|
ثورة الشك ...
أحمد فاروق عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8218 - 2025 / 1 / 10 - 02:27
المحور:
الادب والفن
مع موسم الامتحانات في الكلية ، وبعد مرور اسبوع من بدءها ، ومع ضغط العمل المتواصل ، لم يعد لدي الانسان متسع من الوقت لمتابعة الشئون الجارية ، ولم يعد لديه طاقة نفسية او عقلية للاهتمام بأخبار وتطورات أغلبها مقبض ويبعث علي الكآبة ..
ففكرت ان آخذ اجازة من السياسة ومشاكلها ، ومن الاخبار المقبضة ، ومن التطورات التي تبعث علي الكآبة ، وان اذهب الي مجال اكثر رقة ، ويبعث في النفس الأمل ، ويعطي الانسان نوعا من الراحة والاسترخاء ، هو مجال الفنون ، وفن الغناء تحديدا.. كلمة وأداء ولحنا ...
وفي اوقات الراحة كتبت بعض الخواطر عن اغنيات احبها ، وقد اخترتها بالصدفة ، وليس بترتيب معين ، ربما لأنني استمعت اليها قريبا ، واخترت اغلبها مما لا يعرفه اغلب شباب اليوم ، فربما ساهم ذلك في القاء ضوء علي ناحية من الابداع لم يعرفوها او يستمعوا اليها ....
والموسيقي وفن الغناء من الفنون القديمة وجليلة الاثر عند مختلف الشعوب ، قديمها وحديثها ، وتراث الشعوب في الموسيقي هائل ومتنوع ، فلكل شعب ذوقه في الكلمة وفي موسيقاها ...
وقد عرف قدماء المصريين الموسيقي وكان لهم فيها تراث جليل ، وكذلك عرفتها مختلف الحضارات باتساع الدنيا ، وكان لكل واحدة تراثها الذي يمثل نفسيتها ونظرتها للحياة ، ويعبر عنها اكثر ربما من أي شئ آخر ...
وابن خلدون ــ عالم الاجتماع والسياسة والتاريخ الأكبر في كل الحضارة العربية الاسلامية ــ هناك فصل في مقدمته الخالدة بعنوان " صناعة الغناء " يقول فيه..
" ومازالت صناعة الغناء تتدرج الي ان كملت ايام بني العباس ، عند ابراهيم بن المهدي وابراهيم الموصلي وابنه اسحق ، وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ...
وكان للموصليين غلام اسمه زرياب ، اخذ عنهم الغناء فأجاد ، فصرفوه الي المغرب غيرة منه ، فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الاندلس ، فبالغ في تكرمته ، وركب للقاءه وأسني له الجوائز والاقطاعات والجرايات ، وأحله من دولته وندمائه بمكان ، فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه الي أزمان الطوائف ، وطما منها بأشبيلية بحر زاخر ، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها الي بلاد العدوة بإفريقية والمغرب "..
ويقول ابن خلدون في نهاية الفصل : " وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع ، لأنها كمالية ، في غير وظيفة من الوظائف الا وظيفة الفراغ والفرح ، وهي أيضا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه ، والله الخلاق العليم " ..
والجملة الاخيرة من كلام عالم الاسلام الاكبر عبد الرحمن بن خلدون معبرة ومؤثرة وحقيقية ، وهي التي يقول فيها " وهي ايضا ــ اي صناعة الغناء ــ اول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه ".. وحالنا اليوم ينطق تماما بصحة مقولة ابن خلدون ....
واخترت ان ابدأ بهرم الغناء العربي الأكبر وكوكبه المنير.. أم كلثوم ... وقصيدة ثورة الشك ...
فبما أننا نعيش في عصر الثورات ، الحقيقية منها والكاذبة ، الدموية منها والمزيفة ، فقد يكون مناسبا ان اتحدث عن ثورة أخري .. مكانها ليس الميادين وثوارها يهتفون، ولا رجالها يحملون السلاح وبه يقتلون ، ولكن هي ثورة ميدانها القلوب والنفوس والمشاعر ... هي ثورة الشك ...
وثورة الشك قصيدة غريبة ، تتحدث عن شك الرجل في حب المرأة التي يهواها ، وهو نوع او مجال كان من النادر ان يتناوله احد بالغناء في ذلك الوقت ... وام كلثوم بالذات ...
فهي السيدة التي غنت لمعاني دينية جليلة في قصائد مثل ولد الهدي ، وسلوا قلبي ، والي عرفات الله ، ونهج البردة ، وغنت للنيل قصيدة شوقي" من أي عهد في القري تتدفق" ، وغنت للوطن اغنيات جميلة ومؤثرة ، كما غنت للحب ومعانيه السامية في اغنيات مثل قصة حبي ، ودليلي احتار ، وقصة الامس ، وغلبت اصالح في روحي ، ويا طول عذابي ..وغيرهم.
