|
اختلال المعايير: استتفاه الكبائر واستعظام الصغائر
إبراهيم اليوسف
الحوار المتمدن-العدد: 8219 - 2025 / 1 / 11 - 01:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اختلال المعايير: استتفاه الكبائر واستعظام الصغائر
إبراهيم اليوسف بدهيّ ٌ أن ما يجري- الآن- في الوطن أمرٌ غريب ومثير للتساؤل. إذ هناك من يحاول تحويل البلد إلى سجن كبير من خلال فرض نمط تربية صارم، وكأننا أمام فتح جديد يتطلب جر الناس قسرًا إلى حظيرة مرسومة. وكلنا يعلم أنه على مدى مائة عام، فقد اعتاد السوريون على نمط حياتي معين لم يستطع حتى النظام الساقط فرض رؤيته عليهم، رغم قمعه الذي ملأ السجون ونشر الرعب والفساد وأفرغ البلاد من حريتها ومن ثم من أهلها. وما أن نسمع عن مقتلة هنا أو هناك، حتى يسوغ ذلك بالقول "إنها انتقامات فردية"، هذا ما سمعناه من آلة النظام في بدايات الثورة السورية، وكأن الأمر لا يستحق الوقوف عنده. لكن إذا كان مرتكبو هذه الجرائم ينتمون إلى السلطة، فهل يكفي تجاهل أفعالهم؟ لا، بل ينبغي تقديمهم فورًا إلى المحاكم. ومن بين ما نسمعه الحديث عن محاولات- وإن غير رسمية- لفرض الملابس النسائية - على سبيل المثال - بل وتداول فيديوهات الخروج إلى الشوارع لوعظ الناس، أو حتى مشهد تقديم المواعظ داخل البارات وكأن الجمهور لم يسمع بالدين من قبل - كلها ظواهر تعكس نمطًا جديدًا من التدخل في حياة الأفراد. إن كانت هذه التصرفات فردية كما يدّعى، فيجب تقديم مرتكبيها للمحاكمة. في المقابل، فإننا نؤيد تقديم كل من ارتكب أخطاء أو جرائم في العهود السابقة إلى القضاء العادل، لأن العدالة لا تعرف زمنًا أو استثناءً. إن تحويل الدين إلى وسيلة للوصاية على الناس يعكس ازدواجية عميقة في المعايير. كيف يمكن الجمع بين الدعوة إلى الأخلاق وبين فرضها بالقوة؟ هذه المفارقة تفتح الباب أمام شكوك حقيقية حول الأهداف الحقيقية وراء هذه السلوكيات. لا يمكن أن نضع الأخطاء العفوية التي تحدث في السياق الطبيعي في مرتبة واحدة مع الجرائم المنظمة التي تنتهك حقوق الأبرياء. أمام هاتين الظاهرتين، يظهر خلل واضح في معايير التقويم. إذ هناك فساد في الضمير، لوثة في العقل، وغياب العدالة في التعامل مع الأخطاء. الفارق كبير بين من يتستر على قاتل أو ينفذ جريمة، وبين من يضخم خطرًا غير واقع نتيجة تراكمات عقود من القمع والخوف في ظل البعث. إن التقويم السليم يجب أن ينطلق من معرفة السياق ودراسة الأسباب بموضوعية. هذا ليس تسويغًا للأخطاء، بل دعوة للتعامل معها بميزان العدالة والإنصاف، بعيدًا عن التسييس والمصالح الشخصية. ومن المعروف أنه في كل العهود، كان هناك من يواجه كل قلم نقدي بل أننا علمنا أن هناك من كان يصور المنشورات والمقالات المختلفة ليقدمها لأولياء الأمر بهدف التأليب ضد كتّابها. هذا المشهد لم يتغير، سواء في ظل النظام، أو المعارضة. لقد مارسنا النقد بضمائر يقظة في كل هذه السياقات. نقدنا النظام السابق، انتقدنا المعارضة، ووجهنا سهام النقد إلى الإدارة الذاتية أيضًا. آلاف المقالات وملايين المنشورات كشفت - من قبل أمثالنا - عن خلل هنا أو هناك، دون أن نهادن أو نسكت. ومن هنا، فإن التأليب على الناقدين هو مؤشر خطير يعكس غياب الشفافية وسوء النوايا. النقد البناء ليس عداءً، بل محاولة لتصحيح المسار. لذلك، فإن محاولات إسكات الأصوات الحرة ليست سوى انعكاس للخوف من مواجهة الحقائق. واليوم، تحديدًا، هناك من يهاجمنا لأننا ننقد الوضع الحالي. يبدو أن بعضهم يهيئون أنفسهم لمواطئ أقدام في السلطة من خلال إسكات أصوات النقد. لكننا، رغم كل ذلك، نرفض الصمت. لأن بإمكاننا أن نتجاهل، أن نساير، أو أن ننسحب، لكن الضمير الحي يفرض علينا جميعاً الاستمرار في كشف الحقائق، لأن الوقوف مع الحقيقة واجب لا يمكن التراجع عنه. إن الصمت أمام الأخطاء والجرائم هو خيانة للضمير ولحقوق مجتمعنا، بلدنا، والأجيال