حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8219 - 2025 / 1 / 11 - 12:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
د.حمدي سيد محمد محمود
شهدت العلاقة بين علم الاستشراق والسياسة الدولية تطورًا معقدًا وملتبسًا على مدار القرون، بحيث تحولت من كونها مجرد محاولة أكاديمية لفهم الشرق إلى أداة استراتيجية تخدم أجندات القوى العظمى. لقد لعب الاستشراق دورًا محوريًا في صياغة التصورات الغربية عن العالم العربي والإسلامي، وهي تصورات لم تكن يومًا محايدة أو منفصلة عن السياقات السياسية والاقتصادية. فمنذ البدايات الأولى لهذا العلم، تداخلت الرغبة في المعرفة مع السعي للهيمنة، لتصبح الدراسات الاستشراقية رافدًا معرفيًا أساسيًا يُغذي سياسات الاستعمار والتوسع الإمبريالي، ثم أدوات التدخل والسيطرة في العصر الحديث.
لم يكن الشرق بالنسبة للغرب مجرد فضاء جغرافي أو ثقافي مختلف، بل كان "الآخر" الذي يجب إخضاعه، وإعادة تشكيله وفق رؤى الغرب ومصالحه. ومن هنا، ظهرت الصور النمطية التي صاغها المستشرقون عن العرب والمسلمين، والتي أصبحت جزءًا من البنية الفكرية والسياسية التي شرعنت الغزو العسكري، واستغلال الموارد، وفرض الأنظمة السياسية. هذا الفهم المشوه للشرق، الذي يُظهره على أنه متخلف، غريب، وغير قادر على إدارة شؤونه بنفسه، كان ولا يزال يشكل الخلفية الفكرية للعديد من السياسات الدولية تجاه العالم العربي والإسلامي.
ومع تعاقب الأزمان، تغيّرت أشكال الاستشراق، لكنه حافظ على جوهره كوسيلة للهيمنة. فقد تطور من استشراق كلاسيكي يخدم الاستعمار التقليدي إلى استشراق حديث يرتبط بالحرب الباردة، وصولاً إلى استشراق معاصر يتغلغل في السياسة الدولية من خلال توظيف التكنولوجيا والإعلام. واليوم، بات الاستشراق يُمارس بشكل أكثر تعقيدًا، حيث تتشابك الأكاديميا مع الاستخبارات، والثقافة مع الاقتصاد، في إطار سياسات عالمية تسعى للسيطرة على مقدرات العالم العربي والإسلامي.
إن هذه العلاقة المثيرة للجدل بين الاستشراق والسياسة الدولية تتجلى بوضوح في تعامل الغرب مع القضايا الكبرى في المنطقة العربية والإسلامية، من الصراعات الجيوسياسية، إلى الحروب الثقافية، وصولاً إلى التدخلات العسكرية والسياسية. وبالنظر إلى الواقع الراهن، نجد أن الخطاب الاستشراقي لا يزال حاضرًا بقوة، وإن كان قد ارتدى أقنعة جديدة تناسب العصر. فهو يُستخدم لتبرير الحروب تحت ذريعة "محاربة الإرهاب"، ولفرض سياسات التبعية الاقتصادية تحت شعار "الإصلاح والتنمية"، ولإعادة صياغة الهويات الثقافية بحجة "الحداثة والعولمة".
إن الحديث عن العلاقة بين علم الاستشراق والسياسة الدولية، مع التركيز على إسقاطاتها على العالم العربي والإسلامي، لا يعني فقط استدعاء الماضي وتحليل جذوره، بل يتطلب الغوص في الحاضر واستشراف المستقبل. فهذه العلاقة ليست مجرد صفحة من صفحات التاريخ، بل هي ديناميكية مستمرة تُعيد تشكيلها الأزمات العالمية، وتحولات موازين القوى، والصراعات الثقافية والحضارية. لذا، فإن فهم هذه العلاقة بشكل عميق ومستفيض يُعد ضرورة ملحة لكل من يسعى إلى فك شفرات السياسات الدولية تجاه المنطقة، والوقوف على أبعاد الهيمنة الفكرية والسياسية التي لا تزال تُملي على شعوب العالم العربي والإسلامي شروطها.