فهل تأتي اليوم وتغني للخيانة وشكوكها القاتلة ؟!!
وقد كتب قصيدة ثورة الشك الامير السعودي عبد الله الفيصل ، وهو الابن البكر للملك فيصل بن عبد العزيز ، وقد تولي مناصب عالية في شبابه المبكر ، وكان ذلك في حياة جده الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود ، وهو اخو وزير الخارجية السعودي العتيد الأمير سعود الفيصل ...
وكان للأمير عبد الله الفيصل ولع بالرياضة ، فهو احد مؤسسي الدوري السعودي لكرة القدم ، والراعي الأهم للنادي الأهلي السعودي ، كما كانت له علاقة حميمة بالنادي الأهلي المصري ، وقام بدعمه ماديا، وانشأ في النادي الاهلي قاعة حديثة مغطاة ، سميت بوابة دخولها باسمه تكريما له ...
وغنت له ام كلثوم بعد ١٣ سنة من ثورة الشك قصيدة اكثر هدوء في معناها ، كما أنها أكثر جمالا ورقة وهي " من أجل عينيك عشقت الهوي " ولحن القصيدتين نفس الملحن ، وهو رياض السنباطي ...
وتعددت تفسيرات سبب كتابة الامير السعودي لقصيدة ثورة الشك .. والنقاد عموما في تناول الشعر والادب مدرستين :
ــ المدرسة الاولي ، هي التي تفصل بين ما يقوله الاديب او الشاعر وبين حياته الخاصة ، وتتعامل مع النص كشئ مكتمل ، وقائم بذاته ، يكاد لا يكون له علاقة بكاتبه ...
ــ والمدرسة الثانية ، هي التي تذهب الي ان كل ما يكتبه الشاعر او الاديب لابد ان يكون صدي لموقف او جزء من حياته ، وبالتالي ففهم حياة كاتب النص يستتبع فهم نصه فهما صحيحا..
وفي ضوء راي المدرسة الثانية ، فقد ذهب البعض الي ان سبب كتابة الامير عبد الله الفيصل لثورة الشك هو خيبة أمله فيمن أحبها ... وبالتالي فالقصيدة تقصدها هي ، والشك يحوم حول موقفها هي ..
ولكن بعض التفسيرات ذهبت الي مناطق اكثر خطورة..
فهناك من ذهب الي ان الامير السعودي كان يقصد ابنه عندما كتب قصيدة ثورة الشك ، واستندوا الي معاني في القصيدة ذاتها تقوي حجتهم، وهو رأي منتشر في الاوساط الشعبية العربية ممن يستمعون الي أم كلثوم...
وتقول القصة الشائعة ان الامير عبد الله الفيصل تزوج بعد وفاة زوجته الاولي بزوجة ثانية صغيرة السن ، وقد ساورته الشكوك في ابنه الشاب من زوجته المتوفاة ، واحتمال وجود علاقة عاطفية مع زوجته الجديدة ...
وانا لا اميل الي هذا الرأي ، فالأمير ــ كما تقول سيرة حياته المنشورة ــ ولد عام ١٩٢١ وكتب قصيدته في بداية الخمسينات ، حيث صدر ديون وحي الحرمان ــ وثورة الشك واحدة من قصائده ــ عام ١٩٥٣، فيكون عمر عبدالله الفيصل وقتها ٣٢ عاما ، وهو عمر من المستبعد ان يصبح فيه الرجل أبا لرجل او شاب مثله ..
ثم انه من غير المقنع ــ في حالة صحة ان الشاعر كتب قصيدته غيرة وشكا في ابنه ــ ان ينشرها في ديوان مطبوع ، ثم ــ الأكثر من ذلك ــ ان يعطيها لأكبر مطربات الشرق لتغنيها ، لتصبح بعدها قصة علي كل لسان ، وكل ذلك في بيئة صحراوية لها تقاليدها شديدة الخصوصية والصرامة في مثل هذه الاشياء ...
وقد ظلت ام كلثوم سنتين في إعداد القصيدة وقبل ان تنوي غناء ثورة الشك...