القادمة. كما أن النضال من أجل الحقيقة والعدالة لا يتطلب فقط الشجاعة، بل الإصرار على مواجهة التحديات مهما كانت الظروف. هذه هي مسؤوليتنا الأخلاقية والتاريخية. الاستمهال والإهمال من الملاحظ أن هناك خللاً في التعامل مع قضايا الحريات في الكثير من الأوقات، حيث يُطلب منا أحيانًا الاستمهال وإعطاء فرصة للآخرين، بحجة أنه يجب أن نكون أكثر صبرًا. لكن الحقيقة أن هذا الاستمهال يتحول في كثير من الأحيان إلى إهمال، أو حتى تواطؤ، في حالات تستدعي التدخل الفوري. الحريات ليست مسألة يمكن تأجيلها أو تجاهلها، فمراقبة أي خطأ أو تعد على الحقوق يجب أن يكون أمرًا محوريًا في مرحلة ما بعد انهيار أي نظام استبدادي. أما الانتقام، فيجب أن تبقى المحاكم هي الفيصل فيه، وليست يد العدالة الغائبة. وعندما نسمع بعض الأصوات تنادي بإمهال المنتقمين أو الجناة، ومنحهم الفرصة للقيام بأدوارهم، فقد يكون ذلك مقبولًا في حالات معينة، لكن مع مرور الوقت يتضح أن الكثير مما يتم قد يكون خاطئًا ومؤذيًا، خصوصًا عندما نلاحظ تكرار الوجوه ذاتها التي تولت المناصب ولم تقدم شيئًا ملموسًا. وهذا إنما يدل على أنه لا بد من النقد والمراجعة المستمرة. فالتساهل الزائد في البداية، ومن ثم الإهمال، يؤدي إلى بئس المآل وسوء الحال، حيث تصبح الفجوة بين الواقع والمأمول أكبر، ويمهد الطريق للمزيد من الأخطاء والفساد. صحيح أن السوريين، من فرط فرحتهم بزوال النظام المجرم السابق، ربما ظنوا أن هذا التغيير سيكون أبديًا فوق النقد، بعد أن عاشت أجيال منهم لم يروا سوى حكم آل الأسد، إلا أنه في مرحلة ما بعد السقوط، لابد لنا من تعلم فن النقد والمراجعة، بعيدًا عن تقديس الأشخاص، فالنقد هو السبيل لبناء مجتمع حر ومستدام.
#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بعد سقوط الأسد: إعادة قراءة المشهد السوري
-
بشار الأسد من بيت الأب إلى كرسي السلطة ومزارع المنفى
-
في توصيف القيادة المطلوبة: رؤية في ضوء التاريخ والواقع
-
التكاتف ضرورة في مواجهة التناقضات: دعوة إلى الكتابة بمسؤولية
...
-
الكرد السوريون وخياراتهم: واقع معقد وآفاق مفتوحة
-
ثقافة العنف بين إرث السلطة ودوامة الحرب2/2
-
تشكيل الحكومة المؤقتة: خيارات خاطئة وتحديات المصالحة والبناء
...
-
مفاهيم تُعيد إنتاج الاستبداد: قراءة نقدية في رؤى المرحلة
-
التطرف بأشكاله: حرب مفتوحة على الكُرد وبيان من 170 كاتباً-1
-
رسالة الأدباء والكتاب الكرد إلى السيد أحمد الشرع
-
رسالة الأدباء والكتاب الكرد إلى الشرع
-
الإرث الدموي في سوريا: كيف نعيد بناء المجتمع؟1/2
-
سوريا بين الماضي والحاضر: أي مستقبل نريد؟ في إطاراستعادة وطن
...
-
سوريا المتناثرة بين ثورتين: هل تحتاج كتابة الدستور ثلاث سنوا
...
-
صمت المثقف السوري: محاولة قراءة في موقف النخبة من التحولات ا
...
-
إنها مقومات حرب أهلية: مقدمات بغددة دمشق
-
السوريون والخطط الوهمية: سيرومات الوهم
-
دمشق الجديدة والمعادلة الصعبة
-
هل مات التوثيق الكتابي في زمن الصورة الإلكترونية؟
-
اللصوص يسرقون من اللصوص بوتين والأسد كمثالين
المزيد.....
-
لماذا استهدفت إدارة بايدن قطاع الطاقة الروسي بالعقوبات قبل ت
...
-
مصادر تكشف لـCNNعن خطة كندا للرد على ترامب إذا بدأ حربا تجار
...
-
مرئي بالعين المجردة.. ا?رض تشهد عرضا سماويا لن يتكرر!
-
Asus تعلن عن أحدث حواسبها المحمولة
-
دراسة تكشف حالة شائعة قد تضاعف خطر ضعف الانتصاب
-
Haval تصنع سيارات جديدة في روسيا
-
العثور على مقبرة تتزين جدرانها برسوم متحركة قديمة في القرم
-
فائدة شرب الماء على معدة فارغة صباحا
-
مصدران يكشفان لـCNN عن لقاء بين مارك زوكربيرغ وترامب في مار
...
-
فرنسا ترد على استبعاد فيدان أي دور لقواتها في سوريا
المزيد.....
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
المزيد.....
|