العلاقة بين علم الاستشراق والسياسة الدولية
العلاقة بين علم الاستشراق والسياسة الدولية معقدة ومتعددة الأبعاد، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي والإسلامي. علم الاستشراق، الذي يُعرّف بشكل عام بأنه دراسة الثقافات واللغات والمجتمعات الشرقية من قِبل الغربيين، ليس مجرد مجال أكاديمي محايد، بل هو مجال محمّل بالأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية التي تخدم مصالح القوى الغربية، خصوصاً في السياق الاستعماري وما بعد الاستعماري.
أولاً: الجذور التاريخية للاستشراق ودوافعه السياسية
الدوافع الدينية: بدأ الاستشراق كجزء من محاولة لفهم العالم الإسلامي من أجل الدفاع عن المسيحية، حيث كان للمبشرين والرهبان دور بارز في دراسة الإسلام واللغة العربية بهدف التبشير أو النقاش اللاهوتي.
الدوافع الاستعمارية: في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تزامن تطور الاستشراق مع التوسع الإمبريالي الأوروبي. سعى الاستشراق إلى فهم المجتمعات الشرقية من أجل السيطرة عليها. العلماء والمستشرقون كانوا غالبًا مستشارين للحكومات الاستعمارية، يقدمون رؤى ثقافية ولغوية تعزز السيطرة السياسية.
البُعد الاقتصادي: أسهم الاستشراق في تمكين القوى الاستعمارية من فهم الأسواق الشرقية واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية.
ثانياً: الاستشراق كأداة للهيمنة في السياسة الدولية
تصوير الشرق كـ"آخر": اعتمد المستشرقون على تصوير الشرق ككيان غريب، متخلف، وغير عقلاني، مما شرعن التدخل الغربي بحجة "تمدين" هذه المجتمعات.
التلاعب بالهوية والثقافة: أسهم الاستشراق في صياغة روايات تاريخية وثقافية مشوهة حول العالم العربي والإسلامي، مما عزز الصور النمطية السلبية، وساهم في فرض السياسات الغربية على المنطقة.
الدراسات الجيوسياسية: كانت الدراسات الاستشراقية حول العالم العربي والإسلامي تقدم للقوى الغربية معلومات حيوية عن الأنظمة السياسية، القبائل، والانقسامات الطائفية والعرقية، مما سهل استراتيجيات "فرّق تسد".
ثالثاً: الإسقاط على العالم العربي والإسلامي
حقبة الاستعمار:
استُخدمت نتائج الدراسات الاستشراقية لتبرير تقسيم العالم العربي والإسلامي (اتفاقية سايكس-بيكو مثالاً).
لعبت الأفكار الاستشراقية دورًا في بناء النظام السياسي للدول المستعمرة، بما يتناسب مع المصالح الغربية.
الحرب الباردة:
استمر الاستشراق في خدمة السياسة الدولية من خلال تقديم رؤى ثقافية ودينية تُفسر الديناميكيات الداخلية للعالم الإسلامي، مما أثر على صياغة سياسات الاحتواء أو التدخل.
ما بعد الحادي عشر من سبتمبر:
شهد العالم العربي والإسلامي تصاعدًا في الخطابات الاستشراقية التي تصوّر الإسلام كتهديد عالمي.
استُخدم هذا الخطاب لتبرير الحروب في العراق وأفغانستان، والتدخلات العسكرية والسياسية في دول أخرى.
رابعاً: الاستشراق الحديث والسياسة الدولية
الدراسات الأكاديمية كغطاء سياسي: لا تزال العديد من مراكز البحوث والدراسات في الغرب تركز على العالم الإسلامي من منظور أمني، بما يتماشى مع مصالح السياسة الخارجية.
الاستشراق الرقمي: مع تطور التكنولوجيا، ظهر استشراق جديد يعتمد على تحليل البيانات الضخمة ووسائل الإعلام لفهم وتوجيه الرأي العام في العالم العربي والإسلامي.
الاستشراق الثقافي والاقتصادي: تستخدم القوى الغربية الثقافة كأداة ناعمة للتأثير على المجتمعات الإسلامية، من خلال الترويج لنماذج اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة.
خامساً: نقد الاستشراق وتأثيره على السياسة الدولية
في كتابه الشهير الاستشراق (1978)، قدم إدوارد سعيد نقدًا لاذعًا للاستشراق، موضحًا كيف أن هذا الحقل الأكاديمي يخدم الهيمنة السياسية الغربية. وأشار إلى أن الاستشراق ليس مجرد دراسة علمية، بل هو منظومة معرفية سلطوية تهدف إلى تبرير السيطرة.