يقول الشاعر في مطلع قصيدته ، وهو الجزء الذي استند اليه من قال ان الامير يقصد ابنه :
أكاد أشك في نفسي لأني ...... أكاد أشك فيك وأنت مني يقول الناس إنك خنت عهدي ... ولم تحفظ هواي ولم تصني
ومعاني القصيدة توحي ان الامير ــ اذا صدقنا ان الشاعر صدي لحياته وليس مجرد كاتب لنص يحكم عليه من خارجه فقط ــ عاني معاناة شديدة في تجربته تلك .. يقول:
يكَّذب فيك كل الناس قلبي ... وتسمع فيك كل الناس أذني وكم طافت علىَّ ظلال شك ... أقضت مضجعي واستعبدتني
وبرغم تلك المعاناة يرفض ــ تعلقا بأمل كاذب ــ ان يصدق ما يسمعه.. يقول:
وما أنا بالمصدق فيك قولا .... ولكني شقيت بحسن ظني
ثم يستمر في حيرته اللي لا تنتهي :
كأني طاف بي ركب الليالي ... يحدث عنك في الدنيا وعني علي أني أغالط فيك سمعي ... وتبصر فيك غير الشك عيني
ومع الشك ومع المعاناة لا يستقر له قرار ، ولا يصل الي شئ ، ويصور معاناته الرهيبة في شكوكه قائلا:
تعذب في لهيب الشك روحي ... وتشقي بالظنون وبالتمني
وعندما لا يصل الي ما تطمئن اليه روحه ، وعندما يصل في تعبه الي النهاية ، يذهب الي الطرف الاخر راجيا ومستعطفا وسائلا ، وكله أمل ان يخيب ظنه :
أجبني إذ سألتك: هل صحيح .... حديث الناس ، خنت ؟ أم لم تخني ؟!
ولحساسية القصيدة غنتها ام كلثوم علي المسرح مرة واحدة فقط ، في حفلة ٤ ديسمبر ١٩٥٨، وهي المرة الوحيدة تقريبا التي تغني فيها ام كلثوم قصيدة ناجحة جماهيريا مرة واحدة في حفلاتها ، سواء داخل مصر ام خارجها ...
وفي عام ١٩٧١ غنت ام كلثوم مرة ثانية للأمير السعودي عبد الله الفيصل ، وكانت هذه المرة قصيدته الجميلة " من اجل عينيك عشقت الهوي " وقد غنتها اكثر من مرة في حفلاتها الشهرية في القاهرة ...
وثورة الشك قصيدة ذات خصوصية في كلامها ومعانيها ، وقد لحنها السنباطي لحنا بديعا ومؤثرا ومناسبا لكلمات واجواء القصيدة ، والسنباطي هو الرجل المعتمد لتلحين القصائد التي تغنيها ام كلثوم ، وكان غناء ام كلثوم لها كما هي العادة.. لا يحتاج الي اي تعليق ...
#أحمد_فاروق_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل الخطر من الداخل ... أم من الخارج ؟!
-
مصر ... وسوريا الجديدة .
-
أنور السادات ...
-
قنوات الاخوان ... وهل نحن خائفون مما حدث في سوريا ؟!
-
فصل جديد ...من قصة طويلة !!
-
محمد مرسي .. وأحمد الشرع !!
-
فيم واين اخطأ بشار الاسد بالضبط ؟!
-
اسئلة اليوم التالي ...
-
يوم حزين .. ويوم سعيد ...
-
هل ما حدث في سوريا ممكن الحدوث في مصر ؟!
-
هجمة مرتدة ..
-
جمال عبد الناصر .. والناصريون : أين الاختلاف ؟!
-
التزوير والتلاعب في الانتخابات الأمريكية..
-
لماذا يكره الاخوان المسلمين السعودية ويحبون تركيا ؟!!
-
فيتنام وفلسطين : اين الاتفاق .. واين الاختلاف ؟!
-
لماذا لا تدخل مصر الحرب ؟!
-
الي أين اخذت حماس القضية الفلسطينية ؟!!
-
لماذا أرادت النخبة الامريكية الحاكمة مجئ ترامب مرة أخري ؟!
-
الحزب السياسي في الحياة السياسية الأمريكية...
-
الحياة السرية لرؤساء أمريكا...
المزيد.....
-
تفاصيل جديدة في قضية -راست-
-
كوريا الشمالية.. اللغة الروسية لأول مرة في إعلان إصدار طوابع
...
-
ترامب -يحترم- رفض المحكمة تأجيل الحكم ضده بقضية الممثلة الإب
...
-
أكشن ودراما عربي ومصري “مش هتعرف تغمض عينك بجد ” تردد روتانا
...
-
مصر.. حقيقة فيديو سقوط محمد رمضان من على المسرح ودفاع نجيب س
...
-
فيلم -حقيبة سفر-.. الاختيار بين المقاومة والخيانة
-
رفض تعطيل الحكم على ترامب بقضية الممثلة الإباحية
-
الجزائر.. تبون يستحدث جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة العر
...
-
-الجحيم- يعطل ترشيحات الأوسكار.. -نيران- على أبواب هوليود
-
ترك بصمة كبيرة.. وفاة سيد الأغنية المغربية الزجلية (صور)
المزيد.....
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
المزيد.....
|