها، وإن كنت لا أؤمن بالحظ. حظنا عاثر. تألمت من شكواها، فواسيتها بوعد: - سأبذل كل جهدي يا حبيبتي. سأقتِّر على نفسي كي أوفر لك مبلغاً يمكّنك من شراء السيارة التي تحلمين بها. أعدك بذلك. انتهرتني: - لا تقتر على نفسك من أجلي. ليست السيارة كلَّ ما أتوق إلى امتلاكه. ثم استأنفت: - على فكرة، سأحوّل لك غداً مبلغاً صغيراً على حسابك في البنك، كي تستعين به إلى نهاية الشهر. - لا تفعلي. ستسطو عليه العصابة. ليتك تزورينني غداً ومعك المبلغ ! - إذاً آتيك به غداً في تمام الساعة الثانية عشرة. وأرجو ألا تتمسك بي. - لن أعدك قبل أن أعلم السبب. - أنا وآنوش على موعد غداً مع صديقتنا ميلاني لمساعدتها في التحضير ليوم زفافها. تنهدتُ: - ونحن؟ متى سيشهد الناس زفافنا؟ تأملتني بنظرة طويلة وقالت: - تخطو في أمر الزواج خطوتين إلى الأمام، ثم تخطو بعد ذلك خطوتين إلى الوراء؛ أي تراوح مكانك، وتتساءل: متى سيشهد الناس زفافنا…! - ما كنت راوحتُ، لولا أمك. أمُّك هي السبب في مراوحتي. - لا شأن لأمي بزواجي. أمي ليست صاحبة القرار فيه. أنا صاحبة القرار. أفحمتني ساندرا. فلم أجد غير أن أغيّر الموضوع، وأتضرع إليها: - ساندرا، ألا يمكن أن تبيتي الليلة إلى جانبي بدلاً من مبيتك عند آنوش؟ ليتكِ بدَّلت مشيئتك! تبديل المشيئة ليس مما يعيب إذا كان لغاية نبيلة. وانفلت حبل لساني من يدي، فعبر دون تحفظ عن موقفي النفسي من صديقتها آنوش: - اعذريني، أحس آنوش صديقتك هذه دون الأخريات من صديقاتك، ثقيلةَ الظل والروح. لم تُسَرَّ ساندرا بدعوتي إياها إلى المبيت عندي، ولا سُرَّت بما قلته في صديقتها آنوش، بل إنها أنّبتني بقليل من الخشونة قائلة: - لا تهذِ، تماسك، لا يجمل بك حبيبي، أن تعود فتلحَّ علي من جديد بعد أن توضَّحت لك الأسباب. الحياة ليست يوماً وليلة. أما آنوش فصديقتي المقربة. وهي ليست ثقيلة الظل والروح إلا في إحساسك أنت؛ لأنك تغار منها، كأنها تنافسك فيّ. وغادرتني ساندرا، حال أن استتب كلُّ شيء في شقتي في مكانه ومستقره. ولم تمضِ دقائق على مغادرتها، حتى هاجمتني كآبة أشد ظلمة من الليل خلف نافذتي. رغبة جنونية أهاجتها الكآبة في حناياي أن أخرج ناشداً خمارة الحي ثانية، فأعكف على الخمرة انتقاماً حتى تتضعضع قواي وتخور، ويتلاشى شعوري بالخزي والمهانة. لكنّ عناصر الطبيعة الأعنف والأكثر هياجاً من رغبتي في الخارج، كبحتني عن الانصياع لرغبتي المدمرة. مقهوراً اندسست في فراشي في وقت متأخر جاوز الواحدة صباحاً، غير أني تقلبت في فراشي كثيراً ولم أنم. وضقت بالسهاد، فرفعت رأسي عن الوسادة، شغّلت التلفزيون، ورحت أتفرج على فيلم طويل صاخب يضج بالجرائم والأحداث العنيفة حتى أطبق النوم أجفاني. ولازمني النحس في يومي التالي أيضاً. لم تأتِ ساندرا في الساعة المحددة المتفق عليها. للمرة الثانية في تاريخ علاقتنا تخلف ساندرا موعداً لها. لكنها هاتفتني، قالت لي معتذرة: - أنا آسفة جداً جداً. في هذه المرة أيضاً لن أستطيع المجيء إليك. قد عرض لي أمر مفاجئ لم أكن أتوقعه، يحول دون مجيئي إليك. لولاه لكنت جئت إليك. على أني لم أنس المبلغ الذي وعدتك بإحضاره. تركته لك في البيت مع أمي، فاذهب إليها وخذه منها. سألتها والخيبة تظلل قلبي: - ما الأمر الذي داهمك فجأة؟ - سأخبرك به فيما بعد. المهم الآن أن تذهب إلى أمي لأخذ المبلغ الذي تركته لك عندها. بغيظ مكتوم خالفت ما رغبت به إلي: - لن أذهب إليها. سأقترض غداً مبلغاً من أحد زملائي في العمل. - لا تركب رأسك. اذهب إليها. - كأنك ترغمينني على الذهاب إليها. - أجل. - ولكني مستغن عن المبلغ. - ليس من أجل المبلغ فقط، أدعوك إلى الذهاب إليها. - فلأجل أي شيء آخر؟ - لدى أمي ما تسرُّ به إليك. - فوشوشيه لي أنت. أرجوك! لا تضطريني إلى الذهاب إليها. - أإلى هذه الدرجة تكره أمي؟ - لا أكرهها. أأكره البطن التي أنجبت لي أجمل وأحبَّ كائن في الوجود؟! - فما يمنعك من الذهاب إليها؟ موّهت الحقيقة عنها. لم أقل لها جواباً عن سؤالها بأن المانع ضيقُ صدر أمها بمحضري، بل قلت لها: - إنه الخمول. أمس لم أنم جيداً، وفي الأوقات التي نمت فيها تسلّطت علي كوابيس مخيفة. - الكوابيس تتأتّى من حالات نفسية. ما وقع لك البارحة بسبب إهمالك أثّر في نفسك تأثيراً سيئاً. - ربما. - بالتأكيد. - فليكن. فليكن بالتأكيد. وافقتها، لم أشأ أن أعارضها، ولا شئت أن أبدي لها أنَّ إخلافها علةُ ما وقع لي. ستظن ساندرا كما في المرة السابقة أنني بذلك أتهمها بأنها السبب المسؤول عما وقع لي. حاشاها ! فهي، وإن كان إخلافها علةَ ما وقع لي، منزَّهةٌ عن أن تكون السبب المسؤولَ عما وقع لي. ومرّت أيام الأسبوع ببطء شديد، سارت سير سلحفاة أناخ بها الهرم. كانت ساندرا تكلمني في كل يوم مرة أو مرتين كدأبها، ولكن بلا حماسة أو مرح كمن يؤدي واجباً ثقيلاً. حاولت بيني وبين نفسي أن أكتنه حقيقة هذا الفتور من جانبها، لكن اكتناه حقيقته أعيا عليّ، حتى جاء يوم السبت. في صباح يوم السبت تلقيت مكالمة منها. لم يسبق لساندرا أن هاتفتني في مثل هذا الوقت. قالت لي تبلغني بلهجة غريبة وبجمل متقطعة لاهثة متلاحقة لم آلفها منها: - صباح الورد! أنا الآن في المطار. سأطير بعد ساعة إلى فلوريدا إلى غير رجعة. ولن أعتذر إليك. لا تنتظر أن أعتذر إليك. ليس ثمة ما يدعوني إلى الاعتذار. سئمت الاعتذار. لكني قبل أن أودعك الوداع الأخير، أُلحُّ عليك إلحاحاً شديداً كوقدة القيظ في الذهاب إلى أمي. لدى أمي مفاجأة ضخمة سارة، سارةٌ جداً ستذهِب من نفسك وجدَك عليّ. أرجوك… دع العناد لمرة، واذهب إليها. وداعاَ ! خلتها تمازحني، فتساءلت ببراءة وخلو ذهن: - أهذا وقت المزاح ساندرا؟ لكن ساندرا كانت أقفلت هاتفها. ودارت بي الأرض، فارتميت على أريكة، وأنا أحاول جهدي بكل ما أملك من قوة الإرادة أن ألملم أشلاء وعيي المبعثرة، حتى أمكنني الجهد أخيراً من جمع بعض شتات وعيي، فنهضت إذ ذاك بوثبة عنيفة عازماً على الذهاب إلى أمها عزماً صادقاً لا تراجع عنه. برز لي وجهُ أمها من خصاص الباب قبل انفراجه عن آخره متألقاً مستبشراً. ولو لم أكن في حال انغلقت فيها كل النوافذ التي يمكن للدهشة أن تطلّ منها، لدهشت. كيف يتألق وجهها في يوم سفر ابنتها إلى بلد قد عزمت ألا تعود منه؟! وكيف تستبشر بزيارتي، وما عهدت منها أن تستبشر إذا جئت زائراً !؟ بيد أن استقبالها إياي بوجه متألق مستبشر، خفف عني بالرغم من كل شيء. قد يكون أوهمني أن ساندرا بخير، وأنها لم تكن جادة إذ أبلغتني بما أبلغتني به. وتقدمتني إلى غرفة الاستقبال التي لحظت من فوري أنها قد تمَّ تجديد أثاثها، فلما تهالكتُ على أول أريكة، وانكمش كياني بين أحضانها، صدح صوتها في أذني من عل: - تبدو حزيناً على فراق ساندرا. فسألتها وأمل رقيق يراوغ روحي: - أحق أنها سافرت؟ أجابت مستغربة: - ألم تخبرك ؟ قلت بدمدمة: - إذن فقد سافرت. - هو ذاك. - ولكن ما الذي حدا بها إلى أن تسافر على حين بغتة؟ - لديها أسبابها. تساءلت بضيق: - أما كان يجب أن تطلعني عليها؟ فصرّت ما بين عينيها، وقالت: - أنت صديقها، لست زوجها ليتوجب عليها أن تطلعك على كل أسرارها. - ولكن الذي بيني وبينها من حب وثقة عارمة وانسجام تام ونكران ذات، ألا يوجب ذلك؟ - لديك أفكار غريبة ولك تصرفات أشد غرابة منها. لكأنك من زمن مضى أو من زمن لم يأتِ بعد. أتدري ؟ أتدري لماذا كنتُ أتوجّس كلما حدثتني ساندرا في أمر زواجها منك؟ لستَ كفؤاً لها، وإن كنتَ مكتمل الرجولة حائزاً على خصال رفيعة تغري النساء بك. ساندرا ابنة عصرها. وقد أسعدني كثيراً أنها تفهمت هذه الحقيقة قبل فوات الآوان. وساندرا كانت لك صديقة لا مثيل لها بين الأصدقاء في الوفاء. ولمعت عيناها لمعاناً ساطعاً وانفرجت أساريرها: - أتعلم مقدار المبلغ الذي خصتك به؟ رفعت كتفي معبراً عن لا مبالاتي: - لا يهمني أن أعلم مقداره، فلقد استدنت مبلغاً يغنيني عما تركته لي ساندرا. - عن أي مبلغ تتحدث أيها الغافل؟ ساندرا خصتك بمليون أويرو. تركت لك عندي مليون أويرو، أتفهم معنى أن تمنحك ساندرا مليون أويرو؟ مليون أويرو ! ألا إنه مبلغ خرافي! أكنت يوماً تجرؤ على أن تحلم بحيازة مليون أويرو؟ وإن الفضل لساندرا، ليدها المباركة. لا ينبغي أن يغيب عنك هذا. ولكن ما لي أراك تحدّق إلي هكذا ؟! أوَتظن أنني أهذر وأخلّط من خبل أو حمى؟ ما بك؟ كفّ عن التحديق إلي. كأنك لا تصدق بي. ألا تصدق؟ حسناً، سأريك الآن ما كنت لا تجرؤ على أن تحلم به. انتظر. وانفتلت عني وأسرعتْ إلى غرفة المكتبة، ثم عادت وبيدها حقيبة جلدية. طرحت الحقيبة عند قدمي ثم ركعت وفتحتها. يا ألله! ما هذا الذي أرى؟ لا، لا .. أنا في حلم. لا شك في أنني أحلم. وسمعتها وأنا في بحران وذهول تصرخ فيّ وهي تضرب بقبضتها على ركبتي: - استيقظ. استيقظ. لا تدع وعيك ينزلق إلى غيبوبة. كل هذا لك. والفضل لها، لساندرا ابنتي. ساندرا ربحت الجائزة الكبرى. مائة مليون أويرو، وخصتك بمليون منها. أنت الآن من أثرياء المدينة. ساندرا لم تجحد صداقتكما، يا لوفاء ابنتي ... !
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هزيمة فنان مهاجر
-
الوجيز من حكاية الزوجة الضائعة
-
دوَّامةُ النّهرِ الكبير 12
-
الأخلاق بين فريدريش إنجلز ولودفيج فويرباخ
-
دوَّامةُ النّهرِ الكبير 11
-
منطقُ الجاحظ في ردِّه على النصارى
-
مُشادّة على مائدة الحوار المتمدن
-
دوَّامةُ النّهرِ الكبير 10
-
الوعي والحياة بين هيغل وماركس
-
مناظرة السيرافي والقُنَّائي
-
دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 9
-
البعد الفلسفي لفرضية الانفجار الأعظم
-
محاورة ملحد الكريتي
-
ثالوث الديالكتيك الماركسي
-
الطعن على رأي الأستاذ منير كريم في الديالكتيك والمادية
-
دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 8
-
الزمان بعداً رابعاً
-
سُلَّم الوجود
-
مشكلة النسبية
-
ميزتا التعليق والتصويت في صحيفة الحوار المتمدن
المزيد.....
-
لم تتحدث عن غزة.. ترجمة مُضللة لفيديو تايلور سويفت حول حرائق
...
-
7 أسباب وراء هيمنة الفنانات على المشهد الغنائي العالمي
-
جيمي لي كورتس -ملكة الصراخ- ونجمة سلسلة أفلام هالوين
-
ارتدادات سقوط الأسد تعصف بنقابة الفنانين في سوريا.. ما علاقة
...
-
اللسان الأروي.. قصة لغة تجمع بين العربية والتاميلية
-
احداث مشوقة.. مسلسل المتوحش الحلقة 51 مترجمة على تردد القنوا
...
-
الحلقة كاملة.. تابع مسلسل المتوحش الحلقة 51 مترجمة للعربية ب
...
-
اقبال لافت لاهالي الناصرية في العراق على مسرحية -قيامة الارض
...
-
بيلا حديد تشارك صورا مأساوية لمنزل طفولتها المدمر بحرائق لوس
...
-
-هآرتس-: الجيش الإسرائيلي يقر خططا للانسحاب من غزة
المزيد.....
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
المزيد.....
|