أصبحت العلاقة بين الاستشراق والسياسة الدولية واضحة في كيفية التعامل مع القضايا الحساسة في العالم العربي، مثل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث تُستخدم الدراسات الاستشراقية لتبرير السياسات الغربية.
سادساً: نحو فهم أكثر إنصافًا
دور المثقفين العرب والمسلمين: هناك حاجة إلى إنتاج معرفة بديلة عن الذات العربية والإسلامية، بعيدًا عن التصورات الاستشراقية.
التعاون الأكاديمي: يجب تعزيز التعاون بين الباحثين من الشرق والغرب لتحقيق فهم أعمق وأكثر توازنًا للعالم العربي والإسلامي.
التصدي للصور النمطية: من الضروري تطوير استراتيجيات إعلامية وثقافية تواجه الخطابات الاستشراقية وتبرز تنوع المجتمعات العربية والإسلامية.
مما سبق نكتشف أن العلاقة بين علم الاستشراق والسياسة الدولية علاقة وثيقة، تتداخل فيها المعرفة مع السلطة، والبحث العلمي مع الأجندات السياسية. يمثل العالم العربي والإسلامي نموذجًا بارزًا لاستغلال الاستشراق كأداة للسيطرة والتأثير. وللتغلب على تداعيات هذا الارتباط، يجب إعادة النظر في الخطابات السائدة وإنتاج معرفة تسهم في فهم حقيقي ومتوازن للمنطقة.
في ختام هذا البحث، تتجلى أمامنا حقيقة لا لبس فيها: العلاقة بين علم الاستشراق والسياسة الدولية ليست مجرد تفاعل أكاديمي بريء، بل هي جزء من مشروع أوسع يهدف إلى الهيمنة على العالم العربي والإسلامي، من خلال إنتاج خطاب معرفي يخدم المصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى. لقد كشف الاستشراق، منذ نشأته وحتى تطوراته المعاصرة، عن وجهه كأداة لتكريس الهيمنة الثقافية والسياسية، وتحويل "الشرق" إلى كيان خاضع ومُعاد تعريفه وفق معايير ومصالح "الغرب".
إن هذا التداخل بين المعرفة والسلطة، الذي أبرزه إدوارد سعيد في نقده للاستشراق، يعكس كيف تم توظيف الدراسات الشرقية لإعادة تشكيل هوية العالم العربي والإسلامي وتوجيه مصائره. فبدلاً من السعي إلى فهم حقيقي للمجتمعات الشرقية، كرّس الاستشراق نفسه لخدمة مشاريع الاستعمار، وتبرير التدخلات السياسية، وترسيخ الصور النمطية التي لا تزال تؤثر على تعامل القوى الغربية مع قضايا المنطقة.
وفي ظل التحولات الجيوسياسية الحالية، لا يمكننا أن نتجاهل الدور المستمر للاستشراق، وإن كان بأشكال جديدة تتماشى مع أدوات العصر الرقمي والإعلامي. فاليوم، تُستخدم تلك الأدوات لإعادة إنتاج الهيمنة بصور أكثر تعقيدًا، مما يستدعي من الشعوب العربية والإسلامية وقفة تأملية ناقدة لإعادة صياغة هويتها وموقعها في الساحة الدولية بعيدًا عن الاستلاب الثقافي والسياسي.
إن الوعي بهذه العلاقة المعقدة بين الاستشراق والسياسة الدولية يمثل الخطوة الأولى نحو استعادة زمام المبادرة، من خلال إنتاج خطاب معرفي مستقل قادر على مواجهة تلك التحديات. هذا الخطاب يجب أن يستند إلى فهم عميق لتراثنا الثقافي والحضاري، وتحليل موضوعي للعالم من حولنا، مع بناء جسور حقيقية للتفاهم مع الشعوب الأخرى بعيدًا عن هيمنة الأيديولوجيات الاستشراقية.
إنها دعوة صادقة لإعادة النظر في التاريخ، ليس فقط لفهم الماضي، ولكن أيضًا لصياغة مستقبل أكثر عدالة وإنصافًا للعالم العربي والإسلامي، بعيدًا عن هيمنة الخطابات التي طالما سعت إلى تشويهه وتقييده. ففي النهاية، يبقى التحدي الأكبر هو تحويل المعرفة إلى أداة للتحرر، لا وسيلة للهيمنة.